32/11/20


تحمیل
 بحث يوم الأربعاء 20 ذ ق 1432 ه
 كان الكلام في رواية عبد الله بن طلحة التي استشهد بها الشيخ صاحب الجواهر (قده) على مختاره بسند عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن حفص عن عبد الله بن طلحة عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : سألته عن رجل سارق دخل على امرأة ليسرق متاعها فلما جمع الثياب تابعته نفسه فكابرها على نفسها فواقعها فتحرك ابنها فقام فقتله بفأس كان معه فلما فرغ حمل الثياب وذهب ليخرج حملت عليه بالفأس فقتلته فجاء أهله يطلبون بدمه من الغد ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : اقض على هذا كما وصفت لك فقال : يضمن مواليه الذين طلبوا بدمه دية الغلام ويضمن السارق في ما ترك أربعة آلاف درهم بمكابرتها على فرجها إنه زانٍ وهو في ماله عزيمة وليس عليها في قتلها إياه شيء قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من كابر امرأة ليفجر بها فقتلته فلا دية له ولا قود " [1] .
 والاستشهاد بقوله (عليه السلام) : (اقض على هذا كما وصفت لك) ، والظاهر أن المقصود بـ( ما وصفت لك) الأحكام التي ذكرها الإمام (عليه السلام) بقوله : (يضمن مواليه الذين طلبوا بدمه دية الغلام ويضمن السارق ..إلخ) .
 والكلام في هذه الرواية من جهة سندية وأخرى دلالية :
 أما من الجهة الأولى فإن سند هذه الرواية غير تام لأن محمد بن حفص وعبد الله بن طلحة مجهولان لاسيما أن مضمون الرواية نفسها مرويّ في الفقيه بطريق آخر وهو عن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) ومشكلة هذا السند أن الشيخ الصدوق لم يذكر طريقه في المشيخة إلى يونس بن عبد الرحمن ، ونقله (قده) خالٍ من فقرة الاستشهاد [2] ، وهذا وسابقه [3] يجعلنا نشكّك في أصل وجود هذه الجملة بناءً على كونهما رواية واحدة كما لعله يشهد به اتّحاد المتن فيهما .
 وأما من جهة الدلالة فإن غاية ما تدل عليه الرواية في ما لو فرضنا أن السائل [4] كان مقلّداً أن المقلّد يجوز أن يتولّى القضاء في واقعة خاصة جزئية بإذن من الإمام (عليه السلام) الذي اطّلع عليها وبعد تعليمه له بأحكامها وكيفية القضاء فيها بتلك الأحكام فالرواية تدلّ إذاً على جواز قضاء المقلّد في هذه الحالة بالقيود المشار إليها وأين هذا ممّا نحن فيه من القاضي المنصوب بالنصب العام والبحث عن اشتراط الاجتهاد فيه ثبوتاً ونفياً فلا دلالة في هذه الرواية إذاً على جواز تسنّم غير المجتهد منصب القضاء مطلقاً .
 وبعبارة أخرى : أننا وإن استفدنا منها أهلية المجتهد لأن يكون قاضياً منصوباً بالنصب العام إلا أننا لا نستفيد منها أهلية غير المجتهد لذلك لأنها تتحدّث عن واقعة جزئية اطّلع عليها الإمام (عليه السلام) وبيّن للسائل أحكامها وأمره أن يقضي بها كما وصف له .
 هذا كله مع افتراض أن السائل كان مقلّداً ويمكن أن يقال إن ذلك ليس واضحاً بل ولا كونه مجتهداً كذلك غاية الأمر كما ذكرنا أن الرواية تدلّ على كونه قد تولّى القضاء في واقعة جزئية بأمر الإمام (عليه السلام) الذي اطّلع على خصوصياتها وأمره أن يحكم فيها بما علّمه .
 تبقى هاهنا مسألة أخرى وهي إمكان تعدية المورد المزبور إلى ما يماثله من الموارد بمعنى أنه هل يمكن القول بجواز أن يحكم المقلد بقضية من هذا القبيل لكن مع أخذ الإذن من المجتهد الذي يطّلع عليها ويبيّن له كيفية الحكم فيها أو فقل هل يمكن الاكتفاء بإذن المجتهد في مثل هذا الأمر أم لا ؟
 هذه المسألة سيأتي البحث عنها في الجهة الثانية من الجهات المتعلّقة بهذا الشرط إن شاء الله تعالى.
 هذا .. وقد تقدّم منّا ما لوحظ على الجواب الأول للشيخ صاحب الجواهر (قده) على ما أورده على نفسه [5]
  [7] .
 وأما ما لوحظ على جوابه الثاني [8] فهو المنع ممّا ذكره في مثل المقبولة فإن ظاهرها نفي أهلية غير من ذُكر فيها [9] لتسنّم منصب القضاء لظهورها في أن الإمام (عليه السلام) في مقام تحديد من يجوز الرجوع والترافع إليه لحلّ الخصومات ولو كان من يجوز الترافع له في الواقع هو الأعمّ من المجتهد وغيره لم يكن من المناسب التعبير بمثل ما ذُكر لاسيما وأنه (عليه السلام) في ذلك المقام [10] وعلى هذا تكون الرواية ظاهرة في أن من يجوز الرجوع والترافع إليه ويكون أهلاً للقضاء هو المجتهد ليس غير فتكون نافية لأهلية الفاقد لشرط الاجتهاد بمعنى أنها تكون نافية لأهلية المقلّد لتسنّم هذا المنصب لا أنها ساكتة عنه وليست لها دلالة على نفي أهليته كما يدّعي ذلك الشيخ (قده) .
 وفي ضوء ذلك لا يكون ما ذكره من أخذ الإذن للمقلد من المجتهد لتسنّم منصب القضاء وجيهاً لعدم كفايته في جواز ذلك بسبب عدم أهليته [11] له بحسب الأدلة الشرعية فيكون هذا نظير أخذ الإذن منه للصبي أو المرأة أو ابن الزنا لتسنّم منصب القضاء - بناءً على اعتبار البلوغ والذكورية وطهارة المولد مع أنه من الواضح أنه ليس من حقّ المجتهد إعطاء الإذن لأولئك إذ ليس من حقّه أن يجعل الأهلية لتسنّم منصبٍ مّا لمن لم تجعله الشريعة أهلاً لذلك .
 وأما ما لوحظ على جوابه الثالث [12] فهو ما تقدّم سابقاً من أن المقصود بالحاكم في المقبولة هو القاضي كما هو واضح من صدرها حيث إن السؤال فيها عن خصومة وتنازع بين طرفين وهذا الأمر يحتاج إلى قاضٍ يرفع ذلك التنازع ويحلّ تلك الخصومة فلذا قال الإمام (عليه السلام) : (ينظران إلى من عرف حديثنا .. [إلى قوله] .. فإني قد جعلته عليكم حاكماً) أي قاضياً لحلّ الخصومة وليس المقصود بالحاكم هنا الولي بالولاية العامة كما لا يخفى ، واستعمال الحكومة بمعنى القضاء موجود في الروايات كما في صحيحة سليمان بن خالد المتقدّمة : (اتقوا الحكومة ..) حيث إن المقصود بها القضاء كما يشهد لذلك قوله (عليه السلام) فيها : (إنما هي للإمام العالم بالقضاء) .
 وخلاصة ما تقدّم أن رأي الشيخ صاحب الجواهر (قده) يستند في الحقيقة إلى المناقشة في مقبولة عمر بن حنظلة من جهتين :
 أولاً : من حيث إنها ناظرة إلى الولاية العامة لا إلى القضاء .
 وثانياً : من حيث إن غاية ما تدلّ عليه هو أهلية المجتهد للمنصب ولا دلالة فيها على عدم أهلية غيره .
 وفرّع على ذلك عدم صلاحية الرواية لتقييد الأدلة المطلقة من الآيات والروايات فلذا تبقى هذه الأدلة محافظة على ظهورها من كون المستفاد منها جواز أن يحكم كل أحد بالحقّ والعدل والقسط من غير فرق بين طرق وصول الحقّ إليه من القطع أو الاجتهاد أو التقليد فيمكن حينئذ الاستدلال بها على أهلية المقلّد للقضاء مشروطاً بأن يقضي بما أنزل الله من الحقّ والعدل والقسط وهذا كما هو موجود لدى المجتهد موجود كذلك لدى المقلد إذ كل منهما قامت عنده الحجة الشرعية على أن هذا هو حكم الله وما أنزله الله فيكون اشتراط الاجتهاد بلا وجه على أساس حمل المقبولة على أحد المحملين السابقين [13] .. وقد عرفت الخدشة في كلا المحملين فإن نظر الرواية إنما هو إلى القضاء حيث إن المراد بالحاكم هو القاضي بقرينة صدرها من كون السؤال عن تنازع وخصومة بين طرفين كما أن الرواية في مقام تحديد من يجوز الرجوع إليه وقد ذكرت صفات له لا تنطبق إلا على المجتهد كما تقدّم ذكر هذا كله - وعلى ذلك فتكون الرواية صالحة لتقييد تلك المطلقات ولذا فمن الصعب جداً الالتزام بما ذهب إليه الشيخ صاحب الجواهر (قده) فالصحيح بناءً على ما تقدّم وفاقاً للمشهور هو اشتراط الاجتهاد في القاضي المنصوب بمعنى أن المنصوب قاضياً بالنصب العام لا بد أن يكون مجتهداً ولا يجوز أن يكون مقلّداً .
 الجهة الثانية من جهات البحث عن شرط الاجتهاد - : هي أنه بعد الفراغ من اشتراط الاجتهاد فهل يجوز للمجتهد أن يأذن للمقلد في أن يحكم في قضية من القضايا أم لا ؟
 سيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى .


[1] الوسائل مج29 ص62 الباب الثالث والعشرين من أبواب القصاص الحديث الثاني ، وفي الفقيه مج4 ص164 ، والتهذيب مج10 ص209 ولكن مع خلوّهما من فقرة : (اقض على هذا كما وصفت لك) .
[2] بعني قوله (عليه السلام) : (اقض على هذا كما وصفت لك) .
[3] أي عدم تمامية السند في النقلين (نقل الوسائل ونقل الفقيه) .
[4] وهو عبد الله بن طلحة .
[5] وملخّص إيراده : أن لدينا أدلة تقول بتوقّف القضاء على إذن الإمام (عليه السلام) فتكون مانعة من الأخذ بإطلاق تلك النصوص المتقدمة فلا يصحّ الاستدلال بها على أهلية المقلّد للقضاء .
[6] وحاصل الجواب الأول له (قده) : إن تلك النصوص مفادها الإذن لشيعتهم في الحكم بين الناس بأحكامهم الواصلة إليهم أعمّ من أن تكون واصلة عن اجتهاد أو تقليد .
[7] وإجمال ما تقدّم من الملاحظة عليه من قِبَل من تأخّر عنه : أن النصوص ليست في مقام البيان من هذه الجهة فهي أساساً ليست في مقام صحة الحكم وأن يتولّى ذلك الحكم كل أحد وإنما هي في مقام بيان لزوم الحكم بالحق والعدل والقسط في مقابل الحكم بالباطل والظلم والجور .
[8] وحاصله : دعوى أن المقبولة وأمثالها مما دلّ على النصب العام وإن كانت دالة على أهلية المجتهد لتسنّم القضاء إلا أنه ليس فيها دلالة على نفي أهلية المقلّد لتسنّم هذا المنصب فحينئذ يُكتفى بإذن المجتهد له في ذلك .
[9] ممن تنطبق عليه الصفات التي ذكرها الإمام (عليه السلام) بكونه ممن روى حديثهم ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم وليس ذلك إلا المجتهد .
[10] يعني مقام تحديد من يجوز الرجوع والترافع إليه .
[11] أي المقلّد .
[12] وحاصله : دعوى أن المقبولة وغيرها من أدلة النصب العام - كالتوقيع الشريف - ناظرةٌ إلى باب الحكومة والولاية العامة لا باب القضاء مستشهداً على ذلك بقوله في المقبولة : (فإني قد جعلته حاكماً) .
[13] أي نظر المقبولة إلى الولاية العامة لا إلى القضاء ، وأن غاية ما تدلّ عليه هو أهلية المجتهد للمنصب ولا دلالة فيها على عدم أهلية غيره .