36/04/05


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 1 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
الأمر الثاني:- أن يدّعى أن العرف يرى - ولو احتمالاً لا جزماً ويكفينا الاحتمال - أنّ صدق البيع يتوقّف على ماليّة العوضين فإذا لم يكونا مالاً فهذا ليس ببيعٍ ولو احتمالاً ومعه لا يجوز التمسّك بدليل صحة البيع لأنّ العام - أو المطلق - كما لا يجوز التمسّك به في موارد الشبهة المصداقيّة لا يجوز التمسّك به أيضاً في الشبهة المفهوميّة - يعني إذا دار المفهوم بين السعة والضيق فإنّه في المقدار الزائد على المتيقّن يعني المقدار المشكوك لا يجوز التمسّك بإطلاق المطلق أو عموم العام إذ لا يُحرَز صدق عنوان البيع في المقدار المشكوك حتى يتمسّك بــ ﴿ أحلّ الله البيع ﴾[1]أو غيره -.
وفرقُ هذا الدليل عن السابق هو أنّ ذاك تمسّكٌ باللغة وهذا تمسّكٌ بالعرف، وإذا كنا نشكل على اللغة بأنّ قول اللغوي ليس بحجّة إلّا إذا أفاد الاطمئنان فإنّ مثل هذا الإشكال لا يأتي هنا لأنّ هذا ليس تمسّكاً باللغة بل تمسّكاً بالصدق العرفي فعرفاً لا يصدق البيع فإذا لم يصدق ولو احتمالاً كيف يتمسّك بإطلاق المطلق وعموم العام !!
وهو شيءٌ وجيهٌ من حيث الكبرى ولكن يمكن أن يورد عليه:-
أوّلاً:- يمكن أن ندّعي بنحو الجزم أنّ العرف لا يرى توقف صدق البيع على ذلك فالله عزّ وجلّ أعطانا وجداناً عرفيّاً فلو جرّدناه عن الملابسات والظروف الضيّقة والمصطلحات فإنّه يرى أنّ الشيء لا يشترط في كونه مالاً، فإذا رأيت شيئاً عزيزاً عندي كصورة جدّي مثلاً فأقول لا أبيعها إلا بكذا فنقول هذا بيعٌ ولا مشكلة فيه . فالمقصود أنّه لا يبعد عرفاً أنّ الماليّة هي جزماً ليست شرطاً في صدق البيع عرفاً , ولكن إذا شكّك واحتمل فما أفاده يكون جيّداً، وإذا لم تقبل بهذا المثال فيمكن التمثيل بأمثلة أخرى.
ثانياً:- نقول إنَّ الماليّة المعتبرة في صدق البيع عرفاً هي الماليّة العرفيّة لا الشرعيّة والأعيان النجسة هي أموالٌ عرفاً وإن ألغى الشارع ماليّتها والكلام هو في صدق البيع عرفاً.
إذن لا يهمنا أنّها ليست أموالاً شرعاً بل المهم هو أنّها مالٌ عرفاً وقد يُتنافس على بعض الأعيان النجسة لمنافع عرفيّة خاصّة عند أهل العرف، فعلى هذا الأساس البيع صادقٌ عرفاً لا من باب أنّه لا يشترط العرف الماليّة كما كنت أقول أوّلاً بل من باب أنّ الشرط هو الماليّة العرفيّة وهي محقّقة في الأعيان النجسة.
الأمر الثالث:- إنّ الشيء إذا لم يكن مالاً فبيعه سفهيٌّ والبيع السفهيُّ باطلٌ.
إذن هذا الأمر مركّب من مقدّمتين الأولى أنّه من دون ماليّة العوضين يكون البيع سفهيّاً، والمقدّمة الثانية هي أنّ البيع السفهي باطلٌ.
ويرد عليه:-
أوّلاً:- إن بيع العين النجسة قد يكون فيه هدفٌ شخصيٌّ ومادام يوجد هدفٌ شخصي وإن لم يكن غالبياً فالبيع يخرج عن كونه سفهيّاً كما مثلت بصورة جدّي فإني يوجد لي هدفٌ فيها فأشتريها من أيّ شخصٍ كان رغم أنّها ليست بمالٍ عرفاً باعتبار أنّ العقلاء لا يهتمون لها ولكن أنا أهتم بها فمادام يوجد هدف شخصي فمثل هذا البيع والشراء يخرج عن كونه سفهياً.
ثانياً:- يمكن أن يقال إنّ الأعيان النجسة وإن لم تكن مالاً لكنها ليست مالاً شرعاً وأمّا عرفاً فهي مالٌ كما ذكرنا وبالتالي لا يصير البيع بيعاً سفهيّاً بعد ثبوت الماليّة العرفيّة.
ثالثاً:- من قال إن البيع السفهي باطلٌ ؟ إنما الدليل دلّ على أنّ بيع السفيه باطلٌ لا البيع السفهي وفرقٌ بين المطلبين، فالسفيه - وهو الشخص الذي لا يعرف أن يتصرف تصرفاً متزناً - معاملاته باطلة للدليل الخاص الذي دلّ على أنّ السفيه محجورٌ عليه المخصّص لإطلاقات الأدلة، أمّا إذا كان الشخص ليس سفيهاً ولكن اتفاقاً أجرى معاملةً سفهيّةً ففي مثل هذه الحالة لا دليل على البطلان فإنّ الدليل دلّ على بطلان بيع السفيه دون المعاملة السفهيّة، وعلى هذا الأساس لا إشكال من هذه الناحية.
اللهم إلا أن يدّعى أنّ إطلاقات أدلة شرعيّة المعاملات منصرفة عن المعاملة السفهيّة ومختصّة بالمعاملة العقلائيّة غير السفهيّة فإنّه بناءً على هذا الانصراف لو سلّمناه - وأنا لست من الجازمين به وإنما أقول فيه ترددٌ وإشكال ولكن فيه شيء من الوجاهة - فحينئذٍ يثبت بطلان المعاملة السفهيّة لا فقط يثبت بطلان بيع السفيه، فبيع السفيه يبطل من باب وجود الدليل الخاص كما تبطل المعاملة السفهيّة من باب أنّ الدليل العام على الشرعيّة منصرفٌ عن مثل ذلك.
والخلاصة:- اتضح أنّ هذا الأمر الثالث قابلٌ للمناقشة.
الأمر الرابع:- قوله تعالى:- ﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾[2]، بتقريب:- أنّ العوض إذا لم يكن مالاً فالأكل بلحاظه يصير بلا شيءٍ وبلا مقابلٍ والأكل بلا مقابلٍ هو أكلٌ بالباطل فيكون فاسداً بمقتضى الآية الكريمة.
وفيه:-
أوّلاً:- نقول كيف نفسّر كلمة ( بالباطل ) ؟ فتارةً نفسّر الباء بباء المقابلة أي لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل يعني مقابل لا شيءَ، وبناءً على يكون لهذا التقريب والبيان وجاهة لأنّ هذا أكلٌ مقابل لا شيءَ . ولكن هناك احتمالٌ آخر لعله هو الظاهر أو يكفينا الاحتمال وهو أنّ المقصود من الباء هو باء السببيّة أي لا تأكلوا أموالكم بسبب الأمور والمعاملات الباطلة من قبيل الغش والسرقة والربا وجميع الطرق الفاسدة والباطلة في حدّ نفسها، ومن المعلوم أنّه إذا كان هذا هو المقصود فلا ينفعنا لأننا نأكل في مقامنا من خلال البيع وبسببه والبيع ليس من الأسباب الباطلة بل من الاسباب الصحيحة، وعليه فلا يمكن التمسّك بالآية الكريمة لما أريد.
ثانياً:- ذكرنا أنّ الماليّة الشرعيّة وإن كانت منتفية ولكن الماليّة العرفيّة صادقةٌ على الأعيان النجسة ومعه لا يصدق أنّ الأكل أكلٌ بالباطل إذ المقصود من الباطل هنا ليس هو الباطل الشرعي بل الباطل العرفي لأنّ الشارع لا يحتمل أن يجعل الميزان الذي يقدّمه ميزاناً شرعياً وحوالة على الشرع يعني بأن يقول هكذا:- ( لا تأكلوا ما كان باطلاً شرعاً ) فنحن نريد أن نعرف الآن أيها الصحيح وأيها الفاسد فالتحويل على الباطل الشرعي لا يمكن فإنّه أشبه بالإحالة على الشيء نفسه فلابد وأن يكون المقصود هو الباطل العرفي يعني كلّ شيءٍ كان باطلاً عرفاً فلا تأكلوا بسببه، فإذا كان هذا هو المقصود فسوف لا ننتفع من الآية الكريمة لأنّ هذا ليس من الباطل العرفي.
وبهذا اتضح أن جميع الأمور الأربعة التي يراد التمسّك بها لإثبات شرطيّة الماليّة في العوضين قابلة للمناقشة.
ويمكن أن نقول:- لئن تنزّلنا وسلّمنا أنّ شرط صدق البيع هو ماليّة العوضين فهذا لا يضرّنا من حيث النتيجة إذ لنا طريقٌ آخر إلى تصحيح المعاملة على الأعيان النجسة وذلك من خلال قوله تعالى:- ﴿ إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ ﴾ أو ﴿ أوفوا بالعقود ﴾[3]، نعم هو ليس ببيعٍ تنزلاً ولكنه عقدٌ كما يصدق عليه أنّه تجارة عن تراضٍ أو مصالحة فيوجد عندنا ما يدلّ على شرعيّة الصلح أو الهبة المشروطة فهي صحيحة فنسلك تلك الطرق.
إذن حتى لو سلّمنا أن ماليّة العوضين شرطٌ في صدق عنوان البيع فهذا لا يؤثر شيئاً إذ نقول للناس لا تجروا البيع بل قولوا هذه ليست معاملة بيعٍ ولكنّها صحيحةٌ من باب الصلح أو الهبة أو من باب أوفوا بالعقود أو تجارةٍ عن تراضٍ أو ما شاكل ذلك، فإذن يمكن تصحيحها من خلال هذه الوجوه الأخرى والنتيجة تكون نفس النتيجة.
اللّهم إلا أن يقول قائل:- إنّ هذه العناوين هي كالبيع أيضاً متقومٌ صدقها عرفاً على الماليّة كما يظهر ذلك من السيد الخميني(قده) حيث قال ما نصّه:- ( إنّ مبادلة ما لا يكن مالاً ليست بيعاً ولا تجارةً ولا عقداً )[4].
ولكن عهدة هذه الدعوى على مدّعيها.