جلسة 38

المفطرات

(الخامس): رمس تمام الرأس في الماء، من دون فرق بين الدفعة والتدريج، ولا يقدح رمس أجزائه على التعاقب وإن استغرقه، وكذا إذا ارتمس وقد أدخل رأسه في زجاجة ونحوها كما يصنعه الغواصون [1] .

تشتمل المسألة المذكورة على النقاط التالية:

النقطة الاُولى: أن رمس تمام الرأس في الماء مفطّر للصوم.

وقد وقع الخلاف بين الفقهاء في ذلك ، فقد نسب صاحب (المدارك) [2]  القول بالمفطّرية إلى الأكثر، وذكر صاحب (الحدائق)[3] إنّ المسألة ذات أقوال أربعة:

أحدها: القول ببطلان الصوم ووجوب القضاء والكفارة.

وثانيها: القول بالتحريم خاصة مع صحة الصوم.

وثالثها: القول بالجواز على كراهة.

ورابعها: القول بوجوب القضاء خاصة.

ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف الروايات، ولذا لابد من استعراض مهمها لكي نقف على واقع الحال:

أ ـ صحيحة محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب، والنساء، والارتماس في الماء» [4].

ب ـ صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال: «لا يرتمس المُحرم في الماء ولا الصائم» [5]، ونحوها صحيحة عن أبي عبد الله ـ  عليه السلام  ـ  قال: «لا يرتمس الصائم ولا المُحرم رأسه في الماء» [6].

ج ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال: «الصائم يستنقع في الماء، ويصب على رأسه، ويتبرد بالثوب، وينضح بالمروحة، وينضح البوريا تحته، ولا يغمس رأسه في الماء» [7] .

د ـ صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال: «الصائم يستنقع في الماء ولا يرمس رأسه» [8] .

هـ ـ موثقة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال: «يكره للصائم أن يرتمس في الماء» [9]، وقد رواها الشيخ ـ قدس سرّه ـ بسنده إلى علي بن الحسن بن فضال، عن محمد بن عبد الله، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام.

وهناك مشكلتان في سند الموثقة المذكورة:

الاُولى: أنّ محمد بن عبد الله لا يُعرف من هو، وبذلك تصبح الرواية ضعيفة السند، هكذا قد يقال.

ويمكن الجواب عن ذلك: بأنّه بالإمكان تشخيصه من خلال مراجعة من يروي عنهم ابن فضّال، وبالمراجعة يتضح أنّه يروي عن محمد بن عبد الله بن زرارة وعن محمد بن عبد الله الحلبي، وكلاهما يمكن الحكم بوثاقته.

أما محمد بن عبد الله الحلبي فلما أشار إليه النجاشي في رجاله من أنّ الحلبيين بيت معروف في الكوفة كلهم ثقات، وبهذا يمكن التمسك به لإثبات وثاقة جميع الحلبيين ومنهم محمد بن عبد الله الحلبي.

وأما محمد بن عبد الله بن زرارة فقد وثقه علي بن الريان، ومعه فلا مشكلة من هذه الناحية.

أجل قد يقال: أنّ هناك احتمالاً ثالثاً، وهو أنّ ابن فضّال يروي أحياناً عن محمد بن عبد الله من دون تقييد بالحلبي ولا بابن زرارة، كما هو في موردنا وموارد اُخرى، ومعه نحتمل وجود شخص ثالث بالاسم المذكور غير هذين يروي عنه ابن فضّال، وحيث إننا لا نعرفه فيكون مجهول الحال وتسقط الرواية عن الاعتبار، وهذه مشكلة سيالة ولا تختص بمقامنا.

ولكن يمكن أن يجاب ـ والمسألة من هذه الناحية ترتبط بنفسية الفقيه ـ بأنّه إذا ورد في إسناد اُخرى التصريح بالرواية عن ابن زرارة أو عن الحلبي فهذا التصريح يشكّل قرينة عرفية قد تورث الاطمئنان للفقيه بكون المنظور في المطلق هو أحد الرجلين، واحتمال كونه شخصاً ثالثاً وإن كان ثابتاً ولا يزول، ولكن كما قلنا يحصل للفقيه الاطمئنان بكون المراد أحد الرجلين.

الثانية: أننا لو رجعنا إلى (المشيخة) و (الفهرست) للتعرّف على طريق الشيخ ـ قدس سرّه ـ إلى ابن فضّال وجدنا أنّ في السند علي بن محمد بن الزبير، وهو لم يوثق، ومن هذه الناحية سوف تسقط روايات الشيخ عن ابن فضّال عن الاعتبار وهي كثيرة.

ويمكن التغلب على هذه المشكلة بناءً على المسلك المعروف بين المتقدمين من وثاقة مشايخ الإجازة ولا أقل المعروفين منهم، فإنّ الرجل المذكور من مشايخ ابن عبدون، أما إذا لم نقبل بهذا المسلك فيعود الأمر مشكلاً، ومن هنا كان السيد الخوئي ـ قدس سرّه ـ في أزمنته الاُولى يبني على ضعف الطريق المذكور، ولكنه بعد ذلك تغّلب على المشكلة بتطبيق نظرية التعويض ببيان أشار إليه في بعض مقدمات (معجم رجال الحديث) والذي تكررت الإشارة إليه منه ـ قدس سرّه ـ في مجلس درسه الشريف.

و ـ محمد بن الحسن بإسناده عن سعد، عن عمران بن موسى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله ـ عليه السلام ـ: رجل صائم ارتمس في الماء متعمّداً، عليه قضاء ذلك اليوم؟ قال: «ليس عليه قضاؤه ولا يعودن» [10] .

ولا توجد مشكلة من ناحية سندها إلاّ من جهة عمران بن موسى، فأنّه مردد بين أكثر من واحد، وبعضهم لم يوثق.

هذا ولكن من خلال المراجعة يمكن أن يستظهر كونه الزيتوني الثقة، وعليه فلا إشكال من هذه الناحية.

هذه أهم الروايات في المسألة، ولو قطعنا النظر عن الرواية الأخيرة لكان المناسب الجزم بمفطّرية الارتماس.

إما للقاعدة التي أشار إليها السيد الخوئي وغيره من أنّ النهي في باب المركبات من أجزاء وشرائط ظاهر عرفاً في الإرشاد إلى الشرطية أو المانعية، فحينما يقال: لا تتكلم في الصلاة، أو لا تضحك، أو لا تأكل، أو لا تصلِّ فيما لا يؤكل لحمه، يستفاد عرفاً أنّ الكلام مُبطل للصلاة وأنّ شرط الصحة عدم الكلام، وهكذا بلحاظ بقية الأمثلة، وإذا سُلم بهذه القاعدة فُتطّبق على المقام فيقال: إنّ الروايات قد نهت عن رمس الرأس في باب الصوم الذي هو مركب من مجموعة تروك، فيكون النهي المذكور إرشاداً إلى مانعية الارتماس ومفطّريته.

أو يقال: إنّ صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة ورد فيها التعبير بفقرة «لا يضر الصائم»، وظاهر ذلك هو الإضرار الوضعي دون التكليفي؛ لأنّ الإضرار التكليفي ليس إضراراً بحسب الحقيقة بالصوم، إذ الصوم يبقى كما هو من دون حصول خلل وضرر فيه، ولأن كان هناك إضرار فهو بلحاظ ذات المكلّف دون الصوم والصائم، وظاهر الحديث وإن كان هو نفي الإضرار عن الصائم ولكن المقصود نفي الإضرار عنه بلحاظ صومه، وكأنّ المقصود هكذا: لا يضر الصائم بلحاظ صومه شيء إذا اجتنب عن ثلاثة أشياء الطعام والشراب، والنساء، والارتماس بالماء.

وبالجملة لو خُلينا نحن والروايات من دون نظر إلى رواية إسحاق بن عمار المتقدمة لكنا نحكم بالمفطّرية، ولكن حينما نلاحظ الرواية المذكورة سوف يقع الإشكال باعتبار أنها تنفي القضاء عن المتعمد للارتماس، وتقول: ليس عليه قضاؤه، وهذا واضح في عدم تأثر الصوم بالارتماس، غايته هو محرّم تكليفاً بقرينة التعبير بقوله «لا يعودن» وبهذا تحصل المعارضة بين هذه الرواية وبين الروايات المتقدمة عليها، فكيف يمكن التوفيق بينهم؟

________________________

[1] منهاج الصالحين 1: 264.

[2] مدارك الأحكام 6: 48.

[3] الحدائق الناضرة 13: 122.

[4] الوسائل 10: 31، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 1، ح 1.

[5] الوسائل 10: 35 ـ 36، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 3، ح 1.

[6] الوسائل 10: 31، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 3، ح 8.

[7] الوسائل 10: 38، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 3، ح 9. والمروحة على ما في (أقرب الموارد) ص 444 هي: آلة يحرك بها الريح ليتبرد به، والنضح بالمروحة يحتمل أن يراد به تبليلها بالماء ثم تحريكها ليلزم رش الماء على الوجه أو على الأقل وصول الهواء البارد إليه، والبوريا على ما في (أقرب الموارد) ص 67: الحصير المنسوج من القصب، والمقصود من نضحه تبليله بالماء والجلوس عليه.

[8] الوسائل 10: 37 ـ 38، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 3، ح 7.

[9] الوسائل 10: 38، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 3، ح 9.

[10] الوسائل 10: 43، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 6، ح 1.