33/12/26


تحمیل
  (بحث يوم الأحد 26 ذ ح 1433 هـ 193)
 الموضوع : استدراك على المسألة السادسة والخمسين / تكملة الكلام في المسألة السابعة والخمسين : الأمر الثالث من الأمور المهمة المتعلقة ببحث المقاصة مما لم يذكره السيد الماتن / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
 
 استدراك على المسألة (56) :
 تقدّم أن هذه المسألة تعرّضت لحكم المقاصة من الوديعة وقد قلنا إن هناك خلافاً كبيراً فيه فمن الفقهاء من ذهب إلى الجواز على كراهة ومنهم من ذهب إلى عدم الجواز والجامع بينهم هو الاتفاق على مرجوحية التقاصّ .
 وتقدم أن هناك روايات تدل على الجواز وأخرى تدل على المنع وعدم الجواز والروايات المانعة واردة بلسان النهي عن الخيانة ، وفي مقام الاعتراض على القول الأول من الجواز على كراهة قد يقال إن صحيحة البقباق صريحة في الرجحان وهذا لا يناسب الذهاب إلى الكراهة والمرجوحية إذ لا ريب أنه لا يمكن الجمع بين الأمرين : مفاد هذه الصحيحة الصريحة في الرجحان والقول بالمرجوحية الذي هو القدر الجامع بين القولين ؟
 وأجيب عن ذلك بأن المرجوحية بالمعنى الأعم أي المتحققة في ضمن الكراهة والحرمة لما كانت أمراً متّفقاً عليه بين الفقهاء (رض) ولا يمكن رفع اليد عنه فهي تُشكّل خدشة في صحيحة البقباق من جهة دلالتها على الرجحان إذ لا أحد يقول برجحان التقاصّ من الوديعة وعلى ذلك قالوا - كما في الرياض وغيره بأن الأمر لا يخلو : إما طرح هذه الرواية وإخراجها عن أدلة الحجية من جهة الاتفاق على عدم العمل بها ، وإما حملها على محامل تنسجم مع ذهاب الكل إلى المرجوحية ومنها أن من المحتمل أن تكون هناك خصوصية في تلك الواقعة الخاصة التي جرت بين الراوي وشهاب بن عبد الملك أوجبت الرجحان وحبّ الإمام (عليه السلام) للتقاصّ من الوديعة وإن لم نكن نعرف ما هي تلك الخصوصية بالتحديد ، ومن الواضح أن الرجحان مع وجود خصوصية لا ينافي الالتزام بالمرجوحية مع عدم تلك الخصوصية كما هو محل الكلام ، وحيث إن طرح الرواية عن الحجية بعد فرض شمولها لها [1] لا موجب للمصير إليه فيتعيّن الأخذ بالثاني وهو حمل الرواية على خصوصية كانت موجودة في تلك الواقعة الخاصة اقتضت الرجحان وهذا لا ينافي مرجوحية التقاصّ من الوديعة مع فرض عدم تلك الخصوصية .
 وهذا البيان لو تم فلا يكون ثمة مانع حينئذ من الالتزام بمرجوحية التقاصّ من الوديعة التي يُفسّرها أصحاب القول الأول بالكراهة ويُفسّرها أصحاب القول الثاني بكونها واقعة في ضمن التحريم .
 ويمكن أن يُصاغ هذا الإشكال وجوابه ببيان آخر وهو أن يقال :
 إن التعارض بين صحيحة البقباق والروايات المانعة بلسان النهي عن الخيانة تعارض مستقر بنحو التباين لأن صحيحة البقباق تدل على رجحان التقاصّ من الوديعة في حين أن هذه الروايات تدل على مرجوحيته وكل منهما صريح في مدلوله وليس ثمة نصّ وظاهر أو أظهر وظاهر حتى يتأتى الجمع العرفي بحمل الظاهر على النصّ أو الأظهر وحينئذ لا مجال لأصحاب القول الأول بالجمع بين الأدلة والالتزام بالكراهة لأن هذا فرع أن تكون الروايات المانعة ظاهرة في التحريم ليُحمل ظهورها على الكراهة في حين أنها صريحة في المرجوحية فيقع التعارض بينهما وهو تعارض مستقر ولا مجال معه للجمع العرفي بحمل الروايات المانعة على الكراهة .
 والجواب عنه هو بأن يقال إن صحيحة البقباق لا تخلو من أحد احتمالين :
 أحدهما : أن تكون ساقطة عن الحجية من جهة إعراض المشهور بل الكل عنها فتبقى حينئذ الأدلة المجوّزة صريحة في الجواز والأدلة المانعة ظاهرة في المنع فتُحمل على الكراهة حملاً للظاهر على الصريح .. وهذا ما ذهب إليه المشهور أصحاب القول الاول .
 والآخر : أن تكون صحيحة البقباق غير ساقطة عن الحجية بالإعراض فحينئذ يتعارض الدليلان ويتساقطان والمرجع بعد التساقط إلى عمومات الأدلة الدالة على جواز التقاصّ فإنها تشمل بإطلاقها محل الكلام فإن أصحاب القول الأول لم يستدلوا فقط بالروايات الصريحة في جواز التقاصّ من الوديعة بل استدلوا أيضاً بعمومات وإطلاقات شاملة للتقاص من الوديعة - ولو باعتبار ترك الاستفصال في مقام الجواب كما في قوله : (وقع في يدي مال له) فإن هذا أعم من أن يكون وديعة أو لا .. إذاً فمقتضى الإطلاق هو جواز التقاصّ من الوديعة وبالتالي نخرج بنفس النتيجة وهي الجواز في مقابل القول الثاني وهو عدم الجواز .
 وأما أصل الحمل على الكراهة الذي صار إليه أصحاب القول الأول وهو القول الصحيح فيستند إلى أحد أمرين :
 الأول : تسليم كون الأدلة المانعة ظاهرة في التحريم فتُحمل حينئذ على الكراهة بمقتضى الجمع العرفي بينها وبين الأدلة المجوّزة .
 الثاني : إنكار كون الأدلة المانعة ظاهرة في التحريم أصلاً حتى نحتاج إلى الجمع بينها وبين الأدلة المجوّزة بحمل الأدلة المانعة على الكراهة بل هي من الأول ظاهرة في الكراهة فلا تعارض حينئذ بينها وبين الأدلة المجوّزة وهذا بالطبع مع قطع النظر عن مسألة رجحان التقاصّ الذي دلّت عليه صحيحة البقباق التي أجبنا عليها في صدر هذا البحث - .
 أما دلالة الأدلة المانعة على الكراهة وكونها من الأول ظاهرة في ذلك فهنا يأتي ما تقدّم في البحث السابق وحاصله :
 أن يقال بأن أخذ المال مقاصة ليس خيانة حقيقية بل هو محض صورة للخيانة لأنه في الحقيقة استرداد لحق وأما الخيانة الحقيقية فهي التصرف في مال الغير من دون ولاية أو وجه حقّ بخلاف ما إذا كان التصرف فيه بحقّ أو ولاية فإنه لا يكون حينئذ خيانة أصلاً ، وقد أشارت الروايات إلى هذا المعنى كمعتبرة الحضرمي حيث ورد في ذيلها دعاء ذكره الإمام (عليه السلام) ورد فيه قوله : (اللهم إني لم آخذه ظلماً ولا خيانة وإنما أخذته مكان مالي) وهذه العبارة واضحة في أن الشيء الذي يؤخذ بحقّ في مقابل المال ليس ظلماً ولا خيانة فليس كل أخذٍ لمال للغير يكون ظلماً وخيانة بل كونه كذلك مقيّد بأن لا يكون في مقابل حقّ [2] .. إذاً فالروايات حينما تُعبّر بالخيانة لا يُراد بها الخيانة التي دلّت الأدلة على حرمتها لأن معنى الخيانة المحرّم لا ينطبق في محلّ الكلام وإنما المراد بها كما ذكرنا الخيانة الصورية أي ما كانت صورتها صورة خيانة وأما واقعها فهو ليس كذلك وإنما هو استنقاذ لحقّ فهذا هو المراد من الخيانة في الروايات المانعة بلسان النهي عنها والإمام (عليه السلام) بهذا التعبير إنما يريد أن يُنزّه الشخص الذي يريد التقاصّ حتى عن مطلق الخيانة ولو كانت صورية فهو (عليه السلام) في مقام بيان التشدّد في أمر الأمانة وعدم الخيانة ، ومن الواضح أنه بعد حمل الخيانة على الخيانة الصورية فهي تناسب الكراهة فتكون تلك الروايات ظاهرة في الكراهة وحينئذ فلا داعي لارتكاب الجمع الأول لأنه مبني على افتراض أن الروايات المانعة ظاهرة في التحريم حتى يقال بالجمع بينها وبين الروايات المجوّزة بحملها على الكراهة وأما إذا قيل إنها من الأول ظاهرة في الكراهة بالنكتة المتقدّمة فلا تعارض حينئذ أصلاً بينها وبين الروايات المجوّزة فيمكن الالتزام بكل منهما ونتيجة ذلك هو القول الأول وهو قول المشهور وهو الجواز على كراهة بل ذكر بعض الفقهاء (رض) أنه كيف يكون الأخذ مقاصّة خيانة [3] والحال أنه في قوة أداء الأمانة لأنه [4] قد وفّى بها [5] دين الآخذ للمال ووفاءُ الدين ولو من قِبَل غير من ثبت الدين في ذمته لا يكون خيانة ولذا لا بد من حمل التعبير بالخيانة الوارد في لسان الروايات على الخيانة الصورية .
 وأما الجمع الآخر الذي تطرّقنا إليه في البحث السابق وهو حمل الروايات المانعة على صورة حلف المُدّعى عليه ليُحكم بعدم جواز التقاصّ بعده بلا إشكال وحمل الروايات المجوّزة على ما إذا كان التقاصّ قبل حلف المُدّعى عليه أمام الحاكم فهذا الجمع وإن كان يرفع التعارض بين الروايات وتشهد له رواية عبد الله بن وضّاح المتقدّمة إلا أنه لا يخرج عن كونه جمعاً تبرّعياً صرفاً والرواية المذكورة لا تصلح أن تكون شاهداً لأنها ضعيفة السند جداً فالأصحّ هو ما تقدّم من استفادة الكراهة من تلك الروايات أو حملها عليها والالتزام بالجواز على كراهة .
 هذا استدراك يرتبط بالمسألة السادسة والخمسين ولنرجع الآن إلى ما انتهينا إليه من المسألة السابعة والخمسين وهو ما ذكرناه من أن هناك أموراً ينبغي بيانها بعد أن ختمنا الكلام على المسائل التي ذكرها السيد الماتن (قده) في المقاصة وقد انتهى الكلام إلى الأمر الثاني وهو أن معتبرة الحضرمي تضمّنت الدعاء عند إرادة التقاصّ والمشهور لم يلتزموا بوجوب ذلك واستندوا في عدم الوجوب إلى إطلاق الأخبار الأخرى وحملوا هذه الرواية على الاستحباب ، نعم .. نُقل عن الفاضل الآبي وفخر المحقّقين القول بالوجوب بل في كلمات بعضهم نسبته إلى المحقق في النافع أيضاً إلا أني لم أجده فيه وبعضهم احتمل أن لا يكون المقصود هو التلفظ بهذه الألفاظ قبل التقاصّ وإنما المراد هو القصد أي أن يقصد عندما يريد التقاصّ أن هذا عوض ماله في مقابل أن يقصد الخيانة والظلم .
 وكيف كان فالظاهر أن الحكم في المسألة هو عدم الوجوب بلا خلاف في ذلك - إلا من تقدّم نقل القول عنهم بالوجوب - ، وهذا [6] هو الأقرب فإن الرواية ليس فيها ظهور صريح في وجوب التلفظ بهذا الدعاء فيُحتمل أن لا يكون التلفظ به واجباً بل القصد - كما ذُكر - .
 الأمر الثالث : هل يجوز التقاصّ لو كان ثبوت الحقّ مستنداً إلى أصل عملي لا علم واقعي ، وبعبارة أخرى : هل أن جواز التقاصّ منوط بعلم المدّعي بثبوت الحقّ له بعلم واقعي أم يكفي في جوازه الاستناد في ثبوت الحقّ ولو إلى أصل عملي كالاستصحاب كما لو فرضنا أنه طالبه بالدين فادّعى الوفاء وفُرض هاهنا أن المدّعي ليس لديه يقين بدعوى هذا الطرف الوفاء وإنما كان عنده شك به فيستصحب عدم الوفاء فيثبت له الحق [7] ولكن تمسّكاً بالأصل .
 ذهب صاحب المستند [8] إلى جواز التقاصّ في هذه الصورة باعتبار قيام الأصول الشرعية مقام الواقع أي أن ما يثبت بالأصل الشرعي يُنزّل منزلة الواقع فيترتب عليه جميع ما يترتب على الواقع فإذا كان الواقع يترتب عليه جواز التقاصّ فما يثبت بالأصل العملي الشرعي يُنزّل منزلته فيترتب عليه جواز التقاصّ أيضاً فلا فرق في جواز التقاصّ بين الثبوت الواقعي للدين والثبوت بالأصل العملي له [9] .
 ولكن في مقابله ذهب السيد صاحب العروة (قده) في ملحقاتها إلى عدم الجواز بنكتة أن الأدلة الواردة في المقاصة هي ظاهرة أو منصرفة إلى صورة العلم بالحقّ بأن يكون الشخص الذي جُوِّز له التقاصّ عالماً بالحقّ وحينئذ فمن غير الممكن جعل الأصول العملية قائمة مقامه لأنها لا تقوم مقام العلم ، نعم .. يمكن ذلك في الإمارات بمقتضى دليل اعتبارها فتقوم مقام القطع الموضوعي لأن العلم بالواقع وقع موضوعاً لهذا الحكم الشرعي وهو جواز التقاصّ .
 وبعبارة أخرى : إن جواز التقاصّ ثابت للشخص العالم بالحقّ وأما من قام عنده الأصل العملي أو الإمارة على ثبوت الحقّ فهو غير عالم حقيقة غاية الأمر أن الفرق بين الأصل والإمارة أن الإمارة منزّلة شرعاً منزلة العلم ولذا فهي تقوم مقام القطع الموضوعي وحينئذ يمكن الالتزام بجواز التقاصّ عندما يثبت الحقّ بإمارة [10] دون ما إذا ثبت بأصل عملي .
 إذاً فالفرق بين ما طرحه صاحب المستند وصاحب العروة (قدهما) أن الأول قال بأن الأصول العملية تقوم مقام الواقع لا العلم بالواقع فتجعل المشكوك منزّلاً منزلة المعلوم لا منزّلاً منزلة العلم فالحقّ المشكوك الثابت بالأصل العملي يُنزّل منزلة الحق المعلوم ، وهذا يمكن استفادته من أدلة بعض الأصول العملية كالاستصحاب والبراءة فإذا كان الأصل يقوم مقام الواقع فيترتب على الحق الثابت به [11] ما يترتب على الحق الثابت واقعاً وهو جواز التقاصّ في المقام ، وتنزيل المشكوك منزلة الواقع أمر قد ادّعي في الأصول العملية فقيل بأن مفاد الأصول العملية تنزيل الواقع المشكوك منزلة الواقع المعلوم فإذا كان الواقع المعلوم له أثر فالواقع المشكوك بعد دلالة الأصل العملي عليه يُنزل منزلته فيثبت له ذلك الأثر ، وأما السيد صاحب العروة (قده) فقال بأن المستفاد من أدلة التقاصّ اختصاصه [12] بصورة العلم بالحقّ فيكون العلم بالحق موضوعاً لجواز التقاصّ وحينئذ فما يكون مُنزّلاً منزلة العلم ليس إلا الإمارات - بناءً على مسلك خاص - وأما الأصول العملية فهي لا تقوم مقام العلم الواقع موضوعاً للحكم الشرعي .
 والصحيح ما ذهب إليه السيد صاحب العروة (قده) ولذلك فلا بد من التفريق بين ما إذا قامت البيّنة على الحقّ وبين ما إذا ثبت الحق بالأصل العملي فلا مانع من الالتزام بجواز التقاصّ على الأول دون الثاني .
 
 
 


[1] أي شمول الحجية للرواية .
[2] أي بأن لا يكون تقاصّ .
[3] أي حقيقية .
[4] أي القائم بالتقاصّ .
[5] أي بالمقاصّة .
[6] أي القول بعدم الوجوب .
[7] وهو الدين في المثال - .
[8] وهو المحقق النراقي (قده) صاحب كتاب مستند الشيعة في أحكام الشريعة .
[9] أي للدين .
[10] أي بيّنة .
[11] أي بالأصل العملي .
[12] أي اختصاص التقاصّ .