33/03/27


تحمیل
  (بحث يوم الاثنين 27 ربيع الأول 1433 هـ 79)
 كان الكلام في ذكر الروايات التي استُدلّ بها على جواز حبس المدين المقرّ بالدين الممتنع عن الأداء ووصل الكلام إلى الرواية الرابعة وهي رواية السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) :
 " أن علياً (عليه السلام) كان يحبس في الدين ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء وإن لم يكن له مال دفعه [1] إلى الغرماء فيقول لهم اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم آجروه وإن شئتم استعْمِلوه " [2] .
 هذه الرواية معتبرة سنداً وهي وإن كانت ظاهرة في الحبس من جهة الدين إلا أن الحبس فيها استظهاري لأجل تبيُّن حال المدين من كونه واجداً للمال أو معسراً وهو إنما يناسب عدم العلم بحاله ولا يناسب العلم بكونه واجداً للمال كما هو الحال في ما نحن فيه ولذلك فهي لا تصلح للاستدلال في محلّ الكلام وإن كان لها نحو تعلّق بالمقام من جهة كون الحبس بلحاظ الدين .
 الرواية الخامسة : معتبرة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) :
 " أن علياً (عليه السلام) كان يحبس في الدين فان تبيّن له إفلاس وحاجة خلّى سبيله حتى يستفيد مالاً " [3] .
 وتقريب الاستدلال بها من جهة ظهورها في كون المراد بالحبس هو الحبس في السجن دون المنع من التصرّف في المال فإن هذا الأخير فرع العلم بكون الشخص ذا مال وهذا مما لم يُفرض في الرواية وإنما المفروض فيها عدم العلم بحاله .
 وأُشكل بأن هذا وإن كان يتعلّق بما نحن فيه من هذه الجهة إلا أنه من جهة أخرى يفترق عنه لأن الحبس الوارد في الرواية إنما هو حبس استظهاري يُراد به تبيُّن حال المدين من حيث واجديته للمال وهذا غير ما نحن فيه من فرض كونه واجداً للمال فعلاً وفَرْض علم الحاكم بذلك .
 هذه هي الروايات المُستدلّ بها في المقام على جواز حبس المدين المقرّ بالدين الممتنع عن أدائه وعمدتها موثّقة عمّار [4] فإنها تامة سنداً ودلالة لظهورها في الحبس لأجل إجبار المقرّ على الأداء بعد فرض كونه واجداً للمال .
 ولكن احتمل بعض فقهائنا (رض) - كالشيخ صاحب الجواهر (قده) [5] وصاحب مفتاح الكرامة ونُقل استظهاره عن العلامة المجلسي الأول في شرحه على الفقيه - أن يكون المراد بالحبس في هذه الرواية هو حبس المال أي منع المدين من التصرف فيه فتكون الرواية حينئذ أجنبية عن محلّ الكلام بالمرّة ، ويؤيّد هذا الاحتمال ما ورد في عدة روايات كمعتبرة غياث بن إبراهيم وموثّقتي عمار وإسحاق بن عمّار - التي تنقل القضية نفسها - من التعبير بـ(يُفلّس) بدل (يحبس) والتفليس يناسب هذا المعنى المحتمل [6] ، ويؤيده أيضاً أن تفريع الأمر بتقسيم المال على الغرماء على هذا المعنى أنسب من تفريعه على الحبس في السجن لاسيما مع ما ذكره بعضهم من أن المماطلة في دفع الدين لا تستوجب الحبس في السجن فإنه مع وجود أموال للمدين المماطل وإمكان وفاء الدين منها بأمر الحاكم للمدين بتقسيمها على الغرماء أو بتصدّي الحاكم نفسه لذلك لا تصل النوبة إلى الحبس إذ لا مبرّر له فيقوى حينئذ أن يكون المراد من الحبس هو المنع من التصرف لا الزجّ في السجن ولا أقلّ من كونه احتمالاً قائماً يقف حائلاً في طريق الاستدلال .
 ومن هنا يتبيّن أن هذه الروايات إما هي غير تامة سنداً أو غير ناظرة إلى محلّ الكلام أصلاً أو هي ناظرة إليه ولكن دلالتها على الحبس في السجن مع فرض واجدية المدين للمال ليست واضحة بدرجة يمكن التعويل عليها في مقام الاستدلال .
 ومن هنا يظهر أن من الصعوبة بمكان أن نستدل على جواز الحبس في محلّ الكلام بهذه الروايات وإن كان الإنصاف يقتضي الاعتراف بأن الفقهاء (رض) فهموا من الحبس ولا أقل في موثّقة عمار المتقدّمة ورواية الأصبغ بن نباتة التي بمضمونها والتي هي ناظرة إلى محلّ الكلام أيضاً الحبس في السجن ولكن مع ذلك فإن الاحتمال الذي ذكرناه عن عدد من الأعلام لا دافع له فيكون مانعاً من الاستدلال .
 هذا .. وقد استُدلّ على جواز الحبس في المقام بطرق أخرى - غير الروايات - :
 منها : ما في المستند من الاستدلال على ذلك بتوقف إيصال الحقّ لصاحبه عليه [7] فيكون واجباً على الحاكم لأنه مكلف بإيصال الحقوق إلى أصحابها فيثبت بذلك مشروعية الحكم بالسجن .
 ولكن يمكن التأمل فيه صغروياً من جهة أن توقف إيصال الحقّ لصاحبه على حبس المدين ليس مفروضاً في محل الكلام وإنما المفروض أن المدين مقرّ واجد للمال غاية الأمر أنه ممتنع عن أداء الدين فلا يتوقف إيصال الحقّ لصاحبه على حبسه بل يمكن للحاكم أن يوصل الحق إلى أصحابه بطريق آخر وهو أن يمنعه من التصرّف في أمواله ويأمره أولاً بأن يقسّم أمواله على غرمائه بالحصص فإن امتنع تولّى ذلك الحاكم بنفسه فيوزّع أمواله النقدية إن وُجدتْ - بينهم أو يبيع عروضه إن لم يكن له نقد .
 ومنها : التمسّك بتطبيق أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المورد من جهة أن عدم أداء الدين مُنْكَر يجب الردع عنه أو أن الأداء معروف يجب الأمر به وحيث لا تُجدي مرتبة التطبيق باللسان بالتغليظ له بالقول تصل النوبة إلى التطبيق باليد ومن مصاديقها الإيداع في السجن فيثبت المطلوب .
 وأجيب بمنع انطباق كبرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محل الكلام ولو سُلّم فيكون الدليل أخصّ من المدّعى إذ أن المفروض هو جواز حبس المدين في المقام [8] مطلقاً مع أن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنها محدّدة بشروط ولا تكون فعلية إلا بتوفر شروطها ودعوى توفّرها في جميع الحالات في ما نحن فيه دونها خرط القتاد .
 مع أنه لو سُلّم صغروية المقام لها فهي لا تختص بالحاكم بل تثبت لكل قادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لو كان هو المحكوم له نفسه فيكون بإمكانه لو تمّ ما سبق أن يحبس المدين في السجن مع أن فتوى الفقهاء (رض) اختصاص ذلك [9] بالحاكم لا عمومه لكل أحد .
 فالنتيجة أنه لم يثبت ما يدل على جواز حبس الغريم الممتنع عن أداء الدين مع العلم بكونه واجداً للمال بل الذي ثبت بموجب بعض الروايات المتقدّمة هو منعه من التصرف في أمواله ثم أداء ديون الغرماء منها ، نعم .. قد يُضطرّ في بعض الموارد لأجل إيصال الحقّ إلى أصحابه إلى التسبّب إلى ذلك بحبسه ولكنها موارد جزئية غير مفروضة في محلّ الكلام .
 هذا ما يرتبط بالحالة الأولى وهي ما إذا كان المدين واجداً للمال .
 الحالة الثانية : ما إذا عُلم بكونه معسراً .. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .


[1] أي دفع المدين نفسه إلى الغرماء .
[2] التهذيب مج6 ص300 ، الوسائل الباب السابع من أبواب الحجر أيضاً الحديث الثالث مج18 ص417 .
[3] التهذيب مج6 ص299 وفي موضع منه روايتها عن غياث عن أبيه وهو اشتباه والصحيح عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) بقرينة الموضع الآخر ، الوسائل مج18 ص418 .
[4] عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " إن علياً (عليه السلام) كان يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمر به فيقسّم ماله بينهم بالحصص فان أبى باعه فقسّم بينهم - يعني ماله " التهذيب مج6 ص191 ، الكافي مج5 ص102 .
[5] جواهر الكلام مج25 ص281 .
[6] أي المنع من التصرف في المال .
[7] أي على الحبس في السجن .
[8] المقرّ بالدين الممتنع عن أدائه .
[9] أي الحبس في السجن .