32/11/10


تحمیل
 كان الكلام في الرشوة وقلنا إن الحكم بتحريم الرشوة مما لا إشكال فيه وبالاتفاق عليه في الجملة أي أن تحريمها في باب الأحكام أمر مسّلم، وأما في غيره - بناءً على صدق الرشوة في غير الأحكام - فتحريمها ليس واضحاً بل يحتاج إلى دليل .
 والظاهر أن الرشوة لها معنى واسع ويظهر من بعض النصوص عدم اختصاصها بباب الأحكام وهناك روايتان استدلّ الفقهاء بهما على ذلك :
 الأولى : صحيحة محمد بن مسلم : " قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه ؟ قال : لا بأس به " [1] .
 قال صاحب الوسائل : " الظاهر أن المراد المنزل المشترك بين المسلمين كالأرض المفتوحة عنوة ، أو الموقوفة على قبيل وهما منه " أي الموقوفة على مجموعة من الناس ومنهم الراشي والمرتشي في مورد الرواية ، وإذا عُمّم ذلك إلى الأمور المشتركة فيتأتّى حتى في المساجد فيرشو شخصاً حتى يتنازل عن الحق الذي له في المكان ليجلس هو فيه .
 والشاهد في الرواية ليس في حلّية هذا العمل بل في إطلاق الرشوة في غير باب الأحكام إذ لم يُفرض في الرواية تحاكُماً ومرافعة فأًطلقت الرشوة على دفع مال في مقابل تنازل عن حقّ فمنه يظهر أن الرشوة لا تختصّ باب الأحكام .
 الرواية الثانية : رواية حكم بن حكيم الصيرفي : " قال : سمعت أبا الحسن (عليه السلام) وسأله حفص الأعور فقال : إن السلطان يشترون منّا القرب والأداوى فيوكّلون الوكيل حتى يستوفيَه منّا فنرشوه حتى لا يظلمنا ، فقال : لا بأس ما تصلح به مالك ، ثم سكت ساعة ثم قال : إذا أنت رشوته يأخذ أقلّ من الشرط ؟ قلت : نعم ، قال : فسدت رشوتك " [2] .
 وتمامية هذه الرواية سنداً موقوفة على إثبات وثاقة إسماعيل بن أبي السمّال الواقع فيه ووثاقة هذا الرجل مبنية على تفسير خاص لعبارة وردت في رجال النجاشي عندما ترجم لأخي إسماعيل وهو إبراهيم ومتعارفٌ لدى النجاشي أن يوثّق شخص في ترجمة غيره حيث قال بعد أن ساق كنيته ونسبه : " .. ثقة هو وأخوه إسماعيل بن أبي السمّال رويا عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) وكانا من الواقفة " [3] فوقع خلاف في فهم هذه العبارة فهل قوله (ثقة) يعود إلى خصوص إبراهيم المُترجَم له ليكون قوله بعد ذلك : (هو وأخوه إسماعيل بن أبي السمّال رويا عن أبي الحسن .. ) مستأنفاً فالوثاقة حينئذ تكون مختصّة بإبراهيم ولا تشمل أخاه إسماعيل ، أم أنه يعود لكليهما بأن يُقرأ هكذا : (ثقة هو وأخوه إسماعيل بن أبي السمّال) فيكون قوله بعد ذلك : (رويا عن أبي الحسن (عليه السلام) وكانا من الواقفة) مستأنفاً فالوثاقة حينئذ تكون ثابتة لهما .
 ويُستدلّ بهذه الرواية أيضاً على إطلاق الرشوة على دفع المال في غير باب الأحكام ولا يضرّ ضعف سندها على تقديره لأن الاستدلال بها ليس على إثبات الحكم الشرعي وإنما على استعمال لفظ في معنى معيّن من قبل شخص ذي لسان عربي في زمن متقدم .
 والرشوة بهذا المعنى الوسيع بناءً على شمولها لغير باب الأحكام لا دليل على تحريمها وهذا معناه أنه لا يكفي في تحريم الرشوة مجرد صدق هذا العنوان بل لا بد من إقامة الدليل على الحرمة ، نعم .. الرشوة في الأحكام كما ذكرنا ثابتٌ تحريمها ..
 نعم .. هناك بعض المطلقات التي قد يقال بأنه يُستفاد منها حرمة الرشوة مطلقاً من قبيل : (لعن الله الراشي والمرتشي ..) [4] لكن الظاهر أن التمسّك بإطلاق هذه الروايات لا يخلو من صعوبة بل الظاهر أن المقصود بها الرشوة في الحكم لأن الظاهر أن التغليظ في التحريم الوارد فيها من قبيل كون الرشوة محض الكفر [5] وكون صاحبها ملعوناً [6] يجعل الرشوة فيها منصرفة إلى خصوص الرشوة في باب الأحكام .
 إذاً لا يكفي في الحكم بتحريم الرشوة مجرد صدق هذا عنوان الرشوة بناءً على التعميم الشامل حتى لغير الأحكام .
 ثم إن الرشوة بمعناها العام هل يُعتبر فيها أن يكون المبذول مالاً أم أنها تصدق حتى لو كان المدفوع عملاً ليس من قبيل الأموال - وإلا يدخل تحت الأموال فيدخل في الشق الأول مثل تقبيل يد القاضي أو القيام له إذا قدم فهل تصدق الرشوة على أمثال هذه الأمور أم أنها تختصّ بما إذا كان المبذول مالاً بل يمكن تعميم هذا التساؤل حتى للأقوال من قبيل مدح القاضي والثناء عليه فهل تصدق الرشوة هاهنا فيقال رشاه بالقول أو بالفعل ؟
 الظاهر عدم الصدق ولا أقل من الشك فيه فإن الذي يُفهم من الرشوة عرفاً هو دفع المال ، نعم .. هو أعم من النقد فيصدق حتى على العمل إذا كان ممّا له مالية كخياطة الثوب وبناء الدار .
 ويمكن تعريف الرشوة بهذا المعنى الوسيع بـ(أنها المال الذي يبذله الشخص لغيره ليتوصّل به إلى تحقيق غرضه) ، وهذا الغرض مأخوذ فيه أن لا يكون له مالية بنظر العقلاء [7] وهو يختلف باختلاف الموارد فتارة يكون الغرض هو إحقاق حقّ وأخرى يكون تمشية باطل وثالثة يكون بأن يحكم له حقّاً أو باطلاً ورابعة بأن يدفع الظلم عن نفسه وخامسة بأن يتوصّل إلى أمر مباح ففي جميع هذه الحالات تصدق الرشوة بمعناها العام ، والجامع لكل ما سبق من تلك الأغراض كما ذكر السيد الماتن (قده) هو أنها ممّا لا يُبذل بإزائه المال عرفاً وعقلاءً فمثل التوصّل إلى أمر مباح كما في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة هو شيء لا يُبذل بإزائه المال بنظر العرف والعقلاء وكذا الحال في بقية الأغراض المتقدمة .
 وأما الرشوة بمعناها الخاص وهي الرشوة في باب الأحكام التي لا إشكال في حرمتها فقد طُرح في المقصود بها - بحسب الأدلة - احتمالات ثلاثة من قبل اللغويين والفقهاء كما في كتبهم :
 الأول : أن المقصود بها مطلق ما يبذله المتحاكمان .
 الثاني : أن المقصود بها المال المبذول على الباطل سواء كان بإقراره أو بدفع حقّ فإن دفع الحقّ يُعدّ باطلاً أيضاً .
 الثالث : أن المقصود بها المال المبذول لأجل الحكم له حقّاً كان أو باطلاً .
 والظاهر أن الرشوة المحرمة تشمل الأخيرين فقط وهي لا تختصّ بأحدهما دون الآخر ، وبعبارة أخرى إن الرشوة المحرمة تشمل فردين :
 الأول : صورة علم الراشي بكونه على باطل فيدفع المال إلى الحاكم ليحكم له بالباطل .
 الثاني : صورة جهل الراشي بكونه على باطل فيحتمل كونه على حقّ كما يحتمل أنه على باطل .
 فكل من هذين الفردين داخل في الرشوة المحرمة ولا داعي لتخصيصها بأحدهما ، نعم .. المعنى الأول لها أي مطلق ما يبذله المتحاكمان لا تصدق عليه الرشوة ظاهراً فلا يمكن تفسيرها به فإنه من قبيل التفسير بالأعم إذ هو يشمل الأجرة والجعالة والظاهر أنهما غير الرشوة .
 إذاً لا بد من تعريف الرشوة بتعريف لا يشمل أيّاً منهما لأنها ليست مطلق ما يبذله المتحاكمان وإنما هي عبارة عمّا يبذله أحدهما من المال ليحكم القاضي له بالباطل أو ليحكم لصالحه حقّاً كان أو باطلاً .
 ومن هنا يظهر أنه لا داعي لتخصيص الرشوة بما إذا كان الباذل أحد المتحاكمين بل هي تشمل حتى ما لو كان الباذل أخاً لأحدهما أو أباً أو صديقاً أو غيرهم ما دام غرضه أن يحكم للمبذول لأجله باطلاً أو يحكم له حقاً أو باطلاً فيصدق هنا على الدافع أنه راشٍ وعلى المستلم أنه مرتشٍ ، نعم .. قد يُفرض أن شخصاً أجنبياً عن المتحاكين يدفع مالاً للقاضي لا لأحد الغرضين المذكورين بل لغرض آخر لا علاقة له بأصل الدعوى فلا تصدق الرشوة حينئذ فيكون خارجاً عن محلّ الكلام كما لو دفع للقاضي مالاً في إحدى المناسبات - مثلاً أو دفع له مالاً ليقضي بالباطل في كل دعوى يحكم بها لغرض إفساد باب القضاء على الناس فليس من المعلوم صدق الرشوة على هذا العمل فإن المأخوذ في حدّ الرشوة هو كون المال المستلم من قبل القاضي في مقابل أن يحكم لصالح أحد الطرفين .
 ثم إن الفقهاء (رض) عمّموا الرشوة في الحكم إلى المرافعات غير المُقامة فضلاً عن المرافعات القائمة فعلاً فيدفع من يتوقّع أن تكون هناك مرافعة في المستقبل يكون فيها أحد المتخاصمين مالاً للقاضي ليحكم له على أحد الوجهين أي بالباطل أو بالأعم من الحقّ والباطل - .
 وكذا عمّموا الرشوة لما إذا كان الغرض لا للحكم لصالحه أو لصالح أحد الطرفين بالباطل أو مطلقاً بل لما إذا كان البذل في مقابل تعليمه الطرق القانونية لكسب القضية والفوز بها فإنه بالنتيجة يصدق أنه قد دفع المال للقاضي ليوصله إلى الحكم له بالباطل أو مطلقاً فالنتيجة إذاً هي واحدة .
 وعلى كل حال فلو نوقش في دخول هذا التعميم في الرشوة موضوعاً ولم يُسلّم به فإن فقهائنا نصّوا على أنها تلحق به حكماً فإن جوهر الرشوة موجود في هذه الموارد فإن الغرض من تحريم الرشوة سدّ باب التلاعب بالأحكام والاعتداء على حقوق الآخرين وهذا المعنى موجود في جميع موارد التعميم .
 وأما الرشوة في غير باب الأحكام فقد تقدّم منّا أنه لا يكفي مجرد صدق عنوانها للحكم بتحريمها بل لا بد من أن ينهض عليه دليل والذي يُفهم من رواية حكم بن حكيم إذا جُعلت هي الميزان هو التمييز بين الرشوة بمعناها العام - وهي الرشوة في غير الأحكام - والرشوة المحرّمة فالتوصّل بدفع المال إلى جَنْيِ مصلحة مُستحقَّة أو الحصول على أمر مباح فهو حلال وجائز ، وأما إذا كان التوصّل بدفع المال إلى جَنْيِ مصلحة غير مُستحقة فهذا يكون محرّماً .. كما تشهد بذلك رواية ابن حكيم حيث فصّلت بين دفع المال لدفع الظلم فيكون جائزاً أو دفعه لِيغضّ الوكيل عن بعض الشروط اللازمة لموكّله فلا يكون جائزاً .
 هذا تمام الكلام في المقام الثالث .
 المقام الرابع : في الهدايا على القضاء .
 والهدية التي تُدفع للقاضي على القضاء تارة يُفترض أن المقصود بها نفس المقصود بالرشوة غاية الفرق أنه في الرشوة تكون هي بنفسها السبب في أن يحكم القاضي له بلا توسّط شيء آخر ، وأما في الهدية فثمة واسطة في البين لتحصيل ذلك وهي كسب قلب القاضي وخلق الميل النفسي عنده وهو ما يحصل قهراً باستلامه الهدية فيؤدّي إلى أن يحكم لصالحه .
 والهدية بهذا المعنى أي بأن يكون المقصود بها عين المقصود بالرشوة لا ينبغي الشكّ في حرمتها بل لعله لا شك في صدق كونها رشوة حقيقة لأنه لم يُؤخذ في تعريف الرشوة أن يكون المال المبذول في مقابل الحكم مباشرة وبلا وسائط .. ولو لم يُسلّم بصدق عنوان الرشوة على الهدية فلا إشكال في أنها ملحقة بها حكماً فتكون محرّمة لاتحاد الملاك واتفاق النتيجة .
 وأخرى يُفترض أن يكون المقصود بها معنى آخر - غير ما يُقصد بالرشوة ككون القاضي أهلاً لإعطائه الهدية كما لو كان يبذل جهداً فائقاً في الحكم على طبق الموازين أو كونه حائزاً على صفات كمال ومرتبة من العلم عالية أو كون إعطاء الهدية تقرّباً إليه تعالى فأمثال هذه الموارد خارجة عمّا نحن فيه لأنها ليست هدية على الحكم والقضاء الذي هو محلّ الكلام .
 نعم .. حينما يكون للدافع مرافعة وهو في وقت هذه المرافعة يدفع الهدية للقاضي حتى ولو لم يكن قاصداً تلك الخصوصيات المذكورة كنيّة القربة - مثلاً فإنه من غير البعيد صدق الرشوة عرفاً على ذلك أي أن ما يفهمه العرف من إعطاء الهدية إلى القاضي في وقت المرافعة خصوصاً إذا لم يكن من عادة الدافع ذلك هو أنها رشوة حتى مع عدم كون الدافع قاصداً لها لأن صدق العناوين لا يتوقف على القصد أي أن الصدق قهري كما في عنوان الهتك عند الصلاة أمام قبر المعصوم (عليه السلام) فإن صدقه قهري بنظر العرف حتى لو فُرض أن المصلي كان غير قاصد لذلك .
 
 


[1] الوسائل مج17 ص278 الباب 85 من أبواب ما يُكتسب به الحديث الثاني .
[2] الوسائل مج18 ص96 الباب 37 من أبواب أحكام العقود من كتاب التجارة الحديث الأول .
[3] رجال النجاشي ص22 .
[4] عوالي اللئالي ص266 .
[5] المصدر السابق ص274 .
[6] المصدر السابق .
[7] لا بد من التفريق في باب الرشوة بين المبذول والمبذول لأجله في كون المأخوذ في الأول أن يكون له مالية سواء كان مالاً بالفعل كالنقد او لم يكن ولكن كانت له مالية بنظر العقلاء كالخياطة والزراعة وكون المأخوذ في الثاني أن لا تكون له مالية بنظر العقلاء كالأمثلة الخمسة المذكورة - والمراد بالمبذول لأجله هو الغرض كما لا يخفى - .