33/03/11


تحمیل
 (بحث يوم السبت 11 ربيع الأول 1433 ه 67)
 كان الكلام في مسألة اشتراط الجزم في الدعوى بنحوٍ لا تكون مسموعة ولا يُرتّب عليها أثر إذا لم تكن جازمة .. وتقدّم أن في المسألة أقوالاً تعرّضنا أولاً لقول المشهور وهو الاشتراط وذكرنا دليلين ممّا استُدلّ به لهذا القول .
 الدليل الثالث : ما ذكره السيد الخوئي (قده) ، وحاصله :
 أن قول المُدّعى عليه - وهو المنكر - يكون مطابقاً في كل دعوى لإمارة أو أصل ومقتضى إطلاق دليل حجيّتهما لزوم ترتيب الأثر حتى بالنسبة إلى المدّعي لأن الحجية لا يُفرّق فيها بين أطراف الدعوى .. وعلى ذلك فإذا لم تكن الدعوى جزمية فلا يجوز للمدّعي إلزام الخصم بشيء على أساسها لأن دليل حجية الأصل [1] لا يُجيز له أن يتوسّل بالدعوى لإلزام الطرف الآخر بما يدّعيه فلا تكون مثل هذه الدعوى مسموعة فإن استصحاب عدم ثبوت المال [2] في الذمة كما هو حجة للمُدّعى عليه فلا يكون مُلزَماً ببركة هذا الأصل ببذله [3] كذلك هو حجة على المدّعي فلا يُجيز له أن يتسبّب بالدعوى لإلزام المُدّعى عليه بمدّعاه [4] ، وهذا كما لو قطع بأنه ليس له حقّ في ذمة الآخر فإن قطعه يكون حجة عليه يمنعه من إلزام الطرف الآخر بمضمون دعواه وعلى ذلك فلا تكون الدعوى غير الجزمية مسموعة .
 ولكن يُلاحظ عليه بأنه أخصّ من المدّعى من وجهين :
 الأول :

أنه لا يشمل صورة وجود بيّنة تشهد بصحة دعوى المدّعي ، ومن المعلوم أن الأصل ينسحب مع وجود إمارة على خلافه للطولية بينهما .
 ولكنه غير تام لأن صورة وجود بيّنة تشهد بصحة دعوى المدّعي تدخل في الدعوى الجزمية وهي غير محلّ الكلام [5] وذلك لأن المراد بالجزم أعمّ من أن يكون مستنده العلم والقطع أو مطلق الحجة الشرعية وعلى ذلك فيتحقّق الجزم بالدعوى في ما إذا كان المدّعي مستنداً إلى بيّنة تشهد بصحة مدّعاه فهذه الملاحظة غير واردة على هذا الدليل فحينئذ يصحّ أن يقال إنه في الدعوى غير الجزمية تكون الإمارة أو الأصل الموافق لقول المدّعى عليه مُلزِماً للمدّعي لأن المفروض أنه غير جازم فهو غير عالم بالواقع وجداناً ولا عالم به تعبّداً [6] وعليه فيصحّ هذا الدليل ويُنتج اشتراط الجزم في الدعوى كما يقول المشهور .
 وثانياً :

أنه لا يشمل ما إذا كان المدّعي يحتمل أن يعترف الخصم بحقّه لاحتمال أن يكون [7] مطّلعاً على الواقع فإذا سُمعت هذه الدعوى من قبل القاضي وألزم الخصم بالجواب فقد يعترف بحقّ المدّعي بخلاف ما إذا مُنع من سماعها فإنه يفوت على المدّعي حينئذ أخذ حقّه باعتراف الخصم به لو فُرض فمثل هذه الفائدة يتوقف استثمارها على الالتزام بسماع الدعوى وإن لم تكن جزمية فاشتراط الجزم مفوّت لها .
 ولكن هذه الملاحظة واضحة الدفع لعدم نفع الاحتمال بعد قيام الحجة المعتبرة في جانب المُدّعى عليه [8] التي تُلزِم المدّعي بعدم جواز التوسّل بالدعوى لنيل ما يدّعيه ما دام غير جازم به .
 ومن هنا يظهر أن هذا الدليل تام لإثبات اعتبار الجزم في الدعوى سواء كان جزماً ناشئاً عن علم بالواقع أو كان مستنداً إلى إمارة أو أصل موافق لقول المدّعي كما لو استصحب عدم أداء الطرف الآخر للدين المُحرَز كونه في ذمته [9] فإن الجزم المعتبر في سماع الدعوى لا يختصّ بالجزم الواقعي بالاستحقاق بل يعمّ الجزم الظاهري به أيضاً ولذا يجوز للمدّعي أن يُبرز دعواه بصيغة جازمة حتى لو كان في ذلك مستنداً إلى إمارة أو أصل موافق لقوله وهذا ما لا يتسنّى لغير الجازم ارتكابه لاستلزامه الكذب .
 هذه هي أدلة القول الأول .
 وأما القول الثاني وهو عدم الاشتراط مطلقاً الذي يفيد سماع الدعوى سواء كانت جزمية أو لم تكن فعمدة أدلته التمسّك بالمطلقات والعمومات الدالة على وجوب الحكم والقضاء الذي يلزمه سماع الدعوى مطلقاً فيكون موضوع القضاء في الحقيقة ما يصدق عليه عنوان المخاصمة والمنازعة بغضّ النظر عن تضمّنها للجزم وعدمه .. ومن هنا يلتزم القائل بهذا القول بمساوقة الدعوى لذلك العنوان [10] فالدعوى عنده أعمّ من أن تكون جازمة أو غير جازمة ففي ضوء هذا يمنع من عدم صدق الدعوى على حالات عدم الجزم بل تصدق الدعوى وإن لم تكن جزمية ، كما يلتزم أيضاً بعدم كون ردّ اليمين على المدّعي [11] من لوازم أصل الدعوى [12] بل هو من لوازم الدعوى الجازمة [13] فيكون المعتبر في الدعوى غير الجازمة بيّنة المدّعي وإلا فيمين المنكر وإلا فتتوقف الدعوى ولا يردّ اليمين فيها على المدّعي ، وكون المناط على البيّنة في أمثال هذه الدعاوى [14] لا ينافي الحديث الوارد في استخراج الحقوق وحصرها بأربعة وجوه وهو ما رواه يونس عمّن رواه :
 " قال : استخراج الحقوق بأربعة وجوه : بشهادة رجلين عدلين فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي فإن لم يكن شاهد فاليمين على المُدّعى عليه فإن لم يحلف وردّ اليمين على المدّعي فهي واجبة [15] عليه أن يحلف ويأخذ حقّه فإن أبى أن يحلف فلا شيء له " [16] .
 فقد يقال : إن هذه الرواية ذكرت يمين المدّعي حيث ورد فيها : (فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي) فحيث لا يمكن يمين المدّعي [17] فلا يمكن استخراج الحقّ فلا تكون الدعوى مسموعة أساساً .
 ولكن يقال : إن هذه الأمور المذكورة في الرواية التي على أساسها يُستخرج الحقّ إنما ذُكرت فيها لا على نحو المجموع بل على نحو البدل بمعنى أن أيّ واحد من هذه الأمور توفّر أمكن حينئذ استخراج الحقّ لا أنه يُشترط اجتماع هذه الأمور كلها ليُستخرج الحقّ حتى يقال إن الدعوى غير الجزمية حيث لا يمكن فيها اجتماع هذه الأمور فلا يمكن استخراج الحقّ منها فلا تكون مشمولة لأدلة اعتبار الدعوى فلا تكون مسموعة .


[1] الموافق لقول المُدّعى عليه .
[2] أي المُدّعى به .
[3] أي ببذل المال المُدّعى به .
[4] أي بما يدّعيه عليه من المال مثلاً - .
[5] فإن محلّ الكلام هو الدعوى غير الجزمية حيث وقع الخلاف في كونها تُسمع أو تُردّ .
[6] لعدم وجود بيّنة له ولذلك انتقل الكلام للمدّعى عليه فقيل بأنه قوله مطابق للأصل ، وأما في صورة وجود بيّنة له فهي تدخل في الدعوى الجزمية كما تبيّن .
[7] أي المُدّعى عليه .
[8] وهي الإمارة أو الأصل .
[9] أي في ذمة الطرف الآخر .
[10] يعني عنوان المخاصمة والمنازعة .
[11] بعد نكول المُدّعى عليه عن اليمين .
[12] حتى يقال انتصاراً لقول المشهور وهو القول الأول أي اشتراط الجزم بأن من لوازم الدعوى صحة ردّ اليمين على المدّعي في حالة نكول المدّعى عليه عن اليمين عندما لا تكون للمدّعي بيّنة وهذا يعني لزوم كون الدعوى جزمية فإن الدعوى غير الجزمية لا يصحّ ردّ اليمين فيها على المدّعي بل لا يجوز لعدم تمكّنه من الحلف لافتراض كونه غير جازم فيلزم الكذب لو حلف .
[13] فلا مانع لدى هذا القائل من الالتزام بأن ردّ اليمين على المدّعي هو من لوازم الدعوى إذا كانت جزمية لا من لوازم الدعوى مطلقاً بمعنى أنه عندما تكون الدعوى جزمية فلازمها أنه في حالات النكول يُردّ اليمين على المدّعي وأما في حال عدم كونها جزمية فليس من لوازمها ذلك مطلقاً فيكون المسار القضائي في الدعوى الجزمية بخطوات ثلاث وفي غير الجزمية بخطوتين فتكون الدعوى مسموعة مطلقاً كما تقدّمت الإشارة إليه في البحث السابق - .
[14] أي غير الجزمية .
[15] في المصدر : (فهو واجب) .
[16] الوسائل أبواب كيفية الحكم الباب السابع الحديث الرابع مج27 ص242 ، الكافي مج7 ص416 .
[17] وذلك في الدعوى غير الجزمية .