38/05/24


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/05/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة ( 32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.

وتوجد زيادة ذكرها الشيخ الأعظم(قده) وأنا لم أذكرها في المحاضرة السابقة حيث قال:- إنه حتى لو جزمنا بأنَّ الرشوة ذات معنى واسع يشمل غير باب الحكم فأيضاً مع ذلك يوجد مجال في أن نقول بأنَّ أدلة حرمة الرشوة لا تشمل مثل هذا – أي في غير الحكم – ، فرغم أنّ أدلة الرشوة عامّة وذلك للانصراف حيث قال إنَّ أدلة الرشوة ليس من البعيد أنها منصرفة.

وما قاله الشيخ الأعظم(قده) ليس ببعيد ، يعني أن الرشوة حتى لو قلنا بعموميتها فهي منصرفة إلى الرشوة في الحكم.

ثم إنَّ الشيخ(قده) قال:- إنَّ الحرمة التكليفية تثبت لوجهين لا لأدلة حرمة الرشوة ، من جهة أنها ليس من المعلوم أنه رشوة في غير باب الحكم ، وعلى تقدير العموميّة لغةً يمكن أن يدّعى الانصراف.

فإذن ليس المستند هو أدلة حرمة الرشوة وإنما المستند هو ما دلّ على أن هدية العمّال والأمراء غلول فإنها تدل بالأولوية على الحرمة في مقامنا ، وقد بينا وجه الأولوية فيما سبق مع شيءٍ من التأمل. هذا ما ذكره(قده) وهذا ما ذكرناه سابقاً

والكلام يقع تارةً في الحرمة الوضعية التي أثبتها الشيخ الأعظم(قده) في النحوين الأوّلين حيث قال توجد حرمة وضعية لقوله تعالى ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ ، وأخرى في الحرمة التكليفية التي استند فيها إلى هدية العمال والأمراء وأنها غلول ، وثالثة إذا كانت الأجرة على المباح ، فإذن هنا ثلاثة عناوين.

الكلام بالنسبة إلى الحرمة الوضعية:- تمسّك(قده) لإثبات البطلان بقوله تعالى ﴿ ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل ﴾[1] وإعطاء الأجرة لفعل الحرام مصداقٌ للباطل فتكون المعاملة فاسدة.

ونحن علقنا في بداية دخولنا في المكاسب المحرّمة وقلنا:- إنَّ هذا الاستدلال مورد للإشكال من ناحيتين

الأولى:- إنَّ الباء لا يجزم بكونها باء المقابلة ويحتمل – ويكفينا الاحتمال – أن تكون الباء ليست للمقابلة بل بمعنى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالأسباب الباطلة ،كما كانت متداولة في زمن الجاهلية بواسطة النهب والسلب والغصب وما شاكل ذلك ولعل بعضها موجود إلى زماننا ، فالمنظور هو هذا ، فإذا كان الأكل بالأسباب الصحيحة فكلوا وأما إذا كان بالأسباب الباطلة فلا تأكلوا ، يعني لا يجوز لك أن تتصرف في الثمن أو في المثمن وهذا لازمه بطلان المعاملة والفساد.

والخلاصة:- لعلّ المنظور هو الأسباب الباطلة كالسلب والنهب لا الأسباب الصحيحة كالإجارة والبيع وما شاكل ذلك والمفروض في مقامنا أنَّ السبب ليس سلباً ولا نهباً وإنما السبب صحيح وهو الاجارة فإنَّ المفروض أنَّ هذا الشخص أعطى مقداراً من المال فالمعاملة هنا مصداق للإجارة فالطريق للنقل والانتقال هو الاجارة وليس سلباً ولا نهباً ولا غير ذلك.

ثانياً:- إنه حتى لو سلّمنا أنَّ المقصود من الباء هو المقابلة ولكن يحتمل أن يكون المقصود من الباطل هو الباطل العرفي وليس الباطل الشرعي ، وفي مقامنا هذا المورد يكون باطلاً شرعاً - يعني الرشوة على القتل والأجرة على القتل – ولكن لعلّ الأجرة على الحرام لا تكون مصداقاً للباطل عرفاً في بعض الموارد ، كما لو فرض أني أعطيت أجرة لشخصٍ حتى يجعلني قاضياً فهنا في الحقيقة أنا أدفع له هذه الأجرة على الوصول لمنصب لا يليق بي وهو محرّم وهذه إجارة على شيءٍ محرّم وهي باطلة ولكنه ليس بباطل عرفاً فإنَّ العرف يقول إنَّ هذا الشخص يعطي المال لأجل الوصول إلى منصب القضاء حتى يحكم بين الناس فليس هو مصداق للباطل عرفاً.

والخلاصة التي أريد أن أقولها:- هي أنه ليس كلّ محرّمٍ شرعاً هو باطلٌ عرفاً ، فإذن لا يمكن أن نثبت بهذه الآية الكريمة أنَّ دفع الأجرة للإتيان بشيءٍ محرّم هو باطل عرفاً دائماً ، نعم لعلّه باطل عرفاً في بعض الأحيان كما هو باطل شرعاً ولكن البعض الآخر ليس باطلاً عرفاً كما في المثال الذي ذكرناه.

إذن المناسب ليس الاستدلال على البطلان بالآية الكريمة ، وإنما المناسب ما أشرنا إليه أكثر من مرّة وهو أنَّ مدرك صحة الاجارة هو إطلاق ﴿ أوفوا بالعقود ﴾[2] فإنه لا يوجد عندنا إطلاق في حديث يدل على أنَّ الاجارة مطلقاً هي صحيحة حتى نتمسّك بالاطلاق ، وإنما توجد نصوص خاصة في موارد خاصة مثل صحيحة أبي ولاد التي ورد فيها ( اكتريت بغلاً من قصر بني فلان ..... ) وما شاكل ذلك ، فالمهم في اثبات صحة الاجارة هو إطلاق ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ وما مادام متعلّق الاجارة محرّماً شرعاً فـ( أوفوا ) لا يمكن أن يشمله ، إذ كيف يجب الوفاء بما هو محرّم شرعاً فإنَّ هذا تناقض ، فإذن المدرك ليس ما ذكر وإنما المدرك لإثبات البطلان هو ما أشرنا إليه.

إن قلت:- هذا وجيه إذا فرض أنَّ الاجارة كانت على المحرّم كما في القسم الأوّل ، أما إذا فرض أنَّ الاجارة كانت على القسم الثاني أي على الجامع وكان أحد طرفي الجامع مباحاً فلماذا لا نقول بأنَّ الاجارة صحيحة فيما إذا أتى بالفرد المباح ؟

قلت:- إنه حتى إذا أتى بالفرد المباح فبالتالي الاجارة تكون اطلة لأنها ابتداءً لم تقع على الفرد المباح ، فمتعلّق الاجارة هو الاتيان بالجامع الذي هو أحد القتلين اللذين أحدهما حرام وهذا لا يمكن أن يشمله ( أوفوا ) ، فالإجارة لم تتعلّق بالفرد المباح وإنما تعلقت بالجامع والجامع لا يمكن أن يثبت بلحاظه وجوب الوفاء.

ثم إنه بعد أن اتضح أن الاجارة باطلة في هذا القسم ،يعني إذا كانت الاجارة على الجامع لو فرضنا أنَّ الأجير أتى بالفرد المحرّم فهل يستحق الأجرة أو لا ؟ كلا لا يستحقها لأنَّ الاجارة باطلة ، وأما إذا أتى بالفرد المباح فحينئذٍ هل يستحق الأجرة أو لا فهو قد قتل الشخص الذي يستحق القتل مثلاً فهل يستحق الأجرة أو لا ؟ نعم يستحق الأجرة لا بالاجارة وإنما لقاعدة ( الأمر بالعمل موجب للضمان ) ، وهذه نكتة يجدر الالتفات إليها ، فإنَّ هذا الذي قتل الشخص الذي يستحق القتل هو بسبب الاجارة لا يستحق الأجرة لأنَّ الاجارة فاسدة وإنما يستحق الأجرة بسبب الأمر بالعمل وأنَّ الأمر بالعمل من موجبات الضمان بالسيرة العقلائية ، وهذا موجود من زمان المعصوم عليه السلام ، فتوحد سيرة ويوجد ضمان أجرة المثل فيثبت الامضاء ، وبهذا يحكم بأنَّ من موجبات الضمان - غير مسألة الاتلاف وغير مسألة التغرير - هو أمر الغير بالعمل فإنَّ أمر الغير بالعمل يكون موجباً لأجرة المثل بالسيرة العقلائية.

فنأتي إلى مقامنا:- فأنا قلت له اذهب واقتل واحداً أعمّ من المستحق والبريء وعيّنت له الأجرة وقد قلنا بأنَّ هذا العقد فاسد ولا يستحق الأجرة بسبب هذه الاجارة لأنَّ الاجارة هنا وقعت فاسدة لأنها وقعت على شيءٍ لا يمكن ثبوت وجوب الوفاء له ، فإذا كانت الاجارة فاسدة يبقى الأمر بالعمل وإذا فرضنا أنه أتى بالفرد المباح ففي مثل هذه الحالة يستحق الأجرة من باب الأمر بالعمل لأنني أمرته بأن يقوم بهذا العمل فيستحق حينئذٍ أجرة المثل عليه.

ومن باب الكلام يجر الكلام:- لو قلت لشخص ( اغسل ثوبي بالماء المباح وليس بالماء المغصوب ) ولكنه طهّر الثوب بالماء المغصوب ، ومن الواضح أنَّ الطهارة قد حصلت لأنَّ حصولها ليس مشروطاً بطهارة الماء ، فالطهارة قد حصلت ولكنه هل يستحق الأجرة أو لا ؟

الجواب:- كلا لا يستحق الأجرة ، فإنه لم يأتِ بمتعلّق الاجارة وشرط استحقاق الأجرة في باب الاجارة أن يأتي بمتعلّق الاجارة وهو لم يأت بمتعلّق الاجارة فلا يستحق الأجرة من باب الاجارة ، أما من باب الأمر بالعمل فهو أيضاً لا يستحق شيئاً لأني لم آمره بهذا ، فهو لا يستحق شيئاً لا من باب الاجارة ولا من باب الأمر بالعمل وبالتالي تنحلّ الاجارة بشكلٍ قهري لتحقق الطهارة للثوب ، فالطهارة قد تحققت ولكن لا من الطريق المطلوب فعلى هذا الأساس الاجارة تنحلّ في مثل هذه الحالة.

ولو انعكس الأمر ، يعني لو أني قلت له ( اغسل ثوبي بالماء المغصوب ) أو أمرته بالجامع بأن قلت له ( اغسله ) وهو غسله بالماء المغصوب لا بالماء المباح ، ففي مثل هذه الحالة هل يستحق الأجرة أو لا ؟

الجواب:- كلا لا يستحق الأجرة ، لأجل أنَّ الاجارة إذا كانت واقعة على الجامع - يعني اغسله سواء كان بالحرام أو بالحلال - فهي باطلة ، لأنه قد قلنا قبل قليل إنَّ دليل ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ لا يمكن أن يشملها ، فمن حيث الاجارة فالإجارة باطلة ، وأما من حيث الأمر بالعمل فمادام قد غسله بالماء المغصوب فلا يستحق أجرة حينئذٍ فإنَّ الأمر بالعمل إنما يكون موجباً للضمان إذا كان مشروعا في حدّ نفسه ، أما إذا لم يكن مشروعاً في حدّ نفسه فالسيرة لم تنعقد جزماً على ذلك مادام هو غير مشروع ، ففي الشيء الذي هو مشروع في حدّ نفسه السيرة ثابتة ، وأما في غير المشروع في حدّ نفسه فالسيرة غير ثابتة ، فعلى هذا الأساس لو أتى بالفرد المحرّم - يعني غسله بالماء المغصوب - لا يستحق الأجرة لا من ناحية الأمر بالاجارة إذ هي باطلة حيث وقعت على الجامع وحينئذٍ تكون هذه الاجارة باطلة ، ولا من ناحية الأمر بالعمل فإنه قد أتى بالفرد المحرّم ، نعم لو أتى بالفرد المباح - يعني غسله بالماء المباح - فمن ناحية الاجارة لا يستحق الأجرة لأنها باطلة ، ولكن من ناحية الأمر بالعمل يستحق حينئذٍ الأجرة لأني أمرته بالعمل ، فأنا امرته بالجامع – إما هذا أو ذاك - وهو أتى بالفرد الجائز فيستحق حينئذٍ أجرة المثل في مثل هذه الحالة.

إذن لابد من التمييز بما أشرنا إليه ، وهذه نكتة ظريفة في هذا المجال.