32/11/16


تحمیل
 تقدّم إن الكلام يقع في مقامين :
 الأول : في القاضي المنصوب .
 والثاني : في قاضي التحكيم .
 وذكرنا أن الكلام في المقام الأول يقع في جهات وقد تحدّثنا عن الجهة الأولى وهي إثبات النصب العام وصدور النصّ من قبل الأئمة (عليهم السلام) لمن كان واجداً لجملة من الصفات والشرائط وقلنا إن هناك دليلاً يمكن التمسّك به لإثبات هذا النصب العام وقد تقدّم ذكره .
 الجهة الثانية : في الشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب بالنصب العام :
 ذكر السيد الماتن (قده) في المتن عدة أمور قال إنها شرائط للقاضي المنصوب بالنصب العام ونحن نتعرض لها تباعاً ولكن نشير هنا إلى أن طريقة إثبات اعتبار هذه الشرائط في القاضي المنصوب على مسلكه (قده) في إثبات النصب العام تختلف عنها على المسلك الصحيح المختار فطريقة إثباتها على المسلك المختار تكون بالرجوع إلى النصّ الدال على النصب العام فلا بد من مراجعته لمعرفة الشرائط التي تضمّنها هذا الدليل فما يُستظهر اعتباره فيه يُحكم بكونه معتبراً وما يُشكّ في اعتباره فلا يُسلّم باشتراطه في القاضي المنصوب ما لم يدلّ دليل بالخصوص على اعتباره واشتراطه وحينئذ فإن أمكن التمسّك بتلك الأدلة اللفظية لنفي اعتباره بأن كانت في مقام البيان أو بنكتة أخرى تُثبت أنها مطلقة من ناحية ما يُشكّ في اعتباره فحينئذ يمكن التمسّك بإطلاقها لنفي اعتباره وإن لم يمكن التمسّك بالإطلاق فحينئذ تدخل المسألة في باب الأصل العملي .. وهل يقتضي عدم الاعتبار أم الاعتبار ؟
 بناءً على ما تقدّم مراراً من أن القضاء ونفوذ حكم شخص في حقّ غيره هو على خلاف القاعدة ولا بد أن يُقتصر فيه على القدر المتيقّن فحينئذ لا بد من اعتبار هذا الشيء المشكوك الاعتبار الذي لم يمكن استظهار اعتباره بالدليل اللفظي بحسب الفرض كما لا يمكن نفي اعتباره بالتمسّك بإطلاق الدليل اللفظي لعدم وجود إطلاق فيه حسب الفرض فإذا وصلت النوبة إلى الأصل العملي فمقتضى لزوم الاقتصار على القدر المتيقن في مخالفة الأصل والقاعدة هو اعتبار ذلك الشيء المشكوك ولازمه القول بعدم نصب من كان فاقداً لذلك الشيء المشكوك الاعتبار قاضياً بالنصب العام .
 هذه طريقة إثبات هذه الشرائط بناءً على المسلك المختار ، وأما بناء على مسلك السيد الخوئي (قده) الذي تقدم في باب النصب العام فهي تختلف عنها فإن عنده أن كل شرط يُشك في اعتباره فهو معتبر لأنه كان قد أثبت النصب العام بحكم العقل من باب حفظ النظام فقال إنه يُستكشف عقلاً من وجوب حفظ النظام أن الشارع نصب قضاة لئلا يلزم اختلال النظام وذكر أن المتيقن منهم هم الفقهاء فإذا شككنا في اعتبار شيء في الفقيه الذي استكشفنا نصبه من الدليل العقلي فلا بد من اعتباره كما لو شككنا في اعتبار شرط طهارة المولد فلا بد من اعتباره من باب التمسّك بالقدر المتيقّن لأن الأمر في الواقع يدور بين أن يكون المنصوب هو مطلق الفقيه سواء كان طاهر المولد أم لا أو يكون المنصوب هو خصوص طاهر المولد فيكون طاهر المولد هو القدر المتيقّن إذ لا يُحتمل العكس - أي أن يكون المنصوب هو غير طاهر المولد دون طاهر المولد ، وهذه هي القاعدة في استنتاج القدر المتيقّن - ، وهكذا سائر الأمور التي يُشكّ في اعتبارها لأنه يرى عدم وجود الدليل اللفظي الدال على النصب العام حتى يُرجع إليه ويُستنطَق في اعتبار ذلك الشيء المشكوك من عدمه فإذا فُقد النصّ على اعتباره فنتمسّك بالإطلاق حينئذ لنفي اعتباره فتصل النوبة دائماً إلى ما يشبه الأصل العملي ويُقتصر فيه على القدر المتيقّن ولذا لا يُحتاج على مسلكه إلى أدلة لاعتبار الشرائط التي ذكرها ، نعم .. لا بد أن يكون احتمال ما يُشكّ في اعتباره معتداً به وليس احتمالاً واهياً غير عرفي وعقلائي ولو كان منشأه ذهاب جملة من الفقهاء إلى اعتباره .
 هذا بيان الطريق على المسلكين وسنقتصر في محاسبة الشرائط المذكورة على خصوص المسلك المختار الذي ذكرنا أنه يتضمّن أدلة لفظية تدل على النصب العام فطريقة إثبات اعتبار هذه الشرائط أو نفي اعتبارها تكون بمراجعة تلك الأدلة فنقول :
 أول شرط - ذُكر في المتن - : هو البلوغ ولا إشكال في أنه معتبر عند المشهور بل قال في الجواهر بشأن هذا الشرط مع شرائط أخرى ذكرها : " بلا خلاف أجده فيها " ، ونقل عن الشهيد الثاني في المسالك أنها [1] موضع وفاق ، واستدل في الجواهر على اعتبار شرطية البلوغ بأمرين :
 أولاً : سلب الاعتبار عن أقوال غير البالغ وأفعاله فكيف مع هذا يصلح لهذا المنصب العظيم الذي هو القضاء .
 وثانياً : كونه مولّىً عليه - أي واقعاً تحت الولاية والوصاية - .
 فيُستكشف من هذين الدليلين اعتبار البلوغ في القاضي المنصوب .
 وأقول : أما بالنسبة إلى الدليل الأول [2] فلا إشكال في أن من كان حاله كذلك لا يصلح لأن يتولّى هذا المنصب الخطير [3] وإنما الكلام في أنه هل اللازم اعتبار البلوغ مطلقاً في القاضي المنصوب فالخارج حينئذ هو الصبي مطلقاً - مميّزاً كان أو غير مميّز - أو يمكن إلحاق الصبي المميز بالبالغ فالخارج حينئذ هو الصبي غير المميز فحسب ؟
 ووجه هذا التفصيل أن الصبي مطلقاً لا يكون مسلوب العبارة إذ يمكن أن يقال إن من البعيد عقلاءً الالتزام بأن الصبي المميز الذي تفصله ساعة عن البلوغ - مثلاً - هو مسلوب العبارة قبل ساعة وغير مسلوبها بعد ساعة فإن مثل هذا الزمان القصير لا يُعدّ عند العقلاء مؤثّراً وفارقاً في المقام وبناءً على هذا لا ينهض الدليل المذكور لإثبات هذا الشرط مطلقاً .
 وأما بالنسبة إلى الدليل الثاني [4] فقد يبرز تساؤل هاهنا وحاصله أن الشيخ صاحب الجواهر (قده) تبعاً للمحقق الحلي في الشرايع ذهب إلى عدم اشتراط الحرية في القاضي أي جواز أن يتولّى العبد القضاء ولا فرق في هذه المسألة بين العبد والصبي في كون كل منهما مولّى عليه ولا تنفذ تصرفاته إلا بإذن الولي وإمضائه بل الأمر في العبد أشدّ [5] فإذا كانت الولاية على الشخص تمنع من تسنّمه هذا المنصب فينبغي أن تكون مانعة من تولّي العبد له مع أن الشيخ (قده) يصرّح بعدم اشتراط الحرية في القاضي المنصوب مستدلاً له [6] بإطلاق أدلة النصب العام فإن مقتضى إطلاقها عدم الاشتراط وجواز تولّي العبد لهذا المنصب .
 وأقول : مقتضى إطلاق روايات النصب العام عدم الاشتراط بالإضافة إلى البلوغ أيضاً فلماذا لا يُستدل بهذه الروايات لنفي اعتباره - والمقصود بالرواية المطلقة في أدلة النصب العام بالقياس إلى البلوغ مقبولة ابن حنظلة فإن الوارد فيها : (ينظران من كان منكم ..) وهذا العنوان - أعني الاسم الموصول : (مَن) كما يشمل العبد والحر يشمل كذلك البالغ وغيره وهو المميز - وليس ثمة من يخصّصه بالبالغ .
 إذاً .. هذا إيراد يُسجلّ على الشيخ صاحب الجواهر بناء على تمسّكه بالإطلاق وإن كنّا لا نقول به كما سيأتي - .
 نعم .. قد يُناقش في إطلاق المقبولة بالنسبة إلى محلّ الكلام بأنه لا يصح التمسّك به لنفي اعتبار البلوغ وذلك باعتبار عدم تمامية هذا الإطلاق - على تقدير القول به وبغض النظر عن المناقشات الآتية - لكونه مقيّداً بمعتبرة أبي خديجة التي تقول : (ولكن انظروا إلى رجل منكم ..) حيث إن الظاهر أن قوله : (رجل) قيد يُستفاد منه اعتبار البلوغ واعتبار الذكورية كما سيأتي فالمأمور بالرجوع إليه هو رجل لا صبي ولا امرأة .
 وقد يُناقش بعدم دلالة الرواية على اعتبار البلوغ والذكورية لأن هذا الاعتبار مبني على مفهوم اللقب [7] وهو أضعف المفاهيم ولا قائل به .
 ولكن يُجاب عنه بأن الاستدلال في الحقيقة ليس مبنياً على مفهوم اللقب وإنما هو مبني على استظهار أن الإمام (عليه السلام) في هذه الرواية بصدد تحديد من يجب الرجوع إليه [8] بكونه رجلاً أي ذكراً بالغاً وهذا يصلح أن يكون مقيّداً للمطلق في المقبولة لو قيل بانعقاد الإطلاق فيها .
 مضافاً إلى أنه يمكن المناقشة في أصل انعقاد الإطلاق في المقبولة وذلك باعتبار وجود ارتكاز عند المتشرّعة في عدم صلاحية الصبي لتسنّم هذه المناصب باعتبار عدم نفوذ تصرفاته ، وهذا الارتكاز الموجود لديهم إما أن يكون قرينة لبّية متّصلة بالكلام تمنع من انعقاد الإطلاق ولو سُلّم بدواً أن قوله (عليه السلام) : (انظروا إلى من كان منكم ..) لو خُلّي ونفسه يكون مطلقاً ولكن المتشرعة الذين يتلقّون هذا الكلام مرتكز في أذهانهم أن الصبي لا يصلح لهذا المنصب لكونه مولّى عليه ومسلوب النفوذ ، أو يقال بأنها تفيد الانصراف عن الصبي إلى البالغ .. وعلى كلا التقديرين ثمة تشكيك في انعقاد الإطلاق في هذه الروايات بالنسبة إلى محلّ الكلام .
 فظهر مما سبق الخدشة في وجود إطلاق في أدلة النصب العام ليُتمسّك به لنفي اعتبار شرطية البلوغ فلا نملك حينئذ الدليل الذي يشمل بإطلاقه غير البالغ بل نملك الدليل على اعتبار البلوغ واشتراطه وهو معتبرة أبي خديجة .
 فالصحيح وفاقاً للمشهور بل المتّفق عليه بينهم هو اعتبار البلوغ في القاضي .
 الشرط الثاني - الذي ذكره في المتن - : هو العقل واشتراطه مما لا يحتاج إلى أن يُستدلّ عليه بدليل كانصراف الأدلة عن المجنون وأمثاله بل من غير المعقول بالنسبة إلى الشارع أن ينصب المجنون قاضياً .
 الشرط الثالث : هو الذكورة أي يُعتبر في القاضي أن يكون ذكراً ، وهذا الشرط مشهور بين الأصحاب وادُّعي عليه الإجماع حيث ادّعى الشيخ الأنصاري (قده) الإجماع المحصّل والمنقول عليه وعلى البلوغ .
 وأقول : مما تقدّم بحثه في الشرط الأول يتبيّن الحال في هذا الشرط وحاصل ما نذكره هاهنا أن بعض أدلة النصب [9] وإن كانت قد يُتوهّم إطلاقها بالنسبة إلى هذا الشرط كما في قوله (عليه السلام): (من كان منكم) حيث يشمل الموصول (مَن) بإطلاقه الذكر والمرأة إلا أنه لا بد من رفع اليد عن هذا الإطلاق كما تقدّم وتقييده بخصوص الذكر باعتبار ما ورد في معتبرة أبي خديجة من قوله : (انظروا إلى رجل منكم) بالبيان السابق نفسه من كون الإمام (عليه السلام) في مقام التحديد مضافاً إلى عدم معهودية أن تكون المرأة قاضياً ويمكن أن يكون هذا سبباً في انصراف الإطلاق عن المرأة ، هذا .. وينبغي أن لا يكون المقصود بعدم المعهودية هو عدم التعارف الخارجي فقط إذ أنه لا يكون حينئذ مانعاً من الإطلاق وإنما المراد نحوٌ آخر من عدم التعارف وهو أنه لم يُنقل في زمان من الأزمنة تولّي المرأة لمنصب القضاء .. مضافاً إلى الارتكاز القائم على أن المرأة لا تصلح لهذا المنصب وأنها في أبواب ليست قليلة من الفقه لها أحكام خاصة تنفرد فيها عن الرجل مما قد يكوّن منشأ طبيعياً لهذا الارتكاز .. مضافاً إلى تأييد ذلك ببعض الروايات وإن كانت ضعيفة السند من قبيل ما رُوي في الخصال بسند ضعيف - : (ولا تُولّى المرأة القضاء) [10] ، وفي الفقيه أيضاً حيث روى الشيخ الصدوق بإسناده عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد عن أبيه جميعاً عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) : (قال يا علي ليس على المرأة جمعة .. إلى أن قال : ولا تُولّى القضاء) [11] مع ضميمة الروايات العامية التي نقلها علماؤنا في كتب الاستدلال والظاهر أنها روايات ليست بالقليلة فمن مجموع ما سبق كله لعله يحصل الركون إلى أن هذا المضمون [12] صادر عن المعصومين (عليهم السلام) .


[1] أي تلك الشرائط التي ذكرها مع شرط البلوغ .
[2] وهو سلب الاعتبار عن أقواله وأفعاله واعتبارها كلا أقوال ولا أفعال .
[3] أي القضاء .
[4] وهو كونه مولّىً عليه .
[5] باعتبار أن الولاية على الصبي تنتهي قهراً ببلوغه وهو أمر حاصل بخلاف العبد فقد يبقى في الرقّ طيلة حياته فيكون مولّى عليه تمام عمره .
[6] أي لعدم الاشتراط .
[7] وذلك باعتبار عدم ذكر الموصوف قبله .
[8] في مقابل التحاكم إلى الطاغوت .
[9] والمقصود بذلك مقبولة ابن حنظلة .
[10] الخصال ص585 الحديث الثاني عشر .
[11] الفقيه مج4 ص364 ، والوسائل في الباب الخامس والعشرين من أبواب صفات القاضي الحديث الأول مج12 ص46 .
[12] أي اعتبار الذكورية في القاضي المنصوب .