33/06/28


تحمیل
  (بحث يوم الأحد 28 جمادى الثانية 1433 هـ 137)
 الموضوع :- المسألة العشرون / الموارد التي وقع الكلام في نفوذ الحكم فيها وعدم نفوذه / المورد الخامس : ما إذا تبيّن للغير خطأ الحاكم في اجتهاده / النحو الثاني : أن يتبيّن الخطأ في الاجتهاد على نحو الظن المعتبر / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
 
 كان الكلام في النحو الثاني وهو أن يتبيّن خطأ الحاكم عند مجتهد آخر فهل يمكن للحاكم الآخر نقض حكم الأول أم لا ؟
 ذكرنا أن المعروف - لاسيما بين المتأخرين - هو حرمة النقض وقلنا إنه استُدلّ عليه بالمقبولة ببيان تقدّم حاصله أنها تدل على أن الحاكم الجامع للشرائط إذا حكم على طبق الموازين فإنما يحكم بحكمهم فيكون حكمه نافذاً فهنا يقال إنه إذا افتُرض تعدد الحاكم فهل يجوز لحاكم آخر ثبت عنده باجتهاده خطأ المجتهد الأول أن ينقض حكمه ويصدر حكماً آخر ؟
 وقد ذكرنا أنه قد يُشكل صحة الاستدلال بالمقبولة من جهة عدم إحراز أن الحكم الأول هو حكمهم (عليهم السلام) لعدم إحراز انطباق العنوان الوارد في المقبولة عليه أعني قوله (عليه السلام) : (إذا حكم بحكمنا) - ، ولا يمكن الالتزام بشمول المقبولة لحكمٍ - حتى تدل على نفوذه وحرمة نقضه - إلا بعد إحراز انطباق العنوان الوارد فيها عليه وهو غير محرز في المقام ولا يجوز التمسّك بالدليل مع الشك في تحقق موضوعه لعدم جواز التمسّك بالدليل في الشبهة الموضوعية للدليل نفسه .
 ولكن يمكن دفع هذا الاعتراض بما قد مرّ مراراً من أن المقصود بحكمهم (عليهم السلام) في المقبولة ليس هو حكمهم الواقعي النفس الأمري فإن مرجعه إلى اشتراط الإصابة للواقع في نفوذ الحكم بمعنى أن الحكم لا يكون نافذاً إلا إذا كان مصيباً للواقع ومن الواضح أن إحراز إصابة الحكم للواقع غير متيسّرة إن لم تكن متعذّرة وهذا مما يؤدي بالنتيجة إلى الحكم بعدم نفوذ أيّ حكم إذ كل حكم يصدر من أيّ حاكم لا يُحرز فيه أنه مطابق للحكم الواقعي .. وإنما المقصود بحكمهم (عليهم السلام) في الرواية هو حكمهم الظاهري أي الحكم المستند إلى الموازين الظاهرية المجعولة من قبل الشارع المقدّس التي تحدّد للحاكم الطريق الخاص للوصول إلى الحكم فالحكم الصادر مع مراعاة هذه الموازين هو حكمهم (عليهم السلام) فإن الإمام (عليه السلام) لو عُرضت عليه قضية عُرضت على حاكم حكم فيها طبقاً لتلك الموازين لحكم فيها أيضاً على طبق تلك الموازين وحينئذ نقول :
 إن الذي يُفهم من المقبولة أنها تتضمّن قضية حقيقية موضوعها المقدّر الوجود هو الحكم بحكمهم [1] ومحمولها ما يؤدّي إلى معنى نفوذ ذلك الحكم ، وهذه القضية كلما تحقق فرد من أفراد موضوعها شمله حكمها قهراً [2] - كما هو شأن كل قضية حقيقية - ، وفي محلّ الكلام إذا فُرض أن الحاكم الأول قد حكم وفق اجتهاده فقد تحقق فرد من أفراد تلك القضية الحقيقية فيكون حكمه نافذاً وفق ما تقدّم فيحرم نقضه وردّه ، وحرمة النقض في الرواية مطلقة ليس فيها ما يوجب التقييد بمعنى أنها ثابتة في حقّ الجميع وليست هي خطاباً خاصّاً بالمحكوم عليه فقوله (عليه السلام) : (إذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فقد استُخف بحكم الله والرادّ عليه كالرادّ علينا) مطلق فيشمل حتى الحاكم الآخر فيحرم عليه النقض وهذا المناسب لما تقدّم من أن الغرض من تشريع القضاء هو فصل الخصومة وقطع النزاع وهو ما يوفّره تحريم النقض والردّ وإلا لجاز لكل حاكم أن ينقض حكم غيره ولا يخفى ما فيه .
 وعلى هذا فلا يُحتمل أصلاً أن يكون الحكم الثاني هو حكمهم (عليهم السلام) بعد تحقق الحكم الأول وصيرورته فرداً للقضية الحقيقية وشمول حكمها له وهو النفوذ كيف! والحكم الثاني ردّ للحكم الأول الذي حكم الإمام (عليه السلام) بحرمة نقضه .
 ومن هنا يتبيّن أن الاعتراض المتقدّم ليس بوارد أصلاً لابتنائه على احتمال أن لا يكون الحكم الأول هو حكمهم (عليهم السلام) على أساس أن كلاً من الحكمين كان على طبق الموازين وقد عرفت الخدشة فيه من جهة صدق الردّ والنقض على الحكم الثاني الذي حكم الإمام (عليه السلام) بحرمته ومعه كيف يصح أن يصدق عليه أنه حكمهم (عليهم السلام) ؟!
 وبعبارة أخرى : أن حكم الحاكم الثاني مع صدق النقض والردّ عليه ليس فرداً من أفراد موضوع القضية الحقيقية حتى يشمله الحكم بالنفوذ وإنما الفرد الثاني لموضوعها هو الحكم في واقعة أخرى من أيّ من الحاكمين صدر في ما إذا كان جارياً على طبق الموازين مع عدم المجال للحاكم الآخر لأن يُصدر حكمه فيها أيضاً .
 ومن هنا يظهر تمامية الاستدلال بالمقبولة في محلّ الكلام لإثبات حرمة النقض والردّ في النحو الثاني .
 وهاهنا صورة أخرى لهذا النحو وهي ما إذا تبيّن الخطأ للحاكم نفسه بمعنى أنه عدل عن رأيه السابق كما في مثال النكول المتقدّم حيث افتُرض أنه كان يرى جواز الحكم بمجرد النكول ثم بعد ذلك تبيّن له بالتدقيق في الأدلة أنه لا يجوز الحكم بمجرد ذلك بل لا بد من ردّ اليمين على المدّعي ففي هذه الحالة هل يحرم عليه نقض حكمه الأول كما في الصورة الأولى عند تبيّن الخطأ لمجتهد آخر ؟
 الظاهر أن حالها حال الصورة السابقة للسبب المذكور نفسه فإن حكمه الأول الذي افتُرض صدوره على طبق الموازين لمّا كان يحقق فرداً من أفراد القضية الحقيقية المتقدّمة فيشمله الحكم بالنفوذ وإذا حُكم بنفوذه يكون محكوماً بحرمة النقض والردّ على كل أحد بما فيهم الحاكم نفسه فإنه ليس للمقبولة في ذلك نظر خاص إلى حاكم بعينه بل لسانها في تحريم النقض مطلق يشمل حتى الحاكم نفسه بالنسبة إلى حكمه فلا فرق في حرمة النقض بين نقض حاكم آخر ونقض الحاكم نفسه .
 وبعبارة أخرى : أن المفروض في هذه الصورة أن الفارق الوحيد بين الحكم الأول والحكم الثاني هو تبدّل الاجتهاد فقط وأما الموازين فمراعاة في كل منهما فيُنظَر إليهما على أنهما اجتهادان جامعان للشرائط رُوعي فيهما تمام الموازين ولكن حيث إن الحكم الأول كان له السبق بحسب الفرض فتشمله المقبولة فيُحكم عليه بالنفوذ وبحرمة النقض والردّ وأما الحكم الثاني الصادر من الحاكم نفسه فلا يكون مشمولاً لدليل النفوذ ولا يحقّق موضوعاً جديداً للقضية الحقيقية .
 ومن هنا يتبيّن أن الاستدلال بالمقبولة على نفوذ الحكم في النحو الثاني بكلتا صورتيه تام لا غبار عليه .
 الدليل الثاني : ما ذُكر من أنه يلزم من عدم نفوذ الحكم الأول في المقام وجواز نقضه الهرجُ والمرج واللازم باطل فالملزوم مثله وذُكر أن أصل الزوم واضح وبطلان اللازم أوضح .
 وأجيب عنه بإنكار اللزوم وذلك لقلة نظر الحكّام في أحكام غيرهم [3] وقلة نظرهم في أحكام أنفسهم [4] فلا يلزم من تجويز النقض وعدم الحكم بالنفوذ ما ادّعي من الهرج والمرج .
 وأقول : يمكن تفسير هذا الدليل بأن يكون المقصود منه في الواقع الإشارة إلى ما تقدّم من أن الغرض من تشريع الحكم في باب القضاء هو الفصل في الخصومات وإنهاء النزاعات ولا إشكال في أن عدم الحكم بنفوذ الحكم الجامع للشرائط والمُراعى فيه الموازين وتجويز نقضه وردّه لا يتحقق معه هذا الغرض وحينئذ تكون هناك قضايا معلّقة كلما أُصدِر فيها حكم نقضه حاكم آخر أو نقضه الحاكم نفسه - في ما لو فُرض تبدّل اجتهاده فتتعطّل القضايا ويلزم ما ذُكر من الهرج والمرج .
 
 الدليل الثالث : ما ذكره بعضهم من أن الحكم الأول الجامع للشرائط بحسب الفرض والمشمول لأدلة النفوذ هو بنفسه يُنهي الخصومة في الواقعة فلا تبقى بعده خصومة ونزاع حتى يكون ثمة مجال للحكم الثاني ليفصل فيها فتكون القضية سالبة بانتفاء موضوعها ، ومن هنا لا معنى لأن يحكم الحاكم الثاني أو يحكم الحاكم الأول نفسه في الواقعة نفسها بعد ارتفاع النزاع فيها تعبّداً بحكم الشارع المقدّس بنفوذ الحكم الأول .
 ولعل هذا الوجه يصلح للاستدلال به في سائر الموارد التي نحكم فيها بحرمة النقض .
 


[1] وهذا إنما يتأتّى في ما إذا حكم الحاكم على طبق الموازين المجعولة شرعاً .
[2] أي النفوذ .
[3] إشارة إلى الصورة الأولى من النحو الثاني .
[4] إشارة إلى الصورة الثانية من النحو الثاني .