33/04/10


تحمیل
  (بحث يوم الأحد 10 ربيع الثاني 1433 هـ 88)
 كان الكلام في استعراض الأدلة التي استُدلّ بها لقول المشهور - وهو توقف إحلاف الحاكم للمنكر على رضا المدّعي وتقدم دليلان :
 الدليل الثالث : رواية خضر النخعي عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده ، قال : إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه " [1] .
 ودلالة هذه الرواية على المطلوب واضحة من جهة أنها بمنطوقها تجعل الأثر - وهو سقوط حقّ المدّعي وعدم جواز أن يأخذ من خصمه شيئاً - مترتّباً على استحلافه له بل هي تُصرّح بالمفهوم وهو أنه إن تركه ولم يستحلفه فهو باقٍ على حقّه بناء على ما هو الظاهر من أن المقصود بـ(استحلفه) هو استحلاف المدّعي للمنكر ، كما أنها بإطلاق مفهومها تجعل المناط على استحلاف المدّعي حيث تُبيّن أنه مع عدم استحلافه للمنكر فهو على حقّه مطلقاً أي سواء استحلف الحاكم المنكر أم لا وهذا يعني أن استحلاف الحاكم بمجرّده لا يترتب عليه أثر إلا إذا انضمّ إليه رضا المدّعي [2] .
 وأما بناءً على أن المقصود بـ(استحلفه) هو طلب المدّعي من الحاكم إحلاف المنكر وإذنه به له [3] لا تصدّي المدّعي لذلك فمفاد الرواية بمنطوقها حينئذ هو سقوط حقّ المدّعي وعدم جواز أن يأخذ من خصمه شيئاً في ما إذا استحلف الحاكم المنكر بناءً على طلب المدّعي ، وهي تفيد بمفهومها المُصرَّح به بقاء حقّ المدّعي إذا لم يطلب من الحاكم إحلاف المنكر سواء استحلفه الحاكم من تلقاء نفسه [4] أو لا فتكون الرواية على هذا الاحتمال أيضاً دالة على ما هو المطلوب من توقف إحلاف الحاكم للمنكر على طلب المدّعي المستبطن لرضاه بطبيعة الحال .
 ولكنها مع ذلك لا تصلح للاستدلال لعدم تماميتها سنداً لأن راويها - وهو خضر النخعي ممن لم تثبت وثاقته .
 الدليل الرابع : رواية عبد الله بن وضّاح :
 " قال : كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف وقد علمت أنه حلف يميناً فاجرة فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة فأردت أن أقتصّ الألف درهم التي كانت لي عنده وحلف عليها فكتبت إلي أبي الحسن (عليه السلام) وأخبرته أني قد أحلفته فحلف وقد وقع له عندي مال فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلتُ ، فكتب : (لا تأخذ منه شيئاً إن كان ظلمك فلا تظلمه ولولا أنك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذها من تحت يدك ولكنك رضيت بيمينه فقد مضت اليمين بما فيها) فلم آخذ منه شيئاً وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن (عليه السلام) " [5] .
 ومحل الشاهد فيها قوله : (ولولا أنك رضيت بيمينه فحلّفته ..) حيث يُستدلّ به من جهة تصريح الإمام (عليه السلام) فيه بأن رضا المدّعي بيمين المنكر هو المقوّم لترتّب الأثر من سقوط الحقّ والذهاب بالدعوى فتدل على أن إحلاف الحاكم للمنكر لا بد أن يكون متوقفاً عليه [6] ليترتب عليه ذلك الأثر .
 ولكن هذه الرواية محلّ خدشٍ سنداً ودلالة :
 أما من حيث السند فلوقوع عدّة مجاهيل فيه ، وأما من حيث الدلالة فلأنه وإن كان التعبير برضا المدّعي بيمين المنكر قد ورد في كلام الإمام (عليه السلام) [7] إلا أنه لا يعدو عن كونه من باب الجري على ما فرضه السائل في سؤاله حيث قال : (فأحلفته فحلف) [8] فالإمام (عليه السلام) بنى على هذا الفرض الذي طرحه السائل وحكم في ضوئه بأن هذه اليمين تكون مسقطة للحقّ وماضية بما فيها وهذا لا يعني أن إحلاف الحاكم للمنكر من دون رضا المدّعي ليس بمسقط للحقّ كما هو المدّعى - فلا يُستفاد من كلام الإمام (عليه السلام) هاهنا قاعدة كلية تُثبت المطلوب بل غاية ما يُستفاد أن السائل حيث فُرِض رضاه بيمين المنكر وأحلفه فقد ذهبت هذه اليمين بحقّه ، والقائل بعدم التوقف لا يُنكر أن يمين المنكر برضا المدّعي تكون مسقطة للحق أيضاً [9] وإنما الكلام في أن إحلاف الحاكم للمنكر من دون رضا المدّعي هل تُسقط الدعوى أو لا [10] ، والرواية لا دلالة فيها على هذا المعنى .
 نعم .. لو كان هذا التعبير وارداً في كلام الإمام (عليه السلام) ابتداءً كما في معتبرة ابن أبي يعفور حيث يقول الإمام (عليه السلام) مبتدئاً : (إذا رضي صاحب الحق بيمين صاحبه ..) لكانت تدلّ على سقوط حقّ المدّعي برضاه بيمين المنكر كما دلّت عليه المعتبرة فيقال حينئذ إن إحلاف الحاكم للمنكر لا بد أن يكون متوقفاً عليه [11] ليترتب عليه الأثر المزبور .
 الدليل الخامس : صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) :
 " في الرجل يدّعي ولا بينة له ، قال : يستحلفه فإن رد اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له " [12] .
 وتقريب الاستدلال بها على المطلوب بأن يقال إن الظاهر أن فاعل الاستحلاف في قوله (عليه السلام) : (يستحلفه) هو المدّعي فيُفهم منها أن إحلاف المنكر هو وظيفة للمدّعي وهي تصدق في مورد تصدّي المدّعي لها بنفسه كما تصدق أيضاً في مورد طلب المدّعي من الحاكم القيام بذلك فاستحلاف المدّعي متحقّق في الموردين إما مباشرة أو تسبيباً وعلى كل حال فإن رضاه بيمين المنكر مفروض في المقام وهو المؤثر في ترتّب الحكم فإن المُستفاد من الرواية أن المدّعي إن استحلف المنكر [13] فحلف سقط الحقّ وإن لم يحلف وردّ اليمين على المدّعي فحلف ثبت الحقّ وإن لم يحلف فلا حقّ له .
 ونوقش في هذا الاستدلال بأن الظاهر أن الإمام (عليه السلام) ليس في مقام بيان من الذي يحلف ومن الذي يستحلف بل الذي يظهر أنه (عليه السلام) في مقام بيان الطريق الذي يمكن أن يسلكه المدّعي الذي لا بينة له لكي يصل إلى حقّه وهو [14] التوسّل بيمين المنكر فالإمام (عليه السلام) في مقام بيان طريق من طرق الإثبات في باب القضاء من غير التعرّض إلى أن هذا الطريق هو وظيفة المدّعي المنحصرة به بحيث لا يجوز لغيره أن يقوم بها إلا برضاه لكي تدلّ على المطلوب .
 هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام الاستدلال على ما ذهب إليه المشهور من توقّف إحلاف الحاكم للمنكر على رضا المدّعي - وهو الصحيح - وقد تبيّن أن المهم في الاستدلال عليه معتبرة ابن أبي يعفور بالتقريب الثالث المذكور سابقاً .. مضافاً إلى التسالم والإجماع المذكور في كلماتهم المشير إلى أن القضية مسلّم بها عند فقهائنا (قدهم) بل إنها مسلّمة عند العامة أيضاً فإن صريح أحكامهم بأن الإحلاف حقّ للمدّعي ، ونظير تعبير المحقق في الشرايع - المنقول من قبلُ قد ورد في كتب العامة كالمغني لابن قدامة مما يتأتّى معه دعوى وجود إطباق من قبل المسلمين على هذا الأمر بل نُقل عن القوانين الوضعية أنها تؤمن بهذا المعنى أيضاً [15] .
 إذا تبيّن هذا فلنعقد البحث في فروع متعلّقة بالمقام :
 الفرع الأول : في استحلاف المدّعي للمنكر من دون إذن الحاكم :
 قال الشيخ الأنصاري (قده) في قضائه : " واعلم أنه كما لا يجوز إحلاف الحاكم له من دون التماس المدعي ، كذلك لا يجوز إحلاف المدعي له من دون إذن الحاكم بلا خلاف ظاهر كما اعترف به جماعة واستظهر بعضهم الاجماع " [16] .
 ومفاد هذه العبارة أنه يُعتبر رضا كل من المدّعي والحاكم وتوافقهما على إحلاف المنكر فلا المدّعي ينفرد بإحلافه ولا الحاكم يستقلّ به .
 وأقول : إن استحلاف المدّعي للمنكر من دون إذن الحاكم له فرضان :
 الأول : أن يكون خارج المرافعة والدعوى كما لو ائتمنه على مال فجحده فاستحلفه فحلف فيقال هنا هل أن استحلاف المدّعي للمنكر خارج المرافعة ومن دون إذن الحاكم مسقط للحقّ أم لا ؟
 وهذا بحث لا يخلو من أهمية لأن أغلب موارد طلب الحلف من الطرف الآخر لعلها من هذا القبيل فإنه إذا كان مما يسقط الحقّ معه فلا يكون للمدّعي حينئذ حقّ حتى يطالب به كما أنه ليس له أن يُقيم بعد الحلف دعوى جديدة على الحالف لفرض سقوط حقّه بهذا اليمين .
 الفرض الثاني : أن يكون داخل المرافعة والدعوى وبمحضر من الحاكم لكن من دون إذنه فيقال هنا هل أن استحلاف المدّعي للمنكر داخل المرافعة ولكن من دون إذن الحاكم مسقط للحقّ أم لا ؟
 أما في هذا الفرض فالذي يظهر من كلماتهم أنه لا إشكال في عدم ترتب الأثر عليه فلا يُسقِط الحقّ ولا يذهب بالدعوى واللازم على الحاكم حينئذ إعادة إحلاف المنكر مرة أخرى حتى يكون حكمه مستنداً إلى هذه اليمين بعد فرض رضا المدّعي بها [17] فيترتب الأثر حينئذ من سقوط حقّ المدّعي .
 ويُعلّل هذا بأن الإحلاف وظيفة الحاكم غاية الأمر أنه يُشترط أخذ إذن المدّعي قبله ، واستُدلّ عليه بروايات قيل إنه يظهر منها أن إحلاف المنكر وظيفة للحاكم فلا يجوز لغيره الاستقلال به ، وعمدتها روايتان :
 إحداهما : صحيحة سليمان بن خالد - المتقدّمة مراراً عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : في كتاب علي (عليه السلام) أن نبياً شكا إلى ربه فقال : يا ربّ كيف أقضي في ما لم أشهد ولم أر ؟ قال: فأوحى الله عز وجل إليه أن احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به ، وقال: هذا لمن لم تقم له بينة " [18] .
 أي أنه يتوجه اليمين إلى المنكر بعد أن يعجز المدّعي عن إقامة البيّنة .
 والأخرى : مرسلة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) :
 " قال : إن نبياً من الأنبياء شكا إلى ربّه كيف أقضي في أمور لم أُخبَر ببيانها ؟ قال : فقال له : رُدّهم إلي وأضفهم إلى اسمي يحلفون به " [19] .
 وروايات غيرها بهذا المضمون (ولعلها مستفيضة) فاستُفيد منها - وفيها ما هو صحيح السند قطعاً - أن تحليف المنكر وظيفة الحاكم فيقال حينئذ :
 إن مقتضى الجمع بين هذه الروايات والروايات السابقة - كصحيحة ابن أبي يعفور الدالة على توقف التحليف على إذن المدّعي - يكون بما ذُكر من أن الذي يتصدّى لعملية الإحلاف هو الحاكم ولكن يجب أن يكون هذا بطلب من المدّعي وإذنه .
 وللكلام تتمة تأتي إن شاء الله تعالى .


[1] الكافي مج7 ص418 ، الوسائل أبواب كيفية الحكم الباب العاشر الحديث الأول مج27 ص246 .
[2] توضيحه : أن الرواية حيث دلّت على أن الذي يترتب عليه الأثر إنما هو استحلاف المدّعي فهنا إن لم يثبت الاستحلاف لغيره فلا كلام وإن ثبت للحاكم كما هو الصحيح وسيأتي في بحث لاحق إن شاء الله تعالى فلا بد أن يكون حينئذ مشروطاً برضا المدّعي وإلا لم يكن له أثر وفقاً لما دلّت عليه الرواية بمفهومها وعليه فيثبت المطلوب من توقف إحلاف الحاكم للمنكر على رضا المدّعي .
[3] كما قد يساعده ما سيأتي بحثه من أن الحاكم هو من يتصدّى لإحلاف المنكر .
[4] أي من دون طلب من المدّعي وإذن منه .
[5] الكافي مج7 ص431 ، الوسائل أبواب كيفية الحكم الباب العاشر الحديث الثاني مج28 ص246 .
[6] أي على رضا المدّعي .
[7] في قوله (عليه السلام) : " ولولا أنك رضيت بيمينه فحلّفته " .
[8] لما تقدّم مراراً من أن إحلاف المدّعي يستبطن رضاه .
[9] كما هو مفاد معتبرة ابن أبي يعفور حيث جاء فيها : " إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قِبَلَه ذهبت اليمين بحقّ المُدّعي فلا دعوى له " .
[10] فالمشهور على عدم السقوط لأنه يرى توقف إحلاف الحاكم للمنكر على رضا المدّعي فبدونه لا يكون له أثر فلا يُسقط الدعوى ، وغير المشهور على السقوط لأنه يرى عدم توقف إحلاف الحاكم على رضا المدّعي .
[11] أي على رضا المدّعي .
[12] الكافي مج7 ص416 ، الوسائل أبواب كيفية الحكم الباب السابع الحديث الأول مج27 ص241 .
[13] حيث إن الاستحلاف مستبطن للرضا بالحلف كما عُرف مما سبق .
[14] أي الطريق الذي بيّنه الإمام (عليه السلام) لمن لا بيّنة له .
[15] وهو أن إحلاف الحاكم للمنكر لا يستقل به الحاكم وإنما لا بد من أخذ الإذن من المدّعي .
[16] القضاء والشهادات ص205 .
[17] كما هو كذلك فعلاً حيث فُرض صدور الإحلاف منه المستبطن لرضاه بحلفه .
[18] الكافي مج7 ص415 ، الوسائل أبواب كيفية الحكم الباب الأول الحديث الأول مج27 ص229 .
[19] الكافي مج7 ص414 ، الوسائل أبواب كيفية الحكم الباب الأول الحديث الثالث مج27 ص230 .