38/07/21


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/07/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.

الرواية الثانية:- محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن ابن بكير عن زرارة قال:- ( قلت لأبي جعفر عليه السلام:- نمرّ بالمال على العُشّار فيطلبون منّا أن نحلف لهم ويخلّون سبيلنا ولا يرضون منّا إلا بذلك ، قال:- فاحلف لهم فهو أحلّ [ أحلى ] من التمر والزبد )[1] .

وطريق الصدوق إلى ابن بكير معتبر في المشيخة ، فالرواية لا كلام فيها من حيث السند.

وأما من حيث دلالتها فهي جيدة.

اللهم إلا أن يقول قائل:- إنَّ قوله ( يطلبون منّا أن نحلف ) يعني أصل الحلف وكأن السائل يشك في أنه يجوز الحلف ولو صادقاً فإنَّ الرواية لم يرد فيها تعبير ( الحلف كذباً ).

ونحن لابد أن ندفع هذا الاحتمال بالاستبعاد ، فإنه من البعيد أنَّ شخصاً يحتمل أنَّ الحلف في حدّ نفسه لا يجوز ويسأل الامام عليه السلام عنه ، فإذن دلالتها تامة.

الرواية الثالثة:- ما رواه صاحب الوسائل عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( إذا حلف الرجل تقيةً لم يضره إذا هو اُكرِه أو اضطر إليه ، وقال:- ليس شيء مما حرّم الله إلا وقد أحلّه لمن اضطر إليه )[2] .

هذه ثلاث روايات وهي تكفينا ، وقد قلنا إنَّ دلتها على جواز الحلف لا ينبغي التأمل فيها ، وإذا ثبت جواز الحلف ثبت جواز الكذب بلا حلف مادام لدفع الضرر بالأولوية ، فإذن من هذه الناحية لا كلام ولا ينبغي اطالة الموضوع.

إنما الكلام في أنه هل يشترط في جواز الحلف كاذباً العجز عن التورية أو أنه يجوز حتى مع إمكانها ؟

والجواب:- يمكن أن يقال بادئ ذي بدئ إنَّ الروايات مطلقة من هذه الناحية ، فهي لم تقيد جواز الحلف كاذباً بما إذا كان عاجزاً عن التورية ، فلا توجد ولا رواية واحدة تدل على ذلك ، فلو كان العجز معتبراً في جواز الحلف كاذباً لأشير إليه خصوصاً وأنه ربما يغفل عنه الناس فيحتاج أن ينبّه عليه الامام عليه السلام.

بيد أنه ذكر الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[3] :- أنَّ الروايات وإن دلت على جواز الحلف كاذباً من دون اشتراط بالعجز عن التورية ولكن توجد رواية ربما يستفاد منها ذلك وهي الرواية الأخيرة المتقدّمة أعني رواية سماعة المنقولة عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى ، لأنّّ الامام أخذ قيداً حيث قال ( إذا حلف الرجل تقية لم يضرّه إذا هو اُكره أو اضطر إليه ) فيلزم أن يكون مضطراً والاضطرار لا يصدق مع التمكّن من التورية ، والنسبة بين الطائفتين - والطائفة الأولى يعني الرواية الأولى والثانية وما كان بمضمونهما التي جوزت الحلف كاذباً للتقية من دون قيد الاضطرار والطائفة الثانية هي الرواية الثالثة - هي العموم والخصوص من وجه ، لأنَّ الأولى تجوّز الحلف كاذباً عند التقيّة يعني عند الحاجة التي هي تقيّة سواء اضطر ولم يتمكن من التورية أم لم يضطر فهي من هذه الناحية مطلقة يعني اضطر إلى الحلف كاذباً كما إذا كان عاجزاً عن التورية أو لم يضطر كما إذا كان متمكناً من التورية فهي مطلقة من هذه الزاوية ، فمجرّد الحاجة - أعني التقية - يكفي لجواز الحلف كاذباً هذا بمقتضى الطائفة الأولى ، بينما الطائفة الثانية تدل على أنه إذا اضطر يجوز له ذلك ومفهومها هو أنه إذا لم يضطر فلا يجوز سواء كانت عنده حاجة ولكن لم تبلغ درجة الاضطرار أم لم تكن له حاجة ، ومادّة عدم المعارضة هي فيما إذا فرضنا أنه توجد حاجة ويوجد اضطرار فهنا الطائفتان تجوّزان ، وهناك مورد آخر لعدم المعارضة وهو أنه لا يوجد اضطرار ولا توجد حاجة فكلا الطائفتين لا تجوّزان ، أما مورد المعارضة فهو فيما إذا كانت هناك حاجة يعني توجد تقيّة ولكن من دون اضطرار فهنا سوف يصير تعارضاً فالطائفة الأولى تجوّز لأنَّ هذه حاجة - تقية - والطائفة الثانية تقول إذا امكن التورية فلا يوجد عندك اضطرار فلا يجوز الحلف كاذباً ، فسوف يصير في مورد الحاجة مع امكان التورية مادة معارضة والطائفة الأولى تجوّز والطائفة الثانية لا تجوّز ، فهنا سوف يتساقطان في مورد المعارضة ونرجع إلى عموم حرمة الكذب ، وسوف تصير النتيجة أنه مادام ليس مضطراً فلا يجوز الحلف كاذباً.

هذا ما ذكره الشيخ الأعظم(قده) والكلمة المهمة عنده هي هنا وهي التي وقعت مورداً للقيل والقال .

وقبل أن نذكر ما قيل نعلّق تعليقاً فنياً وعليماً ونقول:- إنَّ الشيخ الأعظم(قده) فيما سبق لم يذكر عمومات لحرمة الكذب ، فهو أصلاً لم يتطرق إلى هذا الموضوع وحينما استدل على حرمة الكذب هزلاً استدل بروايتين ولم يأتِ بعمومات فما عدى ممّا بدى ؟! فهذه قضية فنّية ، فمن جانب فأنت الآن تتمسك بالعمومات والحال أنك لم تنقح أنه يوجد عموم أو لا فيما سبق ، فعليك أن تثبت العموم أوّلاً ، بل ربما يقال هذه قضية عمليّة لأنه لم يثبت وجود عمومٍ نستفيد منه حرمة الكذب بشكلٍ مطلق.

وقد أشكل على الشيخ الأعظم(قده) بعدة إشكالات:-

الاشكال الأوّل:- ما أفاده الحاج ميرزا علي الايرواني(قده)[4] وحاصل ما ذكره: إنَّ رواية سماعة - التي هي الطائفة الثانية - إذا أردنا أن نتمسّك بإطلاقها لإثبات المعارضة والحرمة من دون اضطرار فذلك باعتبار مفهومها ولكنها ليس لها مفهوم ، لأنَّ هذه الرواية تشير إلى حديث ( رفع ما اضطروا إليه ) وهذا الحديث أقصى ما يفيد هو الرفع في مورد الاضطرار أما أنه في مورد عدم الاضطرار لا رفع فهي ليس فيها دلالة.

إذن رواية سماعة - أي الطائفة الثانية - لا مفهوم لها ، وإذا لم يكن لها مفهوم فلا تتحقق المعارضة بنحو العموم من وجه ، إنما تتحقق المعارضة فيما لو كان للطائفة الثانية مفهوم فإنها بإطلاق مفهومها تقع طرفاً للمعارضة وتتحقق المعارضة بنحو العموم من وجه ، فإذا قلنا لا مفهوم لها رأساً فحينئذٍ لا تتحقق المعارضة بنحو العموم من وجه ، فيبطل بذلك ما أفاده الشيخ الأعظم(قده) من أنهما متعارضتان بنحو العموم من وجه ونرجع في مادّة المعارضة إلى عوم حرمة الكذب فإنَّ هذا سوف لا يتم.

وفيه:- لو رجعنا إلى الرواية وجدناها تقول:- ( إذا حلف الرجل تقية لم يضرّه إذا هو أُكره أو اضطرّ ، وقال:- ليس شيء مما حرّم الله إلا وقد احلّه لمن اضطرّ إليه ) ، فلعلّ الحاج ميرزا علي الايرواني وقعت عينه على ذيل الرواية الذي هو ( ليس ما حرّم الله إلا وقد .. ) فإذا نظرنا إلى الذيل فليس من البعيد كما يقول إذ الذيل أقصى ما يدل عليه هو أنّ كل شيء حرام فالله رفع حرمته عند الاضطرار وهذه ليس فيها مفهوم على أنه إذا لم يكن اضطرار فلا حرمة ، لكن انظر إلى صدر الرواية ففي صدرها ورد: ( إذا حلف الرجل تقية لم يضرّه إذا هو أُكره أو اضطر إليه ) فهنا قد قيّد فحينما قيّد بأنه ( لم ضرّه إذا أُكره أو اضطرّ ) يعني إذا لم يكره أو لم يضطر كما في موارد التمكّن من التورية يصير المفهوم أنه يضرّه ذلك ، فما أفاده الميرزا علي الايرواني غريب.

بيد أنه يظهر من السيد الخميني(قده) في مكاسبه المحرّمة من باب الانتصار للحاج ميرزا علي الايرواني:- إنه يمكن أن يقال إنَّ هذه الرواية لا مفهوم لها ، والوجه في ذلك أمران:-

الأوّل:- نحن لا نرى أنَّ للشرطية مفهوماً ، ولكن مع غضّ النظر عن ذلك يمكن أن نقول إنه حتى قلنا بأنَّ الشرطية لها مفهوم ولكن في خصوص المورد لا مفهوم لها ، والوجه في ذلك: هو أنه صحيح أنه في الرواية ذكرت كلمة ( إذا ) ولكنها راجعة لمن ؟ إذا أخذتها مرتبطة ومتعلّقة بقوله ( لم يضرّه ) فسوف يتولّد مفهوم لأنَّ المعنى سوف يصير هكذا ( لم يضّر إذا أُكره أو اضطر ) يعني بشرط أنه أُكره أو اضطر ، ولكن نقول هو لم يرجع إلى ( لم يضرّه ) وإنما يرجع إلى ( التقية ) فهو بيان للتقيّة بلسانٍ آخر ، فإنّ الرواية قالت هكذا - وهذا توضيح منّي - ( إذا حلف الرجل تقية لم يضرّه إذا هو أكره أو اضطر ) فيمكن أن نقول إنّ ( إذا ) ليست راجعة إلى ( لم يضره ) بل راجعة إلى ( تقيّة ) ، فكأنّ كلمة التقيّة تعني الاكراه أو الاضطرار ، فكأن الامام عليه السلام كرّر كلمة التقيّة ثانيةً وقال ( إذا حلف الرجل تقية لم يضرّه إذا كان هناك تقيةً ) ، وهذا الاستعمال موجود عندنا ، فقد يسألنا بعض الناس ويقول ( هل يجوز الكذب لو كنت مضطراً ) فأقول له ( ذلك جائز إذا كنت مضطراً ) فهنا أيضاًً كذلك ، فالسائل فرض التقيّة والامام عليه السلام يقول له ( لم يضرّه ذلك إذا كان تقية ) ولكن الامام عليه السلام أبدل كلمة ( تقية ) بعبارة ( إذا أكره أو اضطر ) لأجل أنَّ التقية هي عبارة أخرى عن الاكراه أو الاضطرار ، ونصّ عبارته:- ( وعليه لا يكون قوله إذا هو أكره أو اضطر إليه إلا لبيان حال القيد ولا يكون شرطية مشتقة وفي مثلها لا مفهوم لها إذ يكون ذكره تبعاً للقيد وبياناً لحاله )[5] .


[4] الحاشية على المكاسب، علي الايرواني، ج1، ص236.