37/02/01


تحمیل

الموضـوع:- مسألة ( 17 ) حرمة الغناء - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.

ولنا جوابان جواب إجماليّ بمعنى أنه جواب واحد عن الجميع ، وجواب تفصيليّ عن كلّ وجهٍ من هذه الوجوه:-

أما الجواب الاجمالي فحاصله أن يقال:- إنّنا ذكرنا فيما سبق أنّ مسألة الغناء مسألة عامة البلوى ، وما يكون عامّ البلوى يلزم أنّ يكون حكمه واضحاً بين أصحاب الأئمة عليهم السلام ، وما كان واضحاً يلزم أن ينعكس على فتوى فقهائنا إذ لا يحتمل أنهم يتركون الوضوح ويصيرون إلى رأيٍ آخر يقابل ما هو واضح فإن هذا غير محتمل ، ثم نقول:- إنّ الرأي المعروف بين فقهائنا - إمّا المجمع عليه أو المشهور ويكفينا المشهور - هو الحرمة ، فيحصل الاطمئنان بأنّ ذلك الحكم الواضح في تلك الفترة هو الحرمة.

والآن نقول:- إذا فرض أنّ الفقهاء قد أفتوا بحرمة الغناء مطلقاً - من دون تفصيلٍ بين أن يكون مع الآلات أو بدونها ، مع الحرام أو من دونه ، في كلام حقٍّ أو باطلٍ - فيحصل الاطمئنان بأنّ ذلك الحكم الواضح هو الحرمة مطلقاً من دون تفصيل ، يعني يحصل الاطمئنان بأنّ ما ذهب إليه العلمان ليس هو الحكم الواضح فيثبت كونه باطلاً لأنّه ليس هو الحكم الواضح بين أصحاب الأئمة عليهم السلام.

ويمكن أن نردّ بروحٍ أخرى أو بصيغةٍ أخرى وذلك بأن يقال:- إنّ ما ذهب إليه العلمان مهجورٌ عند الأصحاب ، فإنّ فقهاءنا ذهبوا إلى الحرمة من دون تفصيلٍ وما استند إليه العلمان مهجورٌ عند الأصحاب ، ولم نقل هو على خلاف الشهرة بل هو مهجورٌ ولم يصر إليه أحدٌ من الأصحاب ، ونحن إذا كنا نرفض سقوط الرواية عن الحجّية إذا كانت على خلاف ما هو المشهور بين الأصحاب ولكن في باب الهجران إذا ثبت الهجران ثبت حينئذٍ بطلان الرواية فتسقط عن الحجيّة.

وقد بيّنا في أبحاثٍ سابقةٍ أنّ وجه سقوطها عن الحجيّة بالهجران أمران:-

الأوّل:- إنّه إذا فرض أنّ هناك هجران من الأصحاب فيحصل الاطمئنان ببطلان مضمونها وأن مضمونها ليس بحقّ.

الثاني:- إنّ الرواية إذا كانت مهجورة فلا نجزم بشمول دليل حجّية خبر الثقة لهذا المورد فإنّ المدرك المهم لحجية خبر الثقة هو السيرة العقلائية وما عداه هو يمضي السيرة العقلائية ، والقدر المتيقّن من السيرة العقلائية هو إذا لم يكن الخبر مهجوراً بين الأصحاب.

بل نصعّد اللهجة ونقول:- إنّه حتى إذا كان الخبر مخالفاً لما هو المعروف في الطبقة المتقدّمة كفى ، وحينئذٍ لا نجزم بشمول السيرة له ، والعُرْبُ ببابك.

وأمّا الرد التفصيلي:-

فأما النسبة إلى الوجه الأوّل - أعني الانصراف - فيمكن أن يقال:- إنّ دعوى الانصراف على مسلك الأصحاب في باب الإطلاق لا وجه لها فإن باب الإطلاق ، ومساحة الاطلاق عندهم وسيعة جداً فكيف تبرّرون الانصراف خصوصاً أنّه قيل - وهذا لا أنسبه إلى الكلّ - إنَّ الانصراف له منشآن هما إمّا كثرة الوجود أو كثرة الاستعمال والحجة هو ما نشأ من كثرة الاستعمال وإلا فكثرة الوجود لا عبرة بها ، وفي مقامنا لا توجد كثرة استعمال ، نعم توجد كثرة وجود لأنّ الغناء الموجود في عصر صدور النصوص كان مقترناً بالحرام لكنّ هذه كثرة وجود وهي عندهم لا تزعزع الإطلاق.

نعم نحن ناقشنا في كلتا المقضيتين ، أعني نحن لم نرتض الإطلاق بعرضه العريض وفي المساحة الوسيعة بشكلٍ مطلقٍ - وكلامي ليس في مقامنا فقط بل هو بشكل عام - بل المساحة التي نذهب فيها إلى حجّية الإطلاق أضيق من المساحة التي يذهب إليها المشهور.

مضافاً إلى أنّنا نمنع القضية الثانية[1] :- ووجه منعها ما تقدّم من أنّ المهم هو أن يثبت عندنا أنّ الكلام ظاهرٌ في الحصّة الخاصّة فإذا ذهب إلى أنّ الكلام ظاهر في الحصّة الخاصّة وفهم منه الخصّة الخاصّة فحينئذٍ ندّعي الانصراف ونقول هذا حجّة سواء فرض أنّه توجد كثرة استعمال أو لا ، وسواء فرض أنّه توجد كثرة وجود أو لا ، بل المهم هو أنّ العرف حينما يطرح عليه الكلام لا يفهم منه الإطلاق وإنما يفهم منه الضيق ، فمادام يفهم من المساحة الضيّقة - يعني الانصراف بعبارةٍ أخرى – فلا نفتّش عن المنشأ بعد ذلك لأنّ الحجة هو الظهور أمّا من أين منشأ هذا الظهور فليس بهم ، فلو فرضنا أنّ الدليل دلّ على أنّه في باب الوضوء مثلاً أنّ المتوضئ يمسح باليد لأجل لأن يوصل الماء إلى أعضاء الوضوء أو على رأسه نفهم منه بأنها يد المباشر للوضوء وليس كلّ يد ، وهنا ربما يقال من أين لك هذا الظهور فهل هو من كثرة الاستعمال ؟!! إنّه قد يشكك أحدٌ في ذلك ، أو أنه ناشئ من كثرة وجود ؟ وهو ليس بحجّة ، ولكنه رغم هذا نقول:- مادام يوجد ظهور - لو فرض ذلك - في أنّ المتوضئ هو الذي يباشر المسح باليد كفى ونأخذ به فإنّ الظهور حجّة ، فبعد ثبوت الظهور لا معنى لأن تفتّش عن المدرك وتقيّدك القوانين الموضوعة فإنّ هذا قانون نحن قد وضعناه فينكشف وجود خللٍ في هذا القانون ، والمهم أن نقول إنَّ الانصراف حجّة متى ما تحقّق حقّاً وكان الظهور في المعنى المنصرَف إليه عرفاً ، فالعرف مادام يفهم هذا المعنى الضيّق المنصرَف إليه فهو كافٍ سواء فرض أنّه نشأ من كثرة الاستعمال أم من كثرة الوجود.

وفي مقامنا نقول هذا الشيء أيضاً على مبنانا ، فإذا سلّمنا بوجود ظهورٍ في إرادة الغناء المتعارف في تلك الفترة - يعني المقترن بالمحرّمات - أخذنا به ، وحينئذٍ لا نفتّش عن المنشأ ، أما إذا فرض أننا تقيّدنا بالمنشأ - كما عليه صاحب الكفاية(قده) وغيره - فيرد عليهم إشكالٌ وهو أنّ منشأ الانصراف ما هو ؟ إذ أنّ كثرة الاستعمال ليست ثابتة ، وكثرة الوجود ليست منشأً صحيحاً !!

وأمّا بالنسبة المطلب الأوّل - وهو أنّ الاطلاق على رأينا ليست له مساحة وسيعة -:- فهذا قد أشرنا إليه مراراً حيث قلنا إنه ينبغي أن تضاف مقدّمة أخرى إلى مقدّمات الحكمة وذلك بأنّ يقال:- إنّه يشترط في انعقاد الإطلاق أن يستهجن من المتكلّم الإطلاق وعدم التقييد فيما إذا كان مراده واقعاً هو المقيّد فآنذاك ينعقد الإطلاق ، أمّا إذا لم يستهجن منه الإطلاق لو كان مراده المقيّد واقعاً فلا ينعقد الإطلاق ، وبناء على هذا ينهدم الكثير من الإطلاقات ، ولذلك نحن نقول في باب رؤية الهلال لا يكفي في رؤيته العين المسلّحة ، فعلى مسلك المشهور الإطلاق منعقدٌ لأنّ ( صم للرؤية وافطر للرؤية )[2] يشمله فإنَّ هذه رؤية والانصراف إلى خصوص العين المجرّدة لا معنى له ، أمّا على ما ذهبنا إليه لا ينعقد الإطلاق لأننا نقول لو فرض أنّ المتكلّم ظهر وقال إنّ مقصودي هو العين المجرّدة لا يستهجن منه الإطلاق ولا يقال له إذن لماذا لم تقيد ؟ إذ يمكن أن يجيب ويقول:- إنّ العين المسلّحة لم تكن متداولة في تلك الفترة ، فلا ينعقد آنذاك الإطلاق.

وفي مقامنا نقول:- إنّه يمكن للإمام عليه السلام أن يقول إنّ مقصودي حينما حرّمت الغناء - في روايات الغناء - هو الغناء المتداول في هذه الفترة الزمنيّة ، والمتداول هو المقترن بالمحرّمات فلا حاجة إلى التقييد فلا يستهجن منه آنذاك الإطلاق لو كان مراده المقيّد.

إذن على مبنانا في باب الإطلاق تكون دعوى عدم وجود انصرافٍ لا إطلاقٍ شيءٌ له وجاهة ، أمّا على مسلك المشهور فهذا لا وجه له.

إن قلت:- إذا كان هذا له وجاهة على مسلكك وأنك تقول إنَّ الإطلاق لا ينعقد فهذا صار في صالح العلمين وصرت معهم ؟

قلت:- إنَّ جوابنا الاجمالي موجودٌ ، وهو أنّ هذه المدارك يطمأن ببطلانها ، حيث إنّ الرأي الواضح بين الفقهاء كما ذكرنا هو الحرمة مطلقاً ، فيحصل اطمئنانٌ ببطلان هذا التفصيل ، هكذا قل.

أو قل:- إنّ ما ذكر مهجورٌ بين الأصحاب ، والهجران مسقطٌ للراوية وكلّ المستندات عن الاعتبار.

إذن عندنا ذلك الجواب الإجمالي فلا يضرنا آنذاك التشكيك في هذا الإطلاق.


[1] وهي أنّ منشأ الاطلاق هو إمّا كثرة الوجود أو كثرة الاستعمال وحيث أنّه في مقامنا ناشئ من كثرة الوجود فلا إطلاق.