32/11/25


تحمیل
  (بحث يوم الاثنين 25 ذ ق 1432 ه 27)
 وصلنا في البحث السابق إلى أنه ليس لدينا من الأدلة ما نستطيع أن نعتمد عليه في إثبات صلاحية المقلد لتولّي القضاء كما أننا في المقابل لا نملك دليلاً واضحاً يدلّ على عدم الصلاحية وقد تقدّم الكلام حول المقبولة ورواية عبد الله بن طلحة وكذا مسألة نصب القضاة من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) والوصي (عليه السلام) حيث لم تنفع هذه الأدلة لإثبات اشتراط الاجتهاد في تولّي القضاء لتدلّ على عدم صلاحية غير المجتهد لذلك كما لم يمكن الاعتماد عليها لإثبات صلاحيته لذلك لأنه لم يظهر منها أن من نُصب للقضاء كان مقلّداً بالمعنى المبحوث عنه في المقام وإنما الذي يغلب على الظن أنهم كانوا يتلقّون القواعد العامة في باب القضاء سماعاً من المعصوم - أو ما هو بمنزلة السماع منه - ثم يحكمون بما سمعوه منه وهذا غير ما نحن فيه من الحديث عن مقلّد يأخذ ما يستنبطه مجتهده من الأحكام ثم يحكم بها تعبّداً وهذا الأمر لا يمكن الاستدلال عليه بذاك .
 فالنتيجة فقدان الدليل على صلاحية غير المجتهد لتولّي القضاء فضلاً عن تولّي منصب القضاء ومعه تصل النوبة إلى الأصل المقتضي لعدم جواز التولّي لأن القضاء عبارة عن نفوذ حكم الحاكم في حقّ المتخاصمين والأصل عدم نفوذ حكم شخص في حقّ آخر إلا بدليل ولا نملك الدليل على نفوذ حكم غير المجتهد في حقّ المتداعيين فلا بد من الاقتصار في مخالفة الأصل على القدر المتيقَّن الذي يمثّله المجتهد ويبقى غيره داخلاً تحت حكم الأصل .
 وهاهنا أمر آخر ينبثق بعد تسليم ما سبق من الالتزام بعدم صلاحية المقلّد لتولّي القضاء وهو إمكان القول بجواز أن يأذن له المجتهد في ذلك بالرغم من عدم صلاحيته له بتقريب أن عدم جواز تولّي المقلّد للقضاء لم يثبت على أساس نهوض الدليل بعدم صلاحيته له إذ لم يقم دليل على ذلك - وإنما التزمنا بعدم جواز تولّيه القضاء من باب الاقتصار على القدر المتيقَّن [1] في مخالفة الأصل ، وحيث لم يدل دليل أيضاً على عدم جواز الإذن من قبل المجتهد فحينئذ يمكن لنا أن نلتزم بجواز إذن المجتهد له في تولّي القضاء .
 ولكن هذا الكلام غير تام لأن عدم الدليل على عدم جواز الإذن ليس كافياً في إثبات جواز الإذن والسرّ في ذلك هو أننا لا نملك أصلاً يقتضي جواز الإذن من قبل المجتهد له لتصل النوبة إليه بعد فقدان الدليل الاجتهادي على عدم جواز الإذن بل نحن في الحقيقة نملك أصلاً على خلاف ذلك وهو ما تقدّم مراراً من أن الأصل عدم نفوذ حكم شخص في حقّ آخر ومقتضاه كفاية عدم وجود الدليل على جواز الإذن للحكم بعدم جواز الإذن ، والشك في مقامنا ليس شكّاً في حكم تكليفي حتى يقال بجريان البراءة والأصول المؤمّنة فيه وإنما هو في اشتراط أمر في تولّي القضاء ونفوذ الحكم من قبل المقلد وهو إذن المجتهد ولا يمكن إثبات ذلك بمجرد عدم الدليل على عدم جواز الإذن بل لا بد من وجود الدليل على الجواز ومع فقدانه ووجود الأصل المقتضي لعدم الجواز يُتمسّك بهذا الأصل فيثبت عدم جواز الإذن .
 ودعوى التمسّك بعموم أو إطلاق أدلة ولاية الفقيه لإثبات جواز إذن المجتهد للمقلّد في تولّي القضاء قاصرة لأن مضمون هذه الأدلة - على تقدير تماميتها هو أنه يثبت للفقيه من الولاية ما ثبت للإمام (عليه السلام) منها ومن الواضح أن التمسّك بهذه الأدلة في المورد يتوقف على إثبات هذه الولاية للإمام (عليه السلام) أولاً حتى يقال بثبوتها للفقيه بتلك الأدلة تبعاً مع أن ثبوتها للإمام (عليه السلام) ليس واضحاً للشك في كون الاجتهاد معتبراً شرعاً في نفس القضاء وفصل الخصومة وعلى تقدير اعتباره فلا يكون غير المجتهد أهلاً لتولّي القضاء ومعه كيف يُمكن للإمام (عليه السلام) نصب مثله قاضياً فإن الولاية إنما تتحدّد بحدود ما هو جائز شرعاً فلا ولاية لأحد لتجويز ما هو غير جائز في الشرع حيث إن المطلوب منها هو الحفاظ على الشريعة وتطبيقها تطبيقاً صحيحاً فلا تكون شاملة لما يمثّل خرقاً ومخالفة صريحة لها .
 إذاً فالشك في اعتبار الاجتهاد وعدمه [2] يعني الشك في أن الإمام (عليه السلام) له الولاية أو ليست له الولاية إذ على أحد التقديرين [3] تكون له الولاية وعلى الآخر لا تكون له الولاية فلا يكون ثمة مجال للتمسّك بعموم أدلة الولاية لإثبات هذه الولاية للمجتهد لفرض عدم ثبوتها للإمام (عليه السلام) كي يقال بتعديتها للمجتهد بمقتضى تلك الأدلة .
 هذا كله بحسب ما تقتضيه محاسبة ما وصل إلينا من أدلة .. ولكن لأجل كون المسألة بالغة الأهمية والوقوف على حصول التساهل في تطبيق الشرط المذكور بما ذُكر من أنه يحصل الاطمئنان في أن القضاة المنصوبين في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) وزمان الإمام (عليه السلام) ليسوا جميعاً واجدين للشرائط المعتبرة ولتحقق نوع من الحرج والضيق عند التقيّد بهذا الشرط ذكر جماعة من فقهائنا (رض) بعض الصور والحالات التي استُثنيت من القاعدة المتقدمة [4] فحُكم فيها بجواز تولّي غير المجتهد للقضاء :
 فعن المحقق في الشرايع في المسألة العاشرة من مسائل أحكام القاضي ذكر أنه :
 " إذا اقتضت المصلحة تولية من لم يستكمل الشرائط انعقدت ولايته مراعاة للمصلحة في نظر الإمام كما اتفق لبعض القضاة [5] في زمان علي (عليه السلام) ، وربما مُنع من ذلك [6] فإنه (عليه السلام) لم يكن يفوّض إلى من يستقضيه ولا يرتضيه [7] بل يشاركه في ما ينفذه فيكون هو (عليه السلام) الحاكم في الواقعة لا المنصوب " [8] .
 وأقول : الإشكال ليس مقتصراً على شريح القاضي لكي يوجّه بأن الإمام (عليه السلام) أمره بأن يراجعه في ما يعتزم القضاء فيه بل هو أوسع من هذا خصوصاً في زمان الإمام (عليه السلام) حيث اتّسعت رقعة الدولة مما يقتضي الحاجة إلى نصب القضاة في الأمكنة المختلفة كمكّة والمدينة والمدائن ومن شأن الخليفة والوالي أن يُعيّن القضاة فيها فالكلام إذاً في أن مجموعة من القضاة نُصبوا من قبل المعصوم (عليه السلام) ونحن نقطع بأن بعضهم على الأقل لم يكونوا واجدين لبعض الشرائط ومنها الاجتهاد وهذه حقيقة غير قابلة للدحض ، والمحقق (قده) وجّه المسألة بأنه إذا كانت هناك مصلحة يراها الإمام (عليه السلام) فبإمكانه أن يُلغي هذا الشرط .
 وعن المحقق النراقي في المستند بعد أن ذكر أنه لا يجوز أن يأذن المجتهد للعامي في تولّي القضاء واستدل عليه قال :
 " لا يبعد جواز حكم مقلّد عادل عالم بجميع أحكام الواقعة الخاصة فعلا أو بعد السؤال في تلك الواقعة الخاصة بعد إذن المجتهد له في خصوص تلك الواقعة بعد رجوع المدعي أو المتخاصمين فيها إلى المجتهد " .
 إذاً فتجويزه للمسألة بالقيود المذكورة لا مطلقاً معلّلاً إيّاها بقوله : " لأن التحاكم والترافع والرجوع في الواقعة إنما وقع عند المجتهد .. والمجتهد أمر بأن يفتش مقلده عن حقيقة الواقعة ويحكم " [9] .
 وهذه الطريقة إن تمّت فإنها تخفّف من المشكلة بعض الشيء .
 وعن الشيخ الأنصاري (قده) في قضائه أنه حكى القول بالجواز عند عدم التمكّن من المجتهد - إما لأجل عدم التمكّن من تحصيل الإذن منه أو عدم توفّر المجتهد أصلاً - منسوباً إلى ابن فهد الحلّي (قده) وذهب هو [10] إلى القول بالجواز مع عدم التمكّن [11] في ما إذا كانت الواقعة مما لا تحتاج إلى اجتهاد وتقليد ومثّل لها بأن الحكم للمدّعي إذا أقام بيّنة عادلة فإنه هذه المسألة من الوضوح بمكان .
 وعن المحقق الاشتياني في قضائه التفصيل بين الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية ففي الأولى [12] - بعد تقييدها من قِبَله بقيود - القول بعدم المنع من تولّي المقلّد للقضاء فيها مع الإذن من قبل المجتهد .
 هذا .. وثمة أمور أخرى نتعرض لها في البحث اللاحق إن شاء الله تعالى .


[1] والقدر المتيقَّن هو المجتهد .
[2] أي في نفس القضاء وفصل الخصومة لا في منصب القضاء للاقتصار في المنصب على خصوص المجتهد أخذاً بالقدر المتيقّن في مخالفة الأصل من عدم نفوذ حكم أحد في حقّ آخر - .
[3] وهو عدم اعتبار الاجتهاد .
[4] أي عدم جواز الإذن واشتراط الاجتهاد .
[5] وهو شريح .
[6] أي من انعقاد ولاية من لم يستكمل الشرائط على نحوٍ يكون الفصل في الواقعة وإنفاذ الحكم فيها بيده استقلالاً .
[7] إشارة إلى روايات واردة في قضية شريح - وبعضها صحيح السند - مضمونها أن الإمام (عليه السلام) اشترط عليه بأن يرفع إليه كل قضية يريد أن يقضي بها .
[8] شرايع الإسلام مج4 ص863 .
[9] مستند الشيعة مج17 ص26 .
[10] أي الشيخ الأنصاري في قضائه .
[11] أي من الرجوع إلى المجتهد .
[12] أي الشبهات الموضوعية - التي ميزانها عدم الرجوع فيها إلى المجتهد وسؤاله عنها بل التشخيص فيها موكول إلى المكلّف نفسه - .