39/05/11


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/05/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 45 ) بعض مستحبات التجارة - المكاسب المحرّمة.

الأدب الثالث عشر:- الزيادة وقت النداء لطلب الزيادة.

والمقصود من هذه الجملة أنه عادةً تباع بعض السلع بالمزاد فينادي البائع بسلعته أو صاحب المزاد ( أني أبيع سلعتي هذه بدينار فمن يزيد في ذلك ) فالأدب الشرعي يقول إنه في وقت نداء البائع بسلعته لا يتكلّم من يريد الزيادة إلى ينتهي البائع من ندائه ثم يزيد هذا الشخص الثمن بعد سكوته ..... وهكذا ، فإنَّ الزيادة وقت النداء لطلب الزيادة مكروه.

والمستند لهذه الكراهة هو رواية الشعيري ، وهي ما رواه محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن بعض أصحابنا عن منصور بن العباس بن الحسن بن علي بن يقطين عن الحسين بن ميّاح عن أمية بن عمرو الشعيري عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول إذا نادى المنادي فليس لك أن تزيد وإنما يحرِّم الزيادة النداء ويحلِّلها السكوت )[1] ، والوارد في الرواية هو ( وإنما يحرّم الزيادة النداء ) فهنا يلزم أن نقول بأنَّ التحريم الوارد هنا ليس من البعيد أنه يراد منه في الزمان السابق الكراهة ولا تحتمل الحرمة الشرعية ، بل لابد من كون المقصود هو المبغوضية الجامعة الشاملة للكراهة - وهكذا كلمة ( يحلّ ) أيضاً - وإلا فلا يوجد احتمال الحرمة ، وقد قلنا إنه لابد للفقيه من معرفة المرتكزات والمسلّمات فإنها هي المحكّمة في مقام الاستفادة من الرواية ، فإذن هذ الرواية واضحة في الكراهة بعد حمل التحريم على المبغوضية الجامعة.

وهناك كلام جانبي لا يربط بكلامنا كدرسٍ فقهي وكفقه:- وهي أنَّ هذه الكراهة هل لها نكتة أو هي تعبّدية صرفة محضة ؟ ومن الواضح أننا بينا مراراً أننا لا نأتي ونقول ما هي العلّة من الأحكام الشرعية فإنَّ هذا ليس بصحيح ولا داعي إليه لأنَّ هذه قضايا غيبية ونحن لا نستطيع أن نطّلع على علل ونكات الأحكام بل الله تعالى هو الذي يعرفها ، فبعدما اعتقدنا أنَّ الله تعالى عادل حكيم جزماً ولا يفعل شيئاً إلى على طبق الحكمة فنحن نسلّم بكل ما يحكم به ولا نسأل عن سبب ذلك ، كسؤالنا عن صلاة الصبح مثلاً لماذا صارت ركعتان ولماذا صارت دية المرأة نصف دية الرجل ، فإذن نحن من الأوّل لابد وأن يكون الجواب الأساسي لنا هو أننا بانون على التسليم لأحكام الله تعالى ، قال تعالى ﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين ن اذلين يؤمنون بالغيب ﴾ وهذا مصداق للغيب ، وقال تعالى ﴿ إنك تستطيع معي صبرا ﴾ يعني أنَّ هذه من المغيبات وأنت لا تعرف المغيّبات فاسكت وسلّم بذلك ، والقرآن الكريم حينما ينقل لنا هذا فنحن أيضاً لابد وأن نتأدّب بهذا الأدب ، وكذلك قوله تعالى ﴿ وسلّموا تسليماً ﴾ فليس من البعيد أنَّ المقصود منه هو هذا المعنى لا أنه ( سلّموا سلاما ً) وإنما قال ( تسليماً ) يعني سلّموا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كل ما يقول ولا تناقشوا في النكتة ، كما فعل ابن أبي يعفور حيث قال للإمام الصادق عليه السلام:- سيدي هذه رمانة بيدي فلو قسمتها قسمين متساويين وقلت لي إنَّ هذا النصف حرام وذاك حلال فأنا أقول كذلك من دون أيّ اعتراض فدعى له الامام عليه السلام بالخير ، فالمؤمن لابد وأن يكون هكذا ، ولكن هذا لا يمنع أن يقول الإنسان ( لعلّه توجد نكتة ظاهرية يمكن أن يقال بها ولكني مسّلم بالحكم ) وهذا لا بأس به ، ولكن دع الجواب الأساسي هو التعبّد المحض والغيب المحض ونحن مسلّمون تسليماً به ، وإذا أردت أن تبيّن هذه الأمور فهي أمور اضافية ، وقد بينّت مرّة أنَّي رأيت الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(قده) في جنّة المأوى يسألونه لماذا صار هذا الحكم كذا وذاك الحكم صار كذا فكان يجيبهم عن ذلك ولكنه لم يركّز على نكتة التسليم للغيب أوّلاً ، وكان من المناسب له أن يذكر هذا لهم أوّلاً فيقول نحن لابد أن نسلّم للغيب لأننا نعلم بأنَّ الله تعالى حكيم ثم بعد ذلك إذا أراد أن يجيب فيقول ( ويحتمل أن تكون النكتة كذا ) لا أنه يذكر النكتة ابتداءً فإنًّ تزريق تلك المعلومة من دون ذكر التسليم للغيب ليس بصحيح ، فروح التسليم للغيب لابد وأن تكون موجودة ، وهذه قضية مهمة.

عود إلى صلب الموضوع:- فهنا صحيح أنَّ هذا تعبّد ولكن هل توجد نكتة نبينها من هنا وهناك ؟

قال صاحب الحدائق(قده):- إنَّ هذا تعبّد.

وهذا مبني على مسلكه:- فإنه لا يدخل في القضايا العقلية ، ونصّ عبارته:- ( والامام عليه السلام قد نهي من الزيادة في حال النداء وجوّزها في حال السكوت والوجه فيما قاله عليهم السلام هنا غير ظاهر لدينا ولا معلوم عندنا وينبغي أن يحمل ذلك على مجرّد التعبد الشرعي تحريماً او كراهة )[2] .

فإذن هو يدّعي إلى أنَّ النكتة هنا لا يمكن أن نعرفها وإنما القضية تعبدّية محضة.

ولكن لقائل أن يقول:- إنه يحتمل أن تكون النكتة هي أنَّ صاحب المزاد حينما يقول ( أبيع بدينار ) فإذا تكلّم الآخر وأزاد أثناء كلامه فسوف يحصل تشويش حينئذٍ وهذا خلاف الاحترام له ، وهذه نكتة عقلائية ، فأنا حينما أتكلم فأنت لا تتكلم أثناء كلامي ، وهكذا العكس ، فإنَّ هذا أدبٌ يلزم أن يراعى بشكلٍ مطلق ، وهذه قضية ليست مهمة.

وهناك قضية جانبية أخرى ليست مهمة:- وهي أنه يظهر من مراجعة السرائر أنه لم يلاحظ هذه الرواية لأنه بيّن هذا المطلب فقال إنَّ الشيخ الطوسي ذكر حكمين حمكاً في نهايته وهو أنه هناك نهي عن الكلام أثناء النداء بالزيادة ، وذكر حكماً في مبسوطه وهو أنه لا يجوّز الدخول في سوم المؤمن - يعني لو اتقف الاثنان على السعر فأنت يكره لك أو يحرم عليك الدخول في سومه بأن تزيد الثمن وتأخذ المبيع وسيأتي هذا - ثم علّق وقال:- ( أما الحكم الثاني فنعم فإنَّ دخول سوم المؤمن لا يجوز فإنه توجد رواية في ذلك ، وأما الأوّل فلا كراهة ولا حرمة فإنَّ المنهي عنه هو الدخول في السوم وهذا ليس دخولاً في السوم ) ، ومن الواضح أنه لم يكن ملتفتاً إلى هذه الرواية ، ونصّ عبارته:- ( وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته " وإذا نادى المنادي على المتاع فلا يزيد في المتاع فإذا سكت المنادي زاد حينئذٍ إن شاء " ، وقال في مبسوطه " وأما السوم على سوم أخيه فهو حرام ..... " ، وهذا هو الصحيح دون ما ذكره في نهايته لأنَّ ذلك على ظاهره غير مستقيم لأنَّ الزيادة في حال النداء غير محرّمة ولا مكروهة فأما الزيادة المنهي عنها هي[3] )[4] ، وعبارته واضحة فيما ذكره فإنه تخيّل أنَّ الشيخ الطوسي(قده) أراد أن يثبت الحكم الأوّل من خلال الرواية الدالة على الحكم الثاني فقال إنَّ تلك الرواية لا تدل على هذا الحكم ، وهذا مطلبٌ قد نبّه عليه غير واحد.

وقال صاحب الحدائق(قده):- ( ورَدُّ ابن إدريس على الشيخ في النهاية إنما نشأ من عدم وقوفه على الخبر المذكور وتوهّم منافاة ذلك لما ذكره في المبسوط وهو في غير محلّه ، لأنَّ كل ما ذكره في كلٍّ من الكتابين غير الآخر كما لا يخفى )[5] .

الأدب الرابع عشر:- يكره التعرّض للكيل أو الوزن أو العدّ أو المساحة إذا لم يحسنه حذراً من الخطأ.

وهذا واضح فإنَّ هذه الأمور تحتاج إلى من يحسنها فيكره لمن لا يحسننها ذلك ، بل يتولاها من يكون ضابطاً لها.

والكلام مرة يقع في مقتضى القاعدة لو لم يكن هناك نص:- فهل تقتضي جواز التصدّي لمثل هذا الشخص إذ لعله يُنقِص ولا يعطي الحقّ كاملاً فهل يجوز له التصدي أو لا يجوز ؟

والجواب:- المناسب عدم الجواز ، وذلك لوجهين:-

الأول:- التمسّك بالاستصحاب ، فإنه يشك هل أعطاه حقه كاملاً أو لا فيستصحب عدم وصول حقه إليه ، فهو بهذا الاعطاء لا تبرأ ذمته إنما تحصل براءة الذمّة فيما لو فرض أنه كان ضابطاً حتى لا يأتي الاستصحاب وإلا فسوف يأتي الاستصحاب.

الثاني:- قاعدة ( الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ) ، فإنَّ ذمته قد اشتغلت للبائع بكيلو أرز مثلاً فيلزم البائع أن يفرغها يقيناً وإذا لم يكن ضابطاً لا يتيقن بتفريغ الذمّة ، فلابد وأن يكون المتصدّي هو من يعرف الكيل والميزان والعدّ.

فإذن القاعدة الأوّلية تقتضي عدم الجواز ، نعم إذا فرض أنه حصل احتياط بأن أعطى أكثر إلى أن يتيقن من اعطاء الحق كاملاً فهذا مقبول وكذلك إذا رضي المشتري بوزنه ولو كان قليلاً ولكن هذا خارج عن محل كلامنا ، إنما الكلام فيما إذا فرض أنَّ المشتري قال ( اعطني حقي ) فهنا يأتي هذا الكلام وأنَّ مقتضى القاعدة أنه لا يجوز ذلك.

والغريب ما جاء في الجواهر حيث ذكر ما نصّه:- ( الخوف من ذلك لا يقتضي الحرمة )[6] .

وأما من حيث الرواية:- فهي:- ( محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن الحكم عن مثنى الحنّط عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له:- رجل من نيّته الوفاء وهو إذا كال لم يحسن أن يكيل ، قال: فما يقول الذين حوله ؟ قلت: يقولون لا يوفي ، قال: هذا لا ينبغي له أن يكيل )[7] .

ورب قائل يقول:- إنَّ الامام عليه السلام قال ( لا ينبغي ) وهي ظاهرة في الكراهة دون التحريم فنترك القاعدة تمسكاً بالرواية.

وجوابه:- إنَّ لفظ ( لا ينبغي ) كما يصلح للكراهة يصلح للتحريم أيضاً ، نعم في عرفنا الآن ربما صار خاصاً بالحكم الكراهتي ولكن لغة هو صالح للأعم ، فإذن هذه الرواية لا تتنافى مع القاعدة.

هذا مضافاً إلى أنَّ سندها ضعيف فلا تصلح أن نخرج بها عن مقتضى القاعدة.

ولا تقل:- لماذا لم تتساهل هنا ؟

فأقول:- إنَّ القاعدة هنا تقتضي التحريم وعليه فهذه الرواية الضعيفة لا تنفعنا في الخروج عن هذه القاعدة.

ولا تقل:- إنَّ هذه الرواية قد رواها الشيخ الطوسي(قده) بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى ، وأيضاً قد رواها الشيخ الصدوق(قده) بإسناده عن ميسر.

فأقول:- هذا صحيح ولكنها تنتهي إلى ( مثنى الحنّاط عن بعض أصحابنا ) ، فإذن في طريق الشيخ الطوسي فيه ارسال ، وأيضاً في طريق الصدوق كذلك ، فهي ضعيفة ، فإذن لا يحصل اطمئنان بصدورها حتى نرفع اليد عن القاعدة ، فالمناسب لا أقل هو الاحتياط الوجوبي إن لم نفتِ بالتحريم دون الكراهة.


[3] أي التي هي الدخول في السوم.