جلسة 151

كفارات الصوم

وذكروا نظير ذلك في قوله ـ عليه السلام ـ: «... إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»[1] ، فالماء البالغ مقدار الكرّ لا ينجس إذا وقعت فيه عين النجاسة كما لا ينجّسه المتنجس، فالمنطوق سالبة كلية وهو عدم تنجّس الكرّ بعين النجس وبالمتنجّس، ومفهوم ذلك أنّه إذا لم يبلغ الكرّ يتنجّس، ولكن هل يتنجّس بكليهما، أو يتنجّس في الجملة الذي القدر المتيقن منه عين النجاسة؟

إنّهم ذكروا في هذه الرواية أّن المفهوم لا يدلّ على تنجّس القليل بالمتنجّس، فإنّ المنطوق سالبة كلية، ونقيض ذلك الذي يدلّ عليه المفهوم هو موجبة جزئية، والقدر المتيقّن منها عين النجاسة.

ونلفت النظر إلى أنّنا حينما نتمسّك بهذه المصطلحات المنطقية فلا نقصد من ذلك جعلها هي المدرك في ذلك حتى يقال لا معنى لتحميل المصطلحات المنطقية على الفقه، فإنّ استفادة الحكم من النصوص يعتمد على الفهم العرفي، والعرف يفهم أنّ المنطوق إذا كان قضية كلّية فالمفهوم أيضاً يكون قضية كلّية، وعلينا اتباع الفهم العرفي دون المصطلحات المنطقية، هكذا قد يقال.

ونجيب عن ذلك بأنّنا ندّعي أنّ الفهم العرفي يساعد على ذلك أيضاً، فليست المسألة مجرّد مصطلحات منطقية، فنحن إذا أوضحنا إلى العرف وقلنا الماء البالغ قدر كرّ لا يتنجّس بشيء من الأشياء لا بعين النجاسة ولا بالمتنجس، فلا يُفهم من ذلك أنّه حتماً لو لم يبلغ الكرّ فيتنجّس بكلّ شيء، بل يُفهم أنّ ذلك الحكم المذكور في المنطوق ـ وهو عدم التنجّس أبداً ـ لا يكون ثابتاً في حالة عدم الكرّية، وهذا نظير ما إذا قيل للإنسان: إذا كنت شابّاً فلا يضرّك أيّ طعام من أنواع الأطعمة فإنّ معدتك صالحة وجيدة، فإنّه لا يُفهم من ذلك أنّه إذا صار شيخاً فيضرّه جميع الأطعمة بما في ذلك الأطعمة الخفيفة، بل أقصى ما يفهم أنّ عدم الإضرار بشكله الوسيع لا يكون ثابتاً الآن، وهكذا الحال في بقية الأمثلة. ومقامنا من هذا القبيل، فإنّ العرف يفهم أنّ المنطوق ما دام قضية كلية فالمفهوم يدلّ على أنّ تلك القضية الكلية لا تكون ثابتة في حالة طلوع الفجر، ولكن لا يفهم أنّها لا تكون ثابتة بلحاظ الجميع.

وإن شئت قلت: إنّ الآية الكريمة وصحيحة محمد بن مسلم إمّا أن تكونا ناظرتين إلى خصوص العالِم بعدم طلوع الفجر، فحينما قال سبحانه وتعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [2] ، يكون الخطاب موجهاً إلى خصوص العالِم بعدم طلوع الفجر. وإمّا أن تكونا ناظرتين إلى الأعمّ.

فعلى الأوّل يكون المفهوم خاصّاً أيضاً بخصوص العالِم ولا ينفع في حقّ الجاهل والمتردّد.

وعلى الثاني فأقصى ما يدلّ عليه المفهوم أنّ تلك الكلية لا تكون ثابتة في الجملة، لا أنّه لا تكون ثابتة بالجملة، وكما قلنا سابقاً أنّ هذا المطلب يحتاج إلى شيء من التأمّل والتدقيق.

الوجه الثاني: أنّ ما دلّ على الصحة في حال المراعاة خاصّ بشهر رمضان، فإنّ الدال على ذلك هو موثقة سماعة، أو بإضافة صحيحة معاوية.

أمّا موثقة سماعة فاختصاصها بشهر رمضان واضح، حيث جاء فيها ما نصّه: سألته عن رجل أكل أو شرب بعدما طلع الفجر في شهر رمضان؟ فقال: «إن كان قام فنظر...»[3] ، فمورد السؤال هو خصوص شهر رمضان، والجواب يكون خاصّاً أيضاً بخصوص شهر رمضان بعدما كان السؤال خاصّاً به.

وأمّا صحيحة معاوية فقد جاء فيها: قلت لأبي عبد الله ـ عليه السلام ـ: آمر الجارية أن تنظر طلع الفجر أم لا، فتقول: لم يطلع بعد، فآكل ثمّ أنظر فأجد قد كان طلع حين نظرت، قال: «اقضه، أمّا أنّك لو كنت أنت الذي نظرت لم يكن عليك شيء»[4] ، والصحيحة المذكورة قد نقلها الشيخ كذلك. وأمّا الكليني ـ قدّس سرّه ـ فقد نقلها مع اختلاف يسير في جواب الإمام، وذلك كما يلي: قلت لأبي عبد الله ـ عليه السلام ـ: آمر الجارية أن تنظر طلع الفجر أم لا، فتقول: لم يطلع بعد، فآكل ثم أنظر فأجده قد كان طلع حين نظرت، قال: «تتمُّ يومك ثمّ تقضيه، أمّا أنّك لو كنت أنت الذي نظرت ما كان عليك قضاؤه»[5] ، فإنّ تعبير الإمام ـ عليه السلام ـ بقوله: تقضيه يدلّ على أنّ الصحيحة ليست ناظرة إلى الصوم الاستحبابي أو القضائي أو الكفّارة أو المنذور غير المعيّن، إذ المناسب في أمثال هذه أن يقال: صُم يوماً آخر ولا تجتزئ بما سبق، بل إنّ نقل الكليني ـ قدّس سرّه ـ أوضح في ذلك حيث قال: تتمُّ يومك...، وهو لا يلزم في غير رمضان.

فالروايتان خاصّتان بشهر رمضان، وبالتالي يكون الحكم بالصحة مع المراعاة خاصّاً بشهر رمضان فقط أو بإضافة المنذور المعيّن. هذا حاصل الوجه الثاني.

وفيه: أنّ ما ذكر وجيه لو فُرض أنّ القاعدة كانت تقتضي البطلان في حالة الجهل بطلوع الفجر حتى يقال إنّ الخروج عن القاعدة يحتاج إلى دليل وهو خاصّ بشهر رمضان، وقد عرفت في الوجه الأوّل أنّ القاعدة لا تقتضي ذلك، إذ المفهوم لا يدلّ على قضية كلّية تعمّ الجاهل، بل القدر المتيقّن منه هو العالِم، ومعه نتمسّك بالأصل في حقّ الجاهل، وهو يقتضي البراءة، ففي باب الصوم القضائي يشكّ المكلّف هل كُلِّف بترك الأكل بعد الفجر في حالة جهله بطلوعه؟ وحيث إنّ هذا شكّ في أصل التكليف فتجري البراءة عن ثبوته. نعم، العالم بطلوع الفجر لا يحقّ له الأكل جزماً، وأمّا الجاهل فحيث يشكّ في ثبوت ذلك في حقّه فتجري البراءة، وهكذا بالنسبة إلى صوم الكفّارة والنذر وما شاكل ذلك من مصاديق الصوم الواجب، فإنّه يشكّ في ثبوت الحكم بحرمة الأكل في حقّ الجاهل فتجري البراءة.

نعم، في خصوص الصوم المستحب قد يُشكّك في التمسّك بالبراءة فإنّ هناك كلاماً مذكوراً في علم الأصول في مبحث البراءة، وهو هل أنّ البراءة تجري في باب المستحبّات أو هي مختصّة بباب الواجبات؟ فإذا قلنا بعمومها أمكن تطبيقها حتى في الصوم المستحب، وإلاّ اختصّت بالصوم الواجب.

________________________

[1] وسائل الشيعة 1: 158، أبواب الماء المطلق، ب9، ح1، 2.

[2] البقرة: 187.

[3] وسائل الشيعة 10: 115 ـ 116، أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، ب44، ح3.

[4] وسائل الشيعة 10: 118، أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، ب46، ح1.

[5] الكافي 4: 98/ 4.