32/10/29


تحمیل
 كان الكلام في التقريب الثاني الذي حاصله أن تضاعف الوجوب لا ينافي الإخلاص بل يؤكّده .. وتقدّم بيان ما ذكره الشيخ الأنصاري (قده) في الاعتراض عليه وطرحنا احتمالاً في تفسير هذه العبارة وفي ضوئه يكون المراد أن الوجوب الاستيجاري الناشئ من الإجارة حيث إنه يدعو إلى الإخلاص - لكونه يدعو إلى متعلّقه - فلا يكون منافياً للإخلاص المعتبر في العبادة بل يكون مؤكداً له .
 ويمكن الجواب عنه بأن المعنى المذكور [1] وإن كان صحيحاً إلا أنه لا يدفع الإشكال وذلك لأنه [2] ليس واقعاً في طبيعة العلاقة بين الوجوب الاستيجاري والوجوب المتعلّق بها وأنه هل هناك منافاة بينهما أو لا حتى يقال بأن الوجوب الاستيجاري لا ينافي الوجوب الذي يَشترط الإخلاص بل يؤكّده ، وإنما الإشكال في قضية واضحة وهي أن الأجير غالباً إن لم يكن دائماً - يأتي بالفعل بقصد العوض فكيف يمكن الجمع بين هذا القصد واشتراط الإخلاص والتقرّب بهذا الفعل ؟! فهذا الإشكال لا يُحلّه القول بأن الوجوب الاستيجاري الناشئ من الإجارة يدعو إلى الإخلاص لأنه ليس ثمّة ملازمة بين داعوية الوجوب الاستيجاري إلى الإخلاص وتحقق الإخلاص من الأجير خارجاً فإن من يقصد العوض لا يتمكّن من أن يقصد الإخلاص بل حتى لو تمكّن بشكل مّا فسيحصل هناك تشريك في الداعي فلا يُمكنه الإتيان بالعبادة قربة إليه تعالى محضاً فالغرض المادي قادح في العبادية المعتبرة في العبادات .. فالنتيجة أن الإشكال السابق لا يمكن دفعه بما ذكر (قده) .
 التقريب الثالث : ما يظهر من كلمات السيد الطباطبائي صاحب العروة (قده) في حاشيته على المكاسب وخلاصته أنه بعد فرض التنزُّل عن أن الأجير لا يمكنه الإتيان بالعبادة بقصد امتثال أمرها لأجل المنافاة المدّعاة بين الوجوب وقصد الأجرة فيمكن تصحيح العبادة المستأجَر عليها بقصد امتثال الأمر الاستيجاري وهذا كافٍ في تصحيحها لأن المهم في هذا الأمر هو قصد امتثال الإرادة الإلهية ومن الواضح أنه لا فرق في هذا بين قصد امتثال الوجوب الأصلي المتعلّق بالعبادة [3] والوجوب الحاصل من الإجارة المتعلّق أيضاً بالعبادة نفسها فهذا الأخير يكفي في تصحيح عبادية العبادة ولا يتوقف الحلّ على خصوص الأول .
 وتوضيحه - كما أشار (قده) إليه - أن الوجوب الاستيجاري وإن كان أمراً توصّلياً يتحقّق الغرض منه بالإتيان بمتعلّقه ولو من دون قصد امتثاله لكن الأمر التوصّلي لا يعني عدم إمكان قصد امتثاله لأنه ليس المقصود بالعبادة خصوص ما يُعتبر في أصله قصد التقرّب بل الأمر العبادي أعمّ من هذا وممّا إذا أتى المكلّف بمتعلّقه قاصداً امتثال أمره كان عبادة .
 إذاً فالأمر التوصّلي يمكن أن يكون موجباً لعبادية متعلّقه وإن كان قصد امتثال الأمر ليس شرطاً فيه فحينئذ يمكن تصحيح العبادة بقصد امتثال الأمر الاستيجاري الذي هو - كما ذكرنا - أمر شرعي إلهي حينما يأتي بقصد امتثاله يكون متقرّباً حينئذ إلى الله تعالى .. وبهذا البيان ينحلّ الإشكال في قصد امتثال الأمر الوجوبي الأصلي المتعلّق بالفعل - على فُرض وجوده - .
 ويُلاحظ على ما تقدّم :
 أولاً : إن غاية ما يَثبت به هو إمكان أن يقصد المكلّف المستأجَر على العبادة امتثالَ الأمر الاستيجاري لا أن كل أجير بالفعل هو يقصد امتثال الأمر الاستيجاري .
 وبعبارة أخرى : أنه لو سُلّم التقريب المتقدّم إلا أنه لا يكون مسلّماً إلا في خصوص الأجير الذي يقصد بالفعل امتثال الأمر الاستيجاري ، وأما ما في الواقع فهو بخلاف هذا فإن أغلب الناس يقصدون العوض والأجرة فهذا الوجه لا يفي بتصحيح عبادات هؤلاء .
 وثانياً : إنه بعد فرض تعذّر قصد امتثال الأمر المتعلّق بالعبادة فإنه يثبت أيضاً تعذّر قصد امتثال الأمر الاستيجاري بالنكتة نفسها التي ثبت بها تعذّر الأول إذ لا فرق بينهما في تلك الجهة بمعنى أن المنافاة المدّعاة بين امتثال الأمر الوجوبي المتعلّق بالعبادة وقصد العوض والأجرة تجري بنفسها في قصد امتثال الأمر الاستيجاري فإننا نتمكّن من أن نقول بأن هذا الأجير لا يستطيع أن يقصد امتثال الأمر الاستيجاري لأن من يقصد العوض والأجرة على الفعل لا يتمكّن من أن يأتي بالفعل تقرّباً لله سبحانه وتعالى فصحيح أن الأمر التوصّلي يُمكن للإنسان أن يأتي بمتعلّقه قاصداً امتثال أمره فيقع عبادة إلا أنه لا يمكن الجمع بين قصد امتثال الأمر التوصّلي تقرّباً إليه تعالى وقصد العوض والأجرة وعلى فرض إمكان ذلك فهو يضرّ بالعبادية المعتبرة فلا يكون الفعل عبادة .
 فإذاً لا يندفع الإشكال بنقل طرف المنافاة من الوجوب الأصلي المتعلّق بالعبادة إلى الوجوب الاستيجاري الناشئ من ناحية الإجارة فإن كلاًّ منهما أمر إلهي وشرعي .
 وثالثاً : إن تصحيح الإجارة بالوجوب الاستيجاري المتعلّق بها لا يخلو من شبهة الدور فإن صحة الإجارة ستتوقف حينئذ على قصد امتثال الوجوب الاستيجاري والحال أن الوجوب الاستيجاري موقوف على صحة متعلّقه وهو الإجارة لأن الوجوب الاستيجاري هو من موارد كبرى (أوفوا بالعقود) وهي لا تشمل الإجارة الباطلة قطعاً بل هي في مرتبة تالية على كون العقد صحيحاً فلا بد من فرض كون عقد الإجارة صحيحاً لكي يتوجّه الأمر التكليفي [4] بالوفاء به .
 والحاصل أن الوجوب الاستيجاري موقوف على صحة الإجارة [5] فلو توقّفت صحة الإجارة عليه كما هو مقتضى هذا التقريب - لزم الدور .. فالنتيجة أنه لا يمكن تصحيح الإجارة بقصد امتثال الوجوب الاستيجاري المتعلّق بها .
 
 


[1] وهو كون الوجوب الاستيجاري يدعو إلى الإخلاص .
[2] أي الإشكال .
[3] هذا باعتبار أن محلّ الكلام أعمّ من أن يكون قد استؤجر على أن يقضي عن غيره الواجبات العبادية المتعلّقة بذمته أو يؤدي هو عن نفسه ما كان واجباً بحقّه كصلاة الظهر التي دخل وقتها الآن .
[4] الذي هو الوجوب الاستيجاري .
[5] بمقتضى دليل (أوفوا بالعقود) حيث إن توجّه الأمر بالوفاء بالعقد الذي هو الوجوب الاستيجاري في عقد الإجارة - فرع كون العقد صحيحاً فهو موقوف عليه .