37/08/23


تحمیل

الموضوع:- اشكالات على تطبيق فكرة مجهول المالك على أموال البنوك أو الدولة - مسألة ( 19 ) – المكاسب المحرمة.

البيان الثالث:- أن نقول إنّ الكثير من أموال البنوك هي أموال المرابين ، يعني بتعبيرٍ آخر هم يقترضون من البنك بفائدة ، فهم يعطون فوائد إلى البنك في سبيل أن يقرضهم وهذه الفوائد هي أملاك اشخاص ، فحينئذٍ صار مال البنك أموال أشخاصٍ بهذا الاعتبار.

وجوابه:- إنّ هذا وإن كان تاماً في الجملة إلا أنّ المحذور بناء ً عليه يختصّ بالبنوك الربوية التي تتعامل مع الربا ، أما لو فرضنا أن البنوك لم يكن عندها هذا الشيء أو في شعبها الأخرى ليست بالربوية فهذا لا يأتي المحذور بلحاظه.

ومع التنزلّ يصير المورد من المال الحلال المخلوط بالحرام إذ ليس كلّ أموال البنك هي فوائد ربوية من هذا القبيل بل يكون قسم منها هو من هذا القبيل والمال الحلال المختلط بالحرام يحلّل بدفع خمسه لوجود رواية خاصّة به فيخمّس ، فعلى هذا الأساس يخمّس ويحلّ الباقي من دون فرقٍ بين الغني والفقير ومن دون حاجةٍ إلى إجازة الحاكم الشرعي.

والخلاصة من كلّ هذا:- إنّ أموال البنوك لا يمكن تطبيق حكم مجهول المالك عليها أعني التصدّق أو كسب إجازة الحاكم الشرعي فإنّ ذلك خاصٌّ بالأموال الشخصية.

الاشكال الثاني:- هناك روايات دلتّ على جواز قبول جوائز السلطان أو العمّال ، كما جاء في صحيحة محمد بن مسلم وزرارة:- ( سمعناه يقول:- جوائز العمّال ليس بها بأس )[1] ، وعلى منوالها ما دلّ على جواز الشراء من السلطان ، من قبيل صحيحة معاوية بن وهب:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- أشتري من العامل الشيء وأنا أعلم أنه يظلم ، فقال:- اشتر منه )[2] ، وقد أفتى الفقهاء القدماء فضلاً عن المتأخّرين بأنّ جوائز العمّال والشراء من السلطان يجوز من دون محذور.

وتقريب الدلالة:- هو أنه إذا جاز أخذ جائزة السلطان فيلزم من ذلك مع الأولوية أو من دونها جواز أن يأخذ الموظف كالطبيب أو المعلّم راتبه من الدولة بلا صدقةٍ أو إذنٍ من الحاكم الشرعي لأنّ ذاك يأخذ جوائز السلطان ويستفيد منها بلا حاجة إلى صدقةٍ ولا إلى غير ذلك ، فالموظّف حينما يأخذ راتبه فلا نقول له هذا مجهول المالك ويحتاج إلى أن يتصدّق أو إجازة الحاكم الشرعي.

وهكذا لو فرض أنّ الدولة هدمت داري لأجل شارعٍ أو غير ذلك وأعطت بدل الدار تعويضاً فقال الفقهاء إنَّ هذا التعويض مجهول المالك ، فإذا كانت الدار مثلاً إرثاً من الأب فأموال التعويض عنها هي مجهول المالك فكيف نقسّم ؟ إنّ هذه الأموال هي مجهول المالك فإيُّ واحدٍ منّا نحن الورثة وقعت في يده هذه الأموال تكون له بإجازة الحاكم الشرعي ولا بأس بذلك ، ولكن الحاكم الشرعي لا يجوّز ذلك لأنه يلزم حصول مشكلةٍ بين الورثة فيقول لهم قسّموها تقسيم الإرث ولكنّ هذا من باب الحكم الثانوي وإلا فالحكم الأوّلي هو أنّ مجهول المالك أيّ شخص منهم يستولي عليه فهو له.

وهذا الكلام لا يأتي بناءً على هذه الروايات ، بل هذه الروايات لم تقل هو مجهول المالك بل قالت خذه لك بلا حاجةٍ إلى صدقةٍ ولا غير ذلك ، فإذن أموال الموظفين والأموال التي تعطيها الدولة تعويضاً عن البيوت المهدومة وغيرها لا تطبّق عليها فكرة مجهول المالك بمقتضى هذه الروايات.

إن قلت:- لعلّ هذه إجازة خاصّة من الإمام عليه السلام ، فالإمام عليه السلام حينما قال ( لا بأس ) فهي مجهولة المالك ولكنه قال هكذا من باب أني أنا الإمام أجيز ذلك ، فلا يثبت من ذلك أنّ هذه على مرّ العصور حكمها هو كذلك وإنما هي إجازة خاصّة منّي.

قلت:- هذا خلاف ظاهر قوله ( لا بأس بها ) بل ظاهره أنه لا بأس بها إلى الأبد لا أنه لا بأس بها مادمت أنا موجوداً وأما إذا جاء الإمام الذي بعدي فالرأي رأيه فقد يجيز وقد لا يجيز فإن هذا خلاف الظاهر ، فكما نستفيد من سائر الروايات الأحكام الكلّية إلى الأبد هذا أيضاً نستفيد منه ذلك ، فأنت تقول المفقود هو إجازة خاصّة فهذا معناه أنه مادام الإمام حياً وهذا تقييدٌ للنصّ وهو خلاف ظاهر النصّ ويحتاج إلى قرينة ولا قرينة ، فإذن هو مرفوض.

إن قلت:- لعلّ الإمام عليه السلام أجاز من باب أنه صاحب يد وله أملاك وله أموال فيحتمل أنّ ما دفعه لي كجائزةٍ هو من باب أنه ملكه ، فإذا قدّم لي عباءةً مثلاً فيحتمل أنها ملكه الشخصي قبل استلامه السلطة أو غير ذلك ، فمادام يحتمل أن الذي يعطيه السلطان كجائزة أنه ملك شخصي له فتطبّق آنذاك قاعدة ( اليد دليل الملكية ) فنقبل منه ما يدفع ولعلّ الإمام عليه السلام أجاز من هذه الناحية فقال جوائز السلطان لا بأس بها من هذه الناحية ، فمن هذه الناحية يجوز التصرف أمّا إذا كان من أموال الدولة - أي أعطى قسماً من ذهب الدولة أو غيرها إلى شخصٍ - فهذا الرواية لا تشمله.

قلت:- إنّ هذا تقييدٌ للنص ، يعني يلزم أن نقيّد الجائزة بما إذا فرض أنه كان يحتمل أنها ملك شخصي له أما إذا كان المدفوع جزماً ليس من أمواله الشخصية كما إذا فرضنا أنه اندلعت حرب أو غير ذلك فأهدى لي السلطان هدية - كقسمٍ من الذهب أو البترول - فجزماً هذه ليست من أمواله بل من أموال الدولة وهذا ليس من باب صاحب يدٍ والحال هو مشمول لإطلاق الرواية ، والإمام عليه السلام لم يقيّد وقد أطلق ، فإذن يثبت أنّ كل ما أجازه السلطان يجوز أخذه ، وإذا ثبت ذلك يثبت أنّ كل ما يؤخذ من الدولة ازاء جهودٍ كالطبيب أو غيره أو ازاء ما قد خُرِّب وأعطوا بدله تعويضاً مالياً أو ما شاكل ذلك لا يطبّق عليه فكرة مجهول المالك إمّا مع الأولويّة أو من دون أولويّة.

الاشكال الثالث:- أن يقال إنّ الاسلام كما هو ينظّم حياة الفرد ينظّم حياة المجتمع ، فهو لم يأتِ لعلاج حياة الفرد فقط بل لعلاج حياة المجتمع وإلى الأبد ، ولو سألت عن الدليل قلت إنّ من يعرف الإسلام فهذا من البديهيات ولا يحتاج إلى دليل ، فإذا قبلنا بهذا نقول:- إنّ الحياة الاجتماعية الآن صارت بحاجة إلى النظام البنكي ولا يمكن من دونه وهذه قضيّة لا يمكن انكارها ، وقد يقول شخصٌ أنا الفرد لا أحتاج إلى البنك ، ولكن نقول عليك النظر إلى المجتمع ولا تنظر إلى الفرد فحينئذٍ نقول مادام نظام البنوك قضيّة ضرورية للمجتمع فحينئذٍ نقول إنّ الاسلام لابدّ وأن يكون له رأي في هذا المجال ، فإما أن يرفض الإسلام نظام البنوك ويقول ارجعوا الى حياتكم السابقة ، وهل تحتمل هذا المعنى ؟! كلا لا يحتمل هذا أبداً ، فإذن نظرته ليست سلبية بل تكون إيجابية ، فهو يقول هذه حاجة إلى المجتمع ولا بأس بها ولكنّه يقيّد ويقول يطبّق عليه حكم مجهول المالك ، فكلّ مالٍ تستلمه من البنك يلزم إجازة الفقيه ويلزم التصدّق بمقدارٍ منه.

وهذا أيضاً يشكل قبوله لأنّ هذا في الحقيقة يعالج حياة الفرد ، فأنا وأنت كأفرادٍ مرتبطين بالحاكم الشرعي نأخذ الإجازة من الحاكم الشرعي أو يقول لنا تصدّقوا أمّا كمجتمعٍ ككل - وانظر إلى المجتمع بشكل عام ولا تنظر إلى الأفراد - فلا يمكن إناطة أمورهم بهذا الشيء ونقول لهم إنّ هذا مجهول المالك وهو يحتاج إلى إجازة الحاكم الشرعي ويحتاج إلى تصدّق فإنّ هذا معناه أنّ الإسلام ينظر إلى الأفراد ويعالج حاجاتهم أما حاجة المجتمع فلا.

وهذه قضيّة مهمة جداً ، وهي أنّ الفقيه ينظر إلى هذه القضيّة وهي أنّ الإسلام لم يجئ لينظّم حياة الفرد فقط وإنما جاء لينظّم حياة المجتمع ايضاً ، وهناك بعض الأمثلة التي تدلّ على أنّ الفقهاء كانت نظرتهم إلى الإسلام نظرة فرديّة ويعالج الفرد ، من قبيل أنه في باب الانسداد قيل انسد باب العلم والعلمي فيلزم أن يكون كلّ ظنٍ حجة ، ولماذا ذلك ؟! فإنه حتى لو فرض أنّ باب العلم والعلمي قد انسد ولكن هناك بدائل ، ومن جمة البدائل التي ذكروها هو الاحتياط حيث قالوا يمكن اللجوء إلى الاحتياط ، وقد أجيب عن ذلك فقيل إنَّ الاحتياط حرجي ، ورُدَّ ذلك بأنّه على الفرد أن يحتاط إلى أن يلزم الحرج فيرفع يده عن الاحتياط وآنذاك يأخذ بالظن لا أنه يأخذ بالظن ابتداءً ، هكذا قالوا وهكذا قرأنا في الكفاية وغيرها.

وهنا نقول:- هذا الجاب مبنيٌّ على النظر إلى الإسلام نظرةً فرديةً ، يعني ينظر لك ولي كأفرادٍ نعيش في الحوزة فنقول حينئذٍ يلزم الاحتياط إلى أن يلزم الحرج أمّا كمجتمعٍ واسع فلا يمكن أن تُبنى الشريعة على الاحتياط ، وعلى الفقيهة أن ينظر إلى ذلك حتى لا يقع في مثل هذا المطلب ، فبالتالي الإسلام نظام اجتماعي فلا يمكن أن يقال يحتاط المكلّف إلى أن يلزم الحرج في حقّه فإنّ هذا باطل بل الاحتياط في نفسّه باطل لزم الحرج أو لم يلزم الحرج فإنّا لا نحتمل في الإسلام الذي جاء كنظامٍ للمجتمع أن يكون مبنيّاً على الاحتياط ، فإذا عرفنا أنّ الاسلام يلزم أن ننظر إليه هكذا ففي مقامنا أيضاً نقول ذلك ، فلا معنى لأن تقول إنَّ هذا مجهول المالك فيلزم مراجعة الحاكم الشرعي أو التصدّق فإنّ هذا معناه النظر إلى الإسلام بأنه يعالج الحياة الفرديّة ولا يعالج ما يحتاج إليه المجتمع بما هو مجتمع ، فيثبت من خلال هذا البيان أنّ تطبيق فكرة مجهول المالك لا معنى لها وغير محتملة وهي مبنيّة على النظر إلى الإسلام نظرة فرديّة.

ولكن أبقى أقول هناك فرق بين الإشكالين الأولين وبين هذا الإشكال ، فالإشكالان الأوّلان أقصى ما يثبتاه هو أنّ حكم مجهول المالك لا نطبّقه - يعني من الحاجة إلى إجازة الحاكم الشرعي أو التصدّق فهذا لا نحتاجه - أما أثار الملكية فكيف ؟ فآثار الملكية هي أنه حينما أقترض من البنك وأتعامل معه كمالك ونقول هذا قرض وبالتالي لا تجوز الفائدة فهذا لم نكن نطبقه على الأشكال الأوّل أو الثاني بل الإشكال الأوّل أو الثاني أقصى ما يقول هو أنّ حكم مجهول المالك لا نطبقه ولكن من زاوية لزوم كسب الإجازة من الحاكم الشرعي أو التصدّق أما أن نتعامل مع أموال البنوك معاملة البنوك وبالتالي يصير قرضاً وبالتالي يصير رباً فالإشكال الأوّل والثاني لا يثبت ذلك.

بخلافه في الإشكال الثالث فهو يثبت لنا أنّ البنك يتعامل معه معاملة المالك ، فعلى هذا الأساس القرض يتحقّق مع البنك ، فلو أردت آخذ من البنك قرضاً فإنه وإن كان الموجود هو الموظّف فبالتالي سوف يتحقق القرض مع هذا الموظّف ، ولا تقل لي هذا الموظّف لا ممثلية شرعية له ، فإنّ هذا الكلام لا يأتي بعد أن عرفنا أنّ الاسلام يعالج المجتمع ولا يعالج الأفراد.

فإذن على الاشكال الثالث آثار ملكية البنك أيضاً نطبّقها فالقرض حينئذٍ يتحقّق.

وهذا الذي بينته الآن هو إيجابيٌّ من جهة وسلبي من جهةٍ أخرى ، فالجهة الايجابية فيه هي أننا سوف لا نتقيّد بمسألة مجهول المالك وإجازة الحاكم الشرعي والصدقة وما شاكل ذلك ، والجهة السلبيّة هي أنّنا سوف نحرّم القرض الربوي فالإيداع بفائدةٍ والاقتراض بفائدةٍ كلاهما سوف لا يجوزان لأنه على الاشكال الثالث سوف نتعامل معه معاملة المالك ، بينما على رأي الذي يطبّق فكرة مجهول المالك فالإيداع الاقتراض بفائدةٍ يجوز ، فإذن ما ذ كرته وإن كان جيّداً من زاويةٍ لكن ينبغي الالتفات إلى أنّه فيه هذه السلبية.

هذه إشكالات - بيانات - ثلاثة لإثبات عدم تطبيق فكرة مجهول المالك على أموال البنوك فلا نحتاج إلى مسألة التصدّق أو إجازة الحاكم الشرعي على الاشكالين الأّولين فقط ، أما القرض الربوي فلا يتحقّق على البيانين الأوّلين ، أما على البيان الثالث حتى القرض الربوي والإيداع الربوي سوف يتحقّق.