32/11/24


تحمیل
  (بحث يوم الأحد 24 ذ ق 1432 ه)
 انتهى الكلام في البحث السابق إلى أنه لا يكفي لجواز تولّي القضاء لغير المجتهد وكذا جواز الإذن له في ذلك مجرد أن لا يكون هناك دليل على عدم صلاحيته لذلك بل الأمر يتوقّف على إثبات هذه الصلاحية فلا بد من إقامة الدليل على أن غير المجتهد أهلٌ لفصل الخصومة وتولّي القضاء فحينئذ يقال إن المجتهد من حقّه أن يأذن له في ذلك أي أنه بعد فرض الأهلية فلا مانع من افتراض الإذن تمسّكاً بعمومات أدلة ولاية الفقيه لأن القضاء يحتاج إلى إذن ولا يكفي في نفوذ حكم القاضي غير المجتهد مجرد كون الآذن صالحاً بنفسه لتولّي القضاء بأن يكون مجتهداً [1] فإذا أقمنا الدليل على أهلية غير المجتهد لفصل الخصومات فحينئذ نقول إن المجتهد يجوز له بعمومات أدلة ولاية الفقيه أن يأذن لغيره ممن ليس مجتهداً في تولّي القضاء وفصل الخصومات فالمهم إذاً هو إقامة الدليل على صلاحية غير المجتهد لتولّي القضاء وحينئذ يقال بأنّا لا نملك الدليل على هذه الصلاحية وذلك لأن الأدلة المتوافرة في البين هي إما المقبولة وما ماثلها من أدلة نصب القاضي أو ما ذُكر من نصب القضاة في زمان النبي والوصي (صلوات الله عليهما وآلهما) :
 أما المقبولة فليست فيها دلالة على صلاحية غير المجتهد لتولّي القضاء لأنها إن كانت ناظرة إلى منصب القضاء كما استقربناه فحينئذ تكون ساكتة عن مسألة فصل الخصومات وتولي القضاء وتدلّ حينئذ على عدم صلاحية غير المجتهد لمنصب القضاء وأما صلاحيته لنفس القضاء وفصل الخصومة في واقعة معيّنة من دون تولّي منصب القضاء فالرواية لا يمكن أن يُستفاد منها عدم صلاحيته له - كما لا يُستفاد منها أيضاً صلاحيته له - ، وإن ناقشنا في ما تقدّم وقلنا إنها ناظرة إلى نفس القضاء وفصل الخصومة فتدلّ حينئذ على عدم صلاحية غير المجتهد لأصل القضاء .
 إذاً فالرواية على كلا التقديرين لا يُستفاد منها صلاحية غير المجتهد لتولّي القضاء فلا تنفع دليلاً في المقام .
 وأما بالنسبة إلى نصب القضاة في زمان النبي وفي زمان الإمام (عليه السلام) حيث يقال إنه لا إشكال في أن النبي (صلى الله عليه وآله) نصب القضاة وكذلك فعل الوصي (عليه السلام) في مختلف البلدان حيث إن الرقعة الجغرافية التي كانت عليها الدولة الإسلامية في زمان الإمام (عليه السلام) كانت واسعة جداً وهؤلاء القضاة المنصوبون من قبله (عليه السلام) ليسوا مجتهدين بطبيعة الحال فيكون هذا دليلاً على صلاحية غير المجتهد لا لتولي القضاء وفصل الخصومة فحسب بل لتولّي منصب القضاء أيضاً فيكون هذا دليلاً مخرجاً عن الأصل في الموردين معاً [2] فيتبيّن على هذا أن الاجتهاد ليس شرطاً فيهما فهذا الدليل - لو تمّ - يكون بظاهره منافياً لمفاد المقبولة لأن ظاهرها اشتراط الاجتهاد في منصب القضاء في حين أن هذا النصّ لو قيل بتمامية مقدماته يؤدّي إلى عدم اشتراط الاجتهاد لتولي هذا المنصب ولذا حاول بعضهم الجمع بينهما بحمل النصّ على التقية وبعض آخر بحمله على الضرورة بدعوى أنهما [3] يُبيحان التنازل عن شرط معتبر في منصب القضاء وهو الاجتهاد .
 هذا .. ولكن يمكن الجمع بين الدليلين بكون النصب في المقبولة قد صدر من الإمام الصادق (عليه السلام) بإعمال ولايته حيث تقدّم سابقاً أن النصب لم يكن حكماً إلهياً ثابتاً في الواقع وإنما هو حكم ولائي حصل بإعمال الإمام (عليه السلام) لولايته طبقاً لإدراك المصلحة في تنظيم شؤون الشيعة فنصب من كان واجداً لتلك الصفات قاضياً وأمر الشيعة بالرجوع إليه لحلّ الخصومات ويُستفاد هذا - كما تقدّم - من قوله (عليه السلام) في الرواية : (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) وفي رواية أخرى (قد جعلته عليكم قاضياً) ولازم كونه كذلك [4] هو أن الاجتهاد ليس شرطاً مقرّراً في الشريعة في تولّي هذا المنصب وإنما هو متروك للإمام طبقاً لإدراك المصلحة والإمام (عليه السلام) أدرك المصلحة فاشترط الاجتهاد في تولّي هذا المنصب وأما قبل ذلك فلم تكن هذه المصلحة موجودة فلذا نصب النبي والوصي (صلوات الله عليهما وآلهما) القضاة غير المجتهدين في البلدان ، نعم .. هذا الحكم الولائي الصادر من الإمام الصادق (عليه السلام) يبقى نافذ المفعول إلى يومنا هذا لعدم وجود ما يرفعه إذ لم يصدر من إمام متأخّر عن الإمام الصادق (عليه السلام) رفع هذا النصب .. إذاً في زماننا لا بد من أن نلتزم بهذا الحكم الولائي ونقول إن منصب القضاء لا يتسنّمه إلا المجتهد فلا منافاة على هذا بين نصب القضاة غير المجتهدين في الأماكن المختلفة من قبل النبي ووصيه (صلوات الله عليهما وآلهما) وهذا الحكم الولائي الصادر من الإمام الصادق (عليه السلام) فيُحلّ التنافي بهذا من غير حاجة إلى إقحام مسألة التقية - التي هي بعيدة لاسيما في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) أو الضرورة ، نعم .. لو كان الحكم الصادر من الإمام الصادق (عليه السلام) حكما إلهياً كسائر الأحكام الشرعية الثابتة في الواقع والتي أخبر الإمام (عليه السلام) عنها فيتحقّق التنافي حينئذ فنضطرّ إلى حمله على التقية أو الضرورة .
 نعم .. لو بقينا وهذا الدليل ولم ترد رواية عمر بن حنظلة التي تتحدث عن نصب الإمام (عليه السلام) للقضاة لالتزمنا بعدم اشتراط الاجتهاد حتى في منصب القضاء ولكن لمّا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه أعمل ولايته واشترط الاجتهاد في منصب القضاء فلا بد من الالتزام به وهو ساري المفعول إلى زماننا فيلزم أن نشترط الاجتهاد في تولّي المنصب ، وأما ممارسة القضاء وفصل الخصومة في واقعة جزئية - مثلاً من دون استلام منصب فلا دليل على اشتراط الاجتهاد فيها لا بحكم واقعي ولا بحكم ولائي فيبقى على الجواز استناداً إلى نصب النبي والوصي القضاة غير المجتهدين لتولّي القضاء الذي يُعبّر عن كون الاجتهاد ليس شرطاً في نفس القضاء وفصل الخصومة وهذا دليل على صلاحية غير المجتهد لذلك .
 هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام تقريب دلالة هذا النصب على جواز تولّي غير المجتهد للقضاء وبالتالي إمكان أن يأذن المجتهد له في ذلك .. إلا أن الكلام في تمامية هذا الدليل فنقول :
 أما مسألة نصبهما (صلوات الله عليهما وآلهما) للقضاة فهي قضية مسلّمة وغير قابلة للتشكيك فإنه لا يمكن إنكار أن النبي (صلى الله عليه وآله) نصب قضاة في أماكن مختلفة كما هو المنقول عن قضية معاذ بن جبل ونصبه قاضياً في اليمن وكذلك الإمام (عليه السلام) قطعاً لأن القضاء من أهمّ الأمور التي ينبغي الاعتناء بها .
 ولكن المقدمة الثانية [5] محلّ تأمّل وإشكال فإنه يمكن أن يقال بإمكان كونهم مجتهدين فإن القضاة المنصوبين في ذلك الزمان كانوا يحكمون بما سمعوه من النبي أو الوصي ولو بالواسطة وكانوا يتعلّمون قواعد باب القضاء وأحكامه فيحكمون بها في ضوء ذلك ولكن كان يُترك لهم أمر تطبيق تلك القواعد على مواردها وتشخيص صغرياتها إذ لا يمكن مراجعة النبي أو الإمام (عليهما السلام) في ذلك ، ولا مجال في هذه القواعد الكلية للاجتهاد وإعمال النظر لأنها قواعد جاهزة وواضحة قد تُلقّيت من المعصوم (عليه السلام) ولم يُفترض في المقام أن لديهم أدلة يستنبطونها منها ليكون للنظر واختلاف الرأي فيها مجال فدور القضاة المنصوبين إذاً إنما هو تطبيق تلك الكبريات على صغرياتها وترتيب الأحكام على موضوعاتها وتشخيص الموضوعات ففي صورة دعوى الزوجة - مثلاً بامتناع زوجها عن الإنفاق عليها مع كون ظاهر الحال خلاف ذلك يستحضرون ما سمعوه من الإمام (عليه السلام) من أن الزوج الممتنع عن الإنفاق على زوجته يُجبَر على الإنفاق عليها وأن البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر وأن الشاهد يجب أن يشهد عن حسّ لا عن حدس فيطالبون الزوجة حينئذ بالبيّنة لأنها المدّعية مع كون ظاهر الحال خلاف ما تدّعيه وأنه يلزم في شهادة بيّنتها أن تكون حسّية فإذا تمّت هذه الأمور حكموا بإجبار الزوج على الإنفاق عليها وبيّنوا كيفية هذا الإنفاق وهكذا الحال في الموارد الأخرى .. وهل يصحّ أن يُسمّى مثل هذا اجتهاداً ؟
 يمكن دعوى كونه نوعاً من أنواع الاجتهاد لأنه لا يخلو من إعمال النظر ولو في ذلك الدور المذكور [6] ، ويؤيّده رواية منقولة في كتب العامة عن كيفية تعيين معاذ بن جبل قاضياً على اليمن [7] جاء فيها بعد فرض عدم وجود حكم المسألة في كتاب الله ولا في سنة رسوله (صلى الله عليه وآله) بحسب الرواية قولُ معاذ : (أقضي بكتاب الله) وقوله بعد فرض عدم وجدان الحكم فيه : (فبسنة رسول الله) وقوله بعد فرض عدم وجدان الحكم فيها أيضاً : (أجتهد رأيي ولا آلو) يعني يقضي بما يفهمه من كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) وهذا هو الاجتهاد غاية الأمر أنه في ذلك الزمان كان قضية سهلة للقطع الصدوري والوضوح الدلالي فليس هناك ظهورات متعددة كما أنه ليس لديهم مشكلة في استظهار المعنى من النصّ فما يقومون به إذاً اجتهاد ولكن في صورته البدائية اليسيرة بخلاف ما تلاه من الأزمنة حيث ازداد صعوبة بتقادم الزمان والبعد عن النصّ ، ومن الصعب بمكان تسمية ذلك تقليداً وأن القضاة المنصوبين كانوا مقلّدة .
 وكيف كان فلا إشكال في كون ذلك اجتهاداً بمعنىً من المعاني وكونه كافياً لممارسة القضاء وحلّ الخصومة فيكون موضوع الدليل المتضمّن لنصب القضاة من قبل النبي ووصيّه (عليهما السلام) على هذا هو المجتهد ولا أقل من احتماله فلا يسعنا حينئذ الاستدلال به على صلاحية غير المجتهد أو قل المقلّد [8] لتولّي القضاء .
 فتحصّل من جميع ما تقدّم أن المقبولة إن لم تكن دليلاً على عدم صلاحية غير المجتهد فهي ليست دليلاً على الصلاحية ، وأن نصب القضاة في زمانهما (صلوات الله عليهما وآلهما) يظهر بالبيان السابق أنه ليس دليلاً على صلاحية المقلّد لتولّي القضاء ، وأما رواية عبد الله بن طلحة فمع افتراض كون السائل [9] فيها مقلّداً مع أن ذلك ليس واضحاً بل يمكن أن يقال إنه كان مجتهداً بالمعنى المتقدم فالرواية ليس فيها دلالة على صلاحية المقلّد لتولّي القضاء استقلالاً وهو المبحوث عنه في المقام وإنما هي تضمّنت ما هو أشبه بالإذن له بأن ينطق بالحكم الذي ذكره الإمام (عليه السلام) بعد اطّلاعه على تفاصيل الواقعة وتبيان حكمها وقوله (عليه السلام) له : (اقض بما وصفت لك) فيُفهم من ذلك أنه أشبه بالنائب عن الإمام (عليه السلام) في النطق بحكم هذه الواقعة فليس دوره دوراً حقيقياً في ذلك ، وهذا المعنى قريب جداً ولا أقلّ من احتماله على نحو لا يمكن الاستناد إلى هذه الرواية - غير التامة سنداً أيضاً - لإثبات صلاحية غير المجتهد أو المقلّد لتولّي القضاء .
 فالنتيجة أن الاجتهاد شرط في تولّي القضاء وغيرُ المجتهد ليست له صلاحية فلا يحقّ له تولّيه ، وأما القول بإمكانه مع إذن المجتهد له فممنوع لما تقدم من أنه لا بد في الإذن من أن يكون المأذون له الأهلية وهي مفقودة في غير المجتهد كما تبيّن .
 ولكن مع ذلك كله ثمة دعوى بجواز أن يأذن المجتهد للمقلّد في تولّي القضاء وفصل الخصومة وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى .


[1] أي لا بد من وجود دليل يُعطي للمجتهد الحقّ في أن يأذن للمقلد في تولّي القضاء وفصل الخصومة .
[2] أي في نفس القضاء وفي منصب القضاء .
[3] أي التقية والضرورة .
[4] أي حكماً ولائياً .
[5] وهي أن أولئك المنصوبين قضاة من قِبلهما (عليهما السلام) لم يكونوا مجتهدين .
[6] يعني دورهم في تطبيق الكبريات على صغرياتها وترتيب الأحكام على موضوعاتها وتشخيص الموضوعات .
[7] جاء في سنن أبي داوود (مج2 ص162) : " عن أُناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو .. " أي ولا أقصّر .
[8] كما هو المتعارف في هذه الأزمنة .
[9] وهو الراوي المباشر نفسه أعني عبد الله بن طلحة - .