جلسة 39

المفطرات

وقبل أن ندخل في عملية التوفيق العرفي نشير إلى أنه قد يقال: بأنّ موثقة عبد الله بن سنان قد عبرت «يكره للصائم أن يرتمس في الماء»[1]   وهذه تدل على كراهة الارتماس وعدم حرمته، ويجمع عرفاً بالحمل على الكراهة بسبب الرواية المذكورة.

ويمكن الجواب عن ذلك: بأنّ الكراهة بالمعنى المصطلح عليه اليوم هي أمر حادث، وإلا ففي أصل اللغة هي للأعم من الكراهة المصطلحة والتحريم، فكلاهما مكروه بمعنى مبغوض، غايته قد تكون المبغوضيةُ شديدةً تمنع من الفعل وقد لا تكون كذلك، وعليه فلا دلالة للرواية المذكورة على الكراهة بالمعنى المصطلح عليه اليوم.

وباتضاح هذا نعود إلى عملية التوفيق ونقول: لابد من الالتفات إلى أنّ المراحل التي يمر بها الفقيه عند مواجهة الروايات المتعارضة هي كما يلي: يُلحظ أولاً هل يمكن الجمع العرفي بين الروايات أو لا؟ فإن أمكن الجمع وذلك إما بالحمل على التقييد، أو التخصيص، أو الحمل على الكراهة، أو الاستحباب، أو غير ذلك، والمهم أن يكون العرف موافقاً على الجمع، وإلاّ فلا يكفي الجمع بأي شكل اتفق تعيّن، وكان التعارض تعارضاً غير مستقر وتنتهي بذلك المشكلة.

وأما إذا لم يمكن الجمع العرفي استقر التعارض واصطلح عليه بالتعارض المستقر، وآنذاك سوف يصدق على الروايات المذكورة عنوان يأتي عنكم الخبران المختلفان، أي تدخل الروايات المذكورة تحت روايات العلاج[2]، وهي قد حكمت بأعمال المرجحات، وقد انتهينا في مبحث التعارض إلى أنّ ما ثبت كونه مرجحاً أمران هما: موافقة الكتاب أولاً، ومخالفة العامة ثانياً، وعلى هذا الأساس يلزم عند استقرار التعارض ملاحظة المرجح الأول، وهو موافقة الكتاب، فإن كان أخذنا به وحكمنا بمقتضاه وإلاّ انتقلنا إلى المرجح الثاني، فإن كان عملنا بمقتضاه وإلاّ حكم بالتساقط والرجوع إلى ما تقتضيه الاُصول العملية.

وهذه الكبرى بمراحلها المذكورة وإن كانت واضحة إلاّ أنّ المشكلة في كثير من الأحيان في تطبيقها.

ولنعد لمقامنا لنلاحظ هل يمكن الجمع العرفي بين الرواية الأخيرة الدالة على عدم مفطّرية الارتماس وبين الروايات المتقدمة عليها؟

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ الرواية الأخيرة صريحة في عدم المفطّرية حيث قالت: «ليس عليه قضاؤه» [3] فإنّ هذا صريح في نفي وجوب القضاء، وبالتالي في عدم المفطّرية، غايته هو مُحرم تكليفاً لقوله ـ عليه السلام ـ: «ولا يعودنّ»، وهذا بخلاف الروايات السابقة، فإنّ أوضحها في الدلالة هي صحيحة محمد بن مسلم[4]، وهي وإن كانت دالة على المفطّرية ولكنها ليست صريحة في ذلك بل ظاهرة فيه، وحينئذٍ نُطّبق قاعدة الجمع العرفية التي مضمونها (كل ما أجتمع نص وظاهر، وكانا متنافيين قُدم النص واُول الظاهر بقرينة النص)، ومعه تكون النتيجة أنّ الارتماس ليس بمفطّر، غايته هو مُحرم تكليفاً، وتُحمل صحيحة محمد بن مسلم على خلاف ظاهرها، أي تُحمل على الإضرار التكليفي لا الوضعي، إنّها محمولة على ذلك مع السكوت عن الإضرار وضعاً، فإن ثبت من الخارج الإضرار الوضعي في بعض المذكورات في الصحيحة كما في الطعام والشراب والنساء حكمنا به لأجل ذلك الدليل الخارجي، لا لهذه الصحيحة فإنها محمولة كما قلنا على الإضرار التكليفي لا اكثر هكذا يمكن الجمع بين الروايات المذكورة.

ويستفاد من كلمات السيد الخوئي ـ قدس سرّه ـ الإشكال على ذلك بوجهين:

الوجه الأول: أنّ صحيحة محمد بن مسلم هي كالصريحة في الإضرار الوضعي، ومعه يكون المورد من موارد تعارض الصريحين، فالصحيحة صريحة في المفطّرية وموثقة إسحاق صريحة في عدم المفطّرية، ويكون التعارض بذلك مستقراً ولا يمكن الجمع العرفي ونرجع إلى المرجحات، فإن لاحظنا القرآن الكريم فلا يوجد ما يرتبط بذلك ليكون مرجحاً، وإذا لاحظنا العامة فالمنقول في كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) هو الحكم بعدم المفطّرية، وبذلك تكون الموثقة موافقة لهم، وتُقدم الصحيحة من باب أنّها مخالفة للعامة ويحكم بالمفطّرية.

وفيه: أنّ ما أفاده ـ قدس سرّه ـ مبني على أنّ الصحيحة صريحة في المفطّرية ولكن ذلك بعيد، ولا أقل هي من حيث الظهور أضعف من الموثقة، وهذا المقدار لا يمكن التشكيك فيه، وإذا كانت أضعف ظهوراً ـ ولذلك عبّر ـ قدس سرّه ـ هكذا: هي كالصريح في المفطّرية، ولم يقل هي صريحة في المفطّرية، فُتطّبق القاعدة العرفية التي أشرنا إليها من أنّه كلما اجتمعت روايتان وكانت إحداهما أقوى ظهوراً اُول الأضعف بقرينة الأقوى ظهوراً.

الوجه الثاني: أنّ الصحيحة واضحة في عدم اختصاصها بالصوم الواجب وتدل على أنّ طبيعي الصوم واجباً كان أو مستحباً حكمه هو ذلك، أي لا يضر به شيء إذا تحقّق الاجتناب عن الثلاثة، بينما لو حملناها على الإضرار التكليفي فيلزم اختصاصها بخصوص الواجب، فإنّه هو الذي تحرم فيه الاُمور المذكورة، وأما المستحب فلا يحرم فيه ذلك، وعليه فلا يمكن الحمل على الإضرار التكليفي للزوم حصر الصحيحة بالصوم الواجب، وهو أمر مخالف لظاهرها.

وفيه: أنّ ظاهر الصحيحة وإن كان كذلك ولكن بعد قيام القرينة على مفطّرية الارتماس يلزمنا مخالفة الظهور المذكور وتخصيص الصحيحة بخصوص الصوم الواجب، وهو لا محذور فيه بعد قيام القرينة وعليه فالمتعين لحد الآن هو الحكم بالحرمة التكليفية دون الوضعية، أي المفطّرية.

________________________

[1] الوسائل 10: 38، أبواب ما يمسك عنه الصائم...، ب 3، ح 9.

[2] الوسائل 27: 119، أبواب صفات القاضي، ب 9، ح 34.

[3] الوسائل 10: 43، أبواب ما يمسك عنه الصائم...، ب 6، ح 1.

[4] الوسائل 10: 31، أبواب ما يمسك عنه الصائم...، ب 1، ح 1.