جلسة 126

كفارة الصوم

ودلالتها واضحة على المدعى إلاّ أنه يمكن المناقشة في سندها من جهتين، بعد التسليم بوثاقة حمدان بن سليمان لتوثيق النجاشي له [1]، وكذلك عبد السلام بن صالح الهروي[2]، والجهتان هما:

الأُولى: عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس النيسابوري فهو من مشايخ الصدوق ولم يرد في حقه أكثر من ذلك، ولو بُني على وثاقة المشايخ، ففي خصوص الشيخ الصدوق يُستشكل في توثيق مشايخه باعتبار أنه يروي عنهم مع التساهل، فقد ذكر أنه يروي عن شخص لم يلقَ أنصب منه حيث بلغ من نصبه أنه كان يقول: اللهم صلِّ على محمد فرداً [3]، ويمتنع عن الصلاة على آله عليهم السلام.

الثانية: علي بن محمّد بن قتيبة وهو من مشايخ الكشي ولم يرد في حقه توثيق[4]، وقد قيل في ترجمة الكشي: أنه يروي عن الضعفاء كثيراً [5].

وعليه لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية في مقام الفتوى.

الثانية: موثقة سماعة قال: سألته عن رجل أتى أهله في رمضان متعمّداً؟ فقال: «عليه عتق رقبة، وإطعام ستّين مسكيناً، وصيام شهرين متتابعين، وقضاء ذلك اليوم، وأنّى له مثل ذلك اليوم» [6].

بدعوى أنه لابدّ من حملها على حالة الإفطار بمحرم، كإتيان الأهل في الحيض، أو في حالة الظهار قبل التكفّير، كما احتمل ذلك الشيخ الطوسي[7] ـ قدّس سرّه ـ حيث قال ما نصه: (فهذا الخبر يحتمل شيئين:

أحدهما: أن يكون المراد بالواو فيه أو التي هي للتخيير دون الواو التي تقتضي الجمع، وقد تستعمل على هذا الوجه قال الله تعالى (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ)[8]، إنما أراد مثنى أو ثلاث أو رباع.

ثانيهما: أن يكون ذلك مختصاً بمن أتى أهله في وقت لا يحلّ له ذلك في غير حال الضرورة، أو يفطر على شيء محرّم مثل مسكر أو غيره، فإنه متى كان الأمر على ذلك لزمه الثلاث كفّارات على الجمع).

إلاّ أنه يرد عليها: أن صاحب (الوسائل) قد رواها في باب آخر[9] مع كلمة [أو] وليس بواو الجمع، والروايتان كلتاهما عن سماعة، والراوي عنه واحد وهو عثمان بن عيسى، وألفاظ الروايتين متقاربة جداً، فحينئذٍ نقول: إنه إذا حصل الجزم بوحدة الروايتين ـ كما هو ليس ببعيد ـ فالأمر واضح، إذ الرواية إذا كانت واحدة فلا يُدعى آنذاك أن الصحيح هو ذكر الواو، أو أن الصحيح هو ذكر أو، إذ لا مرجح في البين بل تكون مجملة من هذه الناحية ولا يمكن الاستناد إليها في إثبات لزوم الجمع، بل المناسب الرجوع إلى ما تقتضيه الأُصول العملية فيقال: وجوب كفّارة واحدة أمر جزمي ووجوب ضم ما زاد إليها مشكوك فينفى بالبراءة؛ لأنه شك في أصل التكليف، هذا إذا جزمنا بوحدة الروايتين.

وأما إذا لم نجزم بذلك بل أقصى ما حصل هو الظن القوي ففي مثله يمكن أن ندعي الكبرى التي أشرنا إليها سابقاً، وهي أن المدرك المهم لحجية الخبر هو السيرة ولا نجزم بانعقادها على الحكم بالتعدد والتعامل معاملة الروايتين المتعددتين في حالة وجود بعض القرائن المورثة للظن بالوحدة، ويكفينا الشك والتردد في انعقاد السيرة في مثل ذلك فإنها دليل لبي ويلزم الاقتصار فيه على القدر المتيقن.

نعم، لو جزم شخص بأن السيرة تحكم بالتعدد إلاّ مع الجزم بالوحدة فذلك أمر آخر، ولكن كيف يحصل الجزم بانعقاد السيرة على الحكم بالتعدد بعد فرض وجود الأمارات والقرائن المورثة للظن بالوحدة؟ وهذه مسألة مهمة، إذ كثيراً ما نواجه روايات لا يحصل الجزم بوحدتها، وإنما يحصل الظن بذلك لبعض القرائن فإذا لم نحكم بالتعدد فربما الموقف يتغير.

الثالثة: ما جاء في (من لا يحضره الفقيه): (وأما الخبر الذي روي فيمن أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً أن عليه ثلاث كفارات فإني أُفتي به فيمن أفطر بجماع محرم عليه أو بطعام محرم عليه، لوجود ذلك في روايات أبي الحسين الأسدي ـ رضي الله عنه ـ فيما ورد عليه من الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري قدّس الله روحه)[10]، فإن العبارة المذكورة قد دلت على أنه ورد في روايات الأسدي: أن من أفطر على محرم فعليه ثلاث كفّارات.

وقد أشكل السيد الخوئي ـ قدّس سرّه [11] بأن طريق الشيخ الصدوق إلى الأسدي مجهول؛ إذ هما ليسا في طبقة واحدة حتى يروي عنه مباشرة، وإنما توجد بينهما واسطة وهي مجهولة، فيصبح الطريق مرسلاً وتسقط عن الاعتبار.

ولكن يمكن أن يقال: إن الشيخ الصدوق ـ قدّس سرّه ـ له طريق إلى الأسدي حيث ذكر في المشيخة[12] ما نصه: (وما كان فيه عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي رضي الله عنه، فقد رويته عن علي بن أحمد بن موسى، ومحمد بن أحمد السناني والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هاشم المؤدب ـ رضي الله عنهم ـ عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي الكوفي رضي الله عنه).

وعليه فطريق الشيخ الصدوق للأسدي ليس مجهولاً بل هو ما ذكر.

نعم، الثلاثة المذكورون الذين روى عنهم الصدوق لم تثبت وثاقتهم، ولعل مقصوده ـ قدّس سرّه ـ من الجهالة ما يعم هذا المعنى، ولكن لقائل أن يقول: إن اجتماع ثلاثة على رواية شيء واحد يضعف بحسب حساب الاحتمالات اجتماعهم على الكذب ويحصل الاطمئنان بصدقهم، والمسألة من هذه الناحية تتبع نفسية الفقيه، فرب فقيه يحصل له الاطمئنان بعدم الاجتماع على الكذب ما دام الرواة ثلاثة، ورب فقيه آخر لا يحصل له ذلك.

إذن، الطريق ليس مجهولاً والرواية ليست مرسلة.

نعم، يمكن أن تناقش الرواية المذكورة بشكل آخر بأن يقال: ماذا يقصد الشيخ الصدوق ـ قدّس سرّه ـ بقوله: (لوجود ذلك في روايات أبي الحسين الأسدي رضي الله عنه)؟

هناك احتمالان في مقصوده ـ قدّس سرّه ـ:

الاحتمال الأول: أن يكون مقصوده أنه ورد في روايات أبي الحسين الأسدي: أن من أفطر بجماع محرم عليه، أو بطعام محرم عليه، فعليه ثلاث كفّارات...، وبناءً على هذا يتم الاستدلال بالرواية.

الاحتمال الثاني: أن يكون مقصوده أن الوارد في روايات الأسدي: أن من أفطر يوماً من شهر رمضان متعمّداً فعليه ثلاث كفّارات...، من دون تقيد بكون الإفطار على محرم، فالتقيد بالإفطار على محرم لم يذكر في روايات الأسدي وإنما الشيخ الصدوق ـ قدّس سرّه ـ ـ وبلحاظ المورد المذكور ـ أعمل اجتهاده وأفتى بذلك.

وإذا أخذنا بهذا الاحتمال تكون روايات الأسدي معارضة للروايات الدالة على كفاية الكفّارة الواحدة، وقد يجمع بينها بحمل تلك الروايات على من أفطر متعمّداً بالحلال وروايات الأسدي على من أفطر متعمّداً بالحرام، إلاّ أن هذا الجمع لا يمكن الأخذ به؛ لأنه جمع تبرعي لا شاهد عليه.

ولقائل أن يقول: إن الشاهد على هذا الجمع ما جاء في رواية الهروي[13] المتقدمة الدالة على أن من أفطر على حلال لزمته كفّارة واحدة ومن أفطر على حرام لزمته كفّارات ثلاث.

وجوابه: أنه بناءً على هذا يعود المستند الوحيد رواية الهروي دون رواية الأسدي.

والخلاصة من كل ما تقدم: أن مقتضى الصناعة الفتوى بكفاية كفّارة واحدة فيمن أفطر على محرم إذ لا دليل على لزوم الجمع، ولكن لأجل الرواية الأُولى يكون المناسب الانتقال إلى الاحتياط، فالرواية الأُولى لا تكون مستنداً ومدركاً للفتوى بل تكون مستنداً ومدركاً للاحتياط في الفتوى.

_______________________

[1] رجال النجاشي ص138 رقم 357 حيث قال ما نصه: (حمدان بن سليمان، أبو سعيد النيشابوري (النيسابوري) ثقة، من وجوه أصحابنا).

[2] رجال النجاشي ص245 رقم 643، حيث قال ما نصه: (عبد السلام بن صالح، أبو الصلت الهروي روى عن الرضا ـ عليه السلام ـ ثقة، صحيح الحديث).

[3] عيون أخبار الرضا ـ عليه السلام ـ 2: 284/ 3.

[4] رجال النجاشي ص259 رقم 678/ خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، القسم الأول ص177 رقم 527/ 16.

[5] رجال النجاشي ص372 رقم 1018/ خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، القسم الأول ص247 رقم 838/ 40.

[6] التهذيب 4: 183/ 603، الاستبصار 2: 127/ 315، الوسائل 10: 54، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب10، ح2.

[7] الاستبصار 2: 127/ ذيل الحديث 315.

[8] النساء: 3.

[9] الوسائل 10: 49، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب8، ح13.

[10] الفقيه 2: 90/ 318، الوسائل 10: 55، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب10، ح3.

[11] مستند العروة الوثقى ج1 كتاب الصوم ص293.

[12] الفقيه 4: 421.

[13] الوسائل 10: 53، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب10، ح1.