36/04/04


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 1 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
الوجه الثاني:- قوله تعالى:- ﴿ ويحرّم عليهم الخبائث ﴾[1]، بتقريب:- أنّ الخبائث عنوانٌ صادقٌ على الأعيان النجسة فإنّها عبارة عمّا يستخبثه ويستقذره ويكرهه الطبع وهذا صادقٌ على الأعيان النجسة.
ثم نضّم إلى ذلك مقدّمة:- وهي أنّ حذف التعلّق يدلّ على العموم لأنّ التحريم هنا نسب إلى الخبائث وهناك مضافٌ محذوفٌ جزماً فإنّ الحكم لا ينتسب إلى الذوات وإنّما ينتسب إلى الأفعال فلابد من تقدير فعلٍ - أي عملٍ - وحذفه يدلّ على العموم، فحينئذٍ كلّ ما يرتبط بالخبائث محرَّمٌ ومنه البيع وبذلك يثبت المطلوب أي يثبت أنّ الأعيان النجسة يحرم بيعها.
ولعله نحتاج إلى مقدمة ثالثة وذلك بأن نقول:- إنّ التحريم المنتسب إلى الاعتباريات يعني إلى المعاملة - والمراد البيع - ظاهر في الحرمة الوضعيّة وإلا سوف لا يثبت البطلان بل يثبت الحكم التكليفي وهو التحريم التكليفي . فإذن نحتاج إلى ثلاث مقدّمات حتى يتمّ المطلوب.
وأجاب الشيخ الأعظم(قده)[2]:- بأنّ قرينة المقابلة لا يبعد أنها تقتضي إرادة تحريم الأكل دون البيع لأنّ الفقرة المتّصلة بهذه الآية هي:- ﴿ يحلّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ وحيث إنّ المقصود من ﴿ يحلّ لهم الطيبات ﴾ هو تحليل أكل الطيبات فيثبت بقرينة المقابلة - أو السياق - أن المراد من حرمة الخبائث يعني حرمة أكلها وبذلك تكون أجنبيّة عن المقام.
وجوابه واضح إذ يقال:- لماذا تفترض أنّ التحليل منتسبٌ إلى الأكل بل قل هو مطلقٌ لأنه تحليلٌ منتسبٌ إلى العين وحينئذٍ هناك متعلقٌ محذوفٌ وحذف المتعلّق يدلّ على العموم، فنحن إذا بنينا على أنّ حذف المتعلّق يدلّ على العموم فلنطبّقها في ﴿ يحلّ لهم الطيبات ﴾ أيضاً وإذا لم نقبل بهذه القاعدة فالاستدلال بــ ﴿ يحرم عليهم الخبائث ﴾ باطلٌ من الأساس لأنّ حذف المتعلّق لا يدلّ على العموم.
والأنسب أن يجاب بما يلي:-
أوّلاً:- من قال إنّ المقصود من الخبائث هي الخبائث المادّية فلعلّ المقصود هو الخبائث المعنوية يعني الأعمال القبيحة السيئة التي هي عبارة عن الكذب والخيانة السرقة والغش والبهتان والظلم وغيرها فهذه خبائث ولكن ليس بالمعنى الماديّ بل بالمعنى المعنوي فهذا الاحتمال موجودٌ وبالتالي تكون الآية أجنبيّة عن المقام، ولعلّ الأنسب والأليق لمقام النبوّة هو هذا لا ذاك يعني أنَّ النبي جاء ليحرّم عليهم مثل هذه الأفعال السيئة القبيحة أمّا أنّه يحرّم عليهم الخبائث المادّية كالدم وغيره فهذا قد لا تكون فيه تلك الدرجة من اللياقة، وسواء قبلت هذا منّي أو لا فهو غير مهمّ لي، وبذلك تكون الآية مجملة.
إن قلت:- لم لا نتمسّك بالاطلاق ونقول إنّ المقصود من الخبائث بمقتضى الإطلاق هو الخبائث المادّية والمعنويّة ؟
قلت:- إنّ انعقاد الإطلاق فرع وجود القدر المشترك المعنوي ولا يكفي الاشتراك اللفظي بل لا بد من وجود قدرٍ مشتركٍ معنوي، فحينما أقول ( جئني بإنسان ) فإن إنسان قدرٌ مشتركٌ معنوي فزيد إنسانٌ وعمر وخالد إنسانٌ فكلّهم يشتركون لا في لفظ الإنسانيّة بل يشتركون في معنى الإنسانيّة فكلهم حيوانٌ ناطق، فإذن هنا معنىً واحد وهو صادقٌ على الجميع بالسويّة وحيث لم يقيّد فنتمسّك بالإطلاق، أمّا إذا قلت ( جئني بعينٍ ) والعين كما نعرف أنّها مشتركٌ لفظيّ فهل يمكن آنذاك التمسّك بالإطلاق ونقول إنَّ مقضى الإطلاق يشمل العين الباكية والعين بمعنى الذهب والعين بمعنى الفضّة ؟ كلّا فإن هذا مشتركٌ لفظيٌّ لا أنّه مشترك معنويّ فالتقييد لا يمكن تصوّره هنا إذ لا يوجد معنىً معيّنٌ حتى يقيّد، فالإطلاق دائماً هو من شؤون الاشتراك المعنوي، وفي مقامنا لا يوجد اشتراكٌ معنويٌّ بين الأعمال القبيحة كالظلم والغش وبين الأعيان الخبيثة التي هي عبارة عن الدم والخنزير، نعم يوجد اشتراكٌ لفظيٌّ في عنوان الخبث - يعني لفظ الخبيث كلفظ - وهذا اشتراكٌ لفظيٌّ فلا يقولنَّ قائلٌ إنّه يوجد مشتركٌ وذلك المشترك هو أنّها خبيثة فنجيبه بأنَّ الخبيث لفظٌ ونحن نريد معنىً واحداً وهو ليس بثابت . إذن لا يمكن التمسّك بإطلاق الآية الكريمة فهي مجملة من هذه الناحية، وعلى هذا الأساس لا يمن أن نقول إن المقصود منها هو الخبائث الماديّة حتماً فلعلّ المقصود هو الخبائث المعنويّة بعد تعذّر التمسّك بالإطلاق.
ثانياً:- إنّ عنوان الخبائث - الذي قلنا هو بمعنى ما تستخبثه وما تستقذره النفس - هو ليس مساوياً في الصدق للأعيان النجسة بل النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه فربما يكون الشيء ليس من الأعيان النجسة وفي نفس الوقت هو من الخبائث كالقيء والحال أنّه طاهرٌ، وربما يكون الأمر بالعكس مثل لحكم الخنزير فهو كسائر اللحوم فإنّه من الأعيان النجسة ولكن لا تستقذره الطباع ولولا أنّ يحرّم الشارع أكله لأكله الناس مع تمام الراحة - وإذا كان هناك مناقشة في هذا المثال فيمكن الاتيان بمثالٍ ثانٍ - . إذن لا يمكن أن نقول إنّ الآية الكريمة تدلّ على بطلان بيع النجاسات لأنّ الخبائث ليست أمراً مساوياً للأعيان النجسة، فالآية لا تدلّ على المطلوب كما يرام.
ثالثاً:- إنّه قرأنا أنّ التحريم المنتسب إلى العين يقدّر فيه الأثر الظاهر لو كان هناك أثرٌ ظاهر، نعم إذا لم يكن هناك أثرٌ ظاهرٌ فقد وقع الكلام في أنّ حذف المتعلّق يدلّ على العموم أو لا، أمّا مع وجود أثرٍ ظاهرٍ فيقدّر ذلك الأثر، فحينما يقال:- ﴿ حرمت عليكم أمهاتكم ﴾[3]فهنا يوجد حذف للمتعلّق لكن هل يحتمل أحدٌ أنّ المقصود هو العموم يعني حرّم كلّ شيءٍ يرتبط بأمهاتكم ؟ كلّا بل هناك أثرٌ ظاهرٌ وهو زواج الأمهات فهذا قد حُرِّمَ عليكم، فمادام يوجد أثرٌ ظاهرٌ فيقدّر، وفي قمامنا حيث يوجد أثرٌ ظاهرٌ وهو الأكل فعلى هذا الأساس تكون الآية الكريمة خاصّة بالأكل وبالتالي لا يمكن أن نستفيد منها حرمة المعاملة.
ومن خلال هذا يتضح الجواب لو أريد الاستدلال بآيات أخرى من قبيل قوله تعالى:- ﴿ والجز فاهجر ﴾[4] بناءً على تفسير الرجز بالنجس، وأيضاً يقال إنّ الحكم بلزوم الهجران نُسِبَ إلى العين فيثبت بذلك العموم,.
والجواب هو الجواب فيقال:- هنا يقدّر الأثر الظاهر مضافاً إلى أنّه من الوجيه أن يكون المقصود من الرجز هو الرجز المعنوي دون المادي.
وهكذا اتضح الجواب عن مثل الاستدلال بقوله تعالى:- ﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ﴾[5] بتقريب أنّ التحريم نسب إلى هذه الأعيان فيثبت حينئذٍ العموم.
والجواب ما تقدّم من أنّه يقدّر الأثر الظاهر.
وهكذا الحال بالنسبة إلى قوله تعالى:- ﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾[6].
والجواب هو الجواب ولا نطيل.
الثالث:- وهو مركب من مقدّمتين:-
الأولى:- إنّ الأعيان النجسة حيث حرم كلّ انتفاع بها فهي مسلوبة الماليّة فهي ليست مالاً شرعاً باعتبار أنّها ليس فيها منفعة محلّلة والماليّة تدور مدار وجود المنفعة المحلّلة.
الثانية:- إنّها إذا لم تكن مالاً فلا يصحّ بيعها لأن شرط البيع هو الماليّة فإنّ البيع مبادلة مالٍ بمال وهذه ليست بمال.
إذن البيع لا يمكن أن يتحّقق فبيعها باطل من باب السالبة بانتفاء الموضوع لا من باب السالبة بانتفاء المحمول يعني من باب أنّه لا بيع أصلاً لأن البيع إنما يكون بين الأموال والأعيان النجسة ليست أموالاً.
وفيه:- إنّه يمكن المناقشة في كلتا المقدّمتين:-
أما الأولى:- فذاك مبنيٌّ على أنّه يحرم الانتفاع بالأعيان النجسة بأيّ شكلٍ من الأشكال بناءً على أنّ الأصل في كلّ نجسٍ هو حرمة الانتفاع به بأيّ شكلٍ من الأشكال استناداً إلى الآيات الكريمة المتقدّمة مثل ﴿ والرجز فاهجر ﴾ وغير ذلك، وهذا الأصل نحن لا نسلّمه بل نقول إنّ الأعيان النجسة يجوز الانتفاع بها ببعض المنافع فالعذرة يجوز التسميد بها والدم يمكن الانتفاع به خصوصاً في مثل زماننا وهكذا سائر الأعيان النجسة فالأكل والشرب هو الذي لا يجوز أمّا غير ذلك فهو داخلٌ تحت الأصل الأوّلي أي أصل حلّية الانتفاع فـــ( كلّ شيءٍ لك حلالٌ حتى تعلم أنّه حرام )[7]، وحيث أن بقيّة المنافع غير الأكل والشرب لا نعلم بحرمتها فيشملها قانون ( كلّ شيءٍ لك حلال ) . إذن لم يثبت حرمة كلّ انتفاعٍ بالأعيان النجسة . نعم من بنى على تماميّة دلالة الآيات الكريمة وأنّه يستفاد منها أن أيّ منفعةٍ لا تجوز - فـــ﴿ والرجز فاهجر ﴾ أي اهجره من جميع النواحي - فيتمّ ما ذكر من أنّها ليست بمالٍ، لكن قد ذكرنا أن دلالتها ضعيفة باعتبار أنّ هناك مقدَّرٌ ويقدَّر الأثر الظاهر فقاعدة حذف المتعلّق لا يتمسّك بها.
وأمّا بالنسبة إلى المقدّمة الثانية:- فإن هذه قضيّة تحتاج إلى إثباتٍ - يعني أن البيع متقوّم بمالية العوضين -.
وقد يقال في إثباتها أحد الأمور التالية:-
الأمر الأوّل:- ما ذكره الفيّومي في المصباح المنير حيث قال:- ( البيع مبادلة مالٍ بمال )[8]، وقد تمسّك به الشيخ الأعظم(قده) في مكاسبه في تعريف البيع حيث قال:- ( البيع كما قال في المصباح مبادلة مالٍ بمال ) . إذن اللغة تقتضي اعتبار الماليّة في العوضين.
وفيه:-
أوّلاً:- إنّ هذا مبنيٌّ على حجّية قول اللغوي الواحد وهذا نرفضه فإنّ أهل اللغة إذا اتفقوا على شيءٍ - وإن كان أكثرهم وليس من اللازم الكلّ بأن فرض أنّ ستةً أو سبعةً منهم نقلوا ذلك - فربما يقال يحصل الاطمئنان، أمّا من قول لغويٍّ واحدٍ فلا يحصل الاطمئنان، فبالتالي لا حجّة بعد فرض أنّه لم يقم دليلٌ خاصٌ على حجّية قول اللغوي، وإذا أردنا أن نقول بحجيّته فمن باب الاطمئنان لا أكثر.
ثانياً:- لو سلّمنا أنه حصل الاطمئنان فما المقصود من ( مالٍ بمال ) فهل المقصود الماليّة الشرعيّة أو الماليّة العرفيّة ؟ إنّه لابد وأن يكون المقصود هو الماليّة العرفيّة إذ الشرعيّة يكون اللغوي أجنبياً عنها فحينما يقال البيع مبادلة مالٍ بمال يعني ما كان مالاً عرفاً إذا بُودِلَ بمالٍ عرفاً فهذا هو البيع أمّا الماليّة الشرعيّة فهو أجنبي عنها، والماليّة العرفيّة صادقةٌ حتى مع حرمة الانتفاع فإنَّ الخنزير وإن فرض أنّه ليس بمالٍ شرعاً ولكنّه مالٌ عرفاً لأنّ الشخص قد يستفيد منه في بعض الأمور، فمادام فيه فوائد عرفيّة صار مالاً عرفاً فيشمله حينئذٍ التعريف، فالتعريف حينئذٍ صادقٌ على الأعيان النجسة بعدما كانت مالاً عرفاً وإن لم تكن مالاً شرعاً، فهذا الوجه باطل.