33/02/13


تحمیل
  (بحث يوم السبت 13 صفر الخير 1433 ه 56)
 كان الكلام في تحديد ما هو الضابط في مقام التمييز بين حقّ الله وحقّ الناس وذكرنا أن ألسنة الروايات قد اختلفت في نسبة بعض الحدود كالسرقة حيث تجعلها بعض الروايات في ضمن حقّ الله وأخرى في ضمن حقّ الناس مما جعلنا نتأمّل في ما طرحناه مائزاً بين الحقّين من (التعدّي والتجاوز على حقوق الآخرين) وجوداً [1] وعدماً [2] .
 ويمكن أن يقال إن قضية انتساب الحدود ليست قضية حدّية فلا مانع من افتراض أن بعض الحدود يتمحّض في كونه من حقوق الله تعالى من قبيل شرب الخمر وبعضها الآخر يتمحّض في كونه من حقوق الناس [3]
  [4] وبعض ثالث تكون فيه كلتا الجنبتين فمن جهة يكون من حقّ الله ومن جهة أخرى يكون من حقّ الناس وعلى ذلك فيمكن تخريج جعل الروايات لهذا القسم من حقوق الله بكونه من باب التغليب .
 ويمكن أن يقال أيضاً إن الغرض في جعل حدّ السرقة من حقوق الله إنما هو لإثبات الحدّ على السارق ولو من دون مطالبة من المسروق منه ولذا دلّت بعض الروايات على أن الحدّ يثبت بعلم القاضي ولو لم يطالب المسروق منه بإقامته على السارق بل ولو وهبه ما سرقه فإن الحدّ حقّ الله ولا يسقط بإسقاط أحد ولكن من حيث الجانب المالي من السرقة فإن المال لا يثبت على السارق إلا إذا أقام المسروق منه الدعوى عليه لدى القاضي فحينئذ يقضي هذا بعلمه أو بالطرق المعروفة في باب القضاء - على الخلاف في نفوذ علمه في حقّ الناس - .
 الدليل الثامن :

التمسّك بالروايات الظاهرة في المفروغية عن جواز أن يقضي القاضي بعلمه وأن الرجوع إلى البيّنات والأيمان إنما هو في صورة عدم العلم فتكون دليلاً على جواز استناد الحاكم في قضائه إلى علمه :
 فمنها : ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن هشام بن سالم عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : في كتاب علي (عليه السلام) أن نبياً من الأنبياء شكا إلى ربه فقال : يا ربّ كيف أقضي في ما لم أشهد ولم أرَ ؟ قال : فأوحى الله عز وجل إليه أن احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به ، وقال : هذا لمن لم تقم له بينة " [5] .
 وهذه الرواية معتبرة سنداً .
 ومنها : ما رواه الكليني أيضاً عن محمد بن يحيى عن أحمد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن أبان بن عثمان عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : في كتاب علي (عليه السلام) أن نبياً من الأنبياء شكا إلى ربه القضاء ، فقال : كيف أقضي بما لم تر عيني ولم تسمع أذني ؟ فقال : اقض بينهم بالبينات ، وأضفهم إلى اسمي يحلفون به " [6] .
 وهذه الرواية ضعيفة سنداً بالإرسال .
 والمراد بـ(أضفهم إلى اسمي) هو ألجئهم إلى اسمي ، واستعمال (أضاف) بمعنى (ألجأ) مذكور في كتب اللغة .
 
 ومنها : ما رواه الكليني أيضاً عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن بعض أصحابه عن عاصم بن حميد عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) :
 " قال : إن نبياً من الأنبياء شكا إلى ربه كيف أقضي في أمور لم أُخبَر ببيانها ؟ قال : فقال له : رُدّهم إليّ وأضفهم إلى اسمي يحلفون به " [7] .
 وهذه الرواية ضعيفة سنداً أيضاً بالإرسال .
 وربما يجد المتتبّع روايات أخرى غيرها بالمضمون نفسه ، والعمدة من هذه الروايات هي الرواية الأولى باعتبار تماميتها سنداً .
 وتقريب الاستدلال بها من جهة ظهور دلالتها في أن تحيّر هذا النبي وتردّده في كيفية القضاء إنما هو في صورة عدم علمه بالقضية من جهة عدم مشاهدتها والاطّلاع على تفاصيلها مما أوجب تحيّره في كيفية القضاء فيها ولذا أُخبر من الباري عزّ وجل بأن يقضي بالبيّنات والأيمان ، وأما في صورة العلم بها وبتفاصيلها فهو لا يتحيّر لأنه يقضي فيها حينئذ بعلمه فلم يحتج إلى السؤال عن كيفية القضاء في هذه الحالة وإلا فلو كانت البيّنات والأيمان مما يجب القضاء به حتى في حالة العلم لكان المناسب أن يُنبّه على ذلك فيُفهم من ذلك إقراره عمّا استقر في ذهنه من الفراغ عن جواز الاستناد إلى العلم حيثما وُجد ، ومن هنا تكون هذه الرواية ظاهرة في المفروغية عن جواز أن يقضي القاضي بعلمه .
 وهذا ما يُستظهر أيضاً من باقي الروايات التي سقناها وما هو بمعناها مما يقف عليه المتتبّع فالتعبيرات وإن اختلفت إلا أن المضمون واحد .
 نعم .. أقصى ما يثبت بهذه الرواية هو نفوذ علم الحاكم إذا كان مستنداً إلى الحسّ لا مطلقاً والقرينة على ذلك قوله : (لم أشهد ولم أرَ) فإن الشهادة والرؤية من موجبات العلم الحسّي كما هو واضح ، ولا خصوصية لهما بحسب المتفاهم العرفي بل الأمر يشمل كل ما من شأنه أن يورث العلم من بقية الحواس وعلى ذلك فلا يثبت بهذه الرواية نفوذ علم الحاكم إذا كان مستنداً إلى غير الحسّ كالحدس .
 هذا بالنسبة إلى الرواية الأولى .
 وأما الرواية الثانية - وهي مرسلة أبان بن عثمان - فهي وإن كان يجري فيها تقريب الاستدلال نفسه ويُتوصّل بها إلى النتيجة نفسها إلا أن لها تتمة قد تُنافي هذه النتيجة فقد ورد في ذيلها قوله (عليه السلام) :
 " إن داود (عليه السلام) قال : يا رب أرني الحقّ كما هو عندك حتى أقضي به ، فقال : إنك لا تطيق ذلك فألحّ على ربه حتى فعل فجاءه رجل يستعدي على رجل فقال : إن هذا أخذ مالي ، فأوحى الله إلى داود أن هذا المستعدي قتل أبا هذا وأخذ ماله فأمر داود بالمستعدي فقُتل وأخذ ماله فدفع إلى المُستعدَى عليه ، قال : فعجب الناس وتحدّثوا حتى بلغ داود (عليه السلام) ودخل عليه من ذلك ما كره فدعا ربّه أن يرفع ذلك ففعل ثم أوحى الله إليه أن احكم بينهم بالبيّنات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به " .
 فقد يقال إن الذي يظهر من هذا الذيل أن الاستناد في الحكم إلى العلم ولو كان حسياً لم يكن مشروعاً قبل النبي داوود (عليه السلام) وإنما هو الذي ألحّ على ربّه أن يُريَه الحقّ والواقع ليقضي به كما هو عنده [8] وهذا الأمر قد ارتفع في زمان هذا النبي نفسه كما صرّحت به الرواية حيث طلب من ربه أن يرفعه فرفعه وأرجعه في القضاء إلى البيّنات والأيمان فلا يمكنه بعد صدور الأمر الإلهي إليه بالحكم بين الناس على وفق ذلك أن يقضي بعلمه حتى لو كان عن حسّ .
 إذاً فجواز الاعتماد على العلم أمر شُرّع في فترة معينة وارتفع فلا يمكن الالتزام بمضمون المعتبرة المتقدّمة وصدر هذه المرسلة في مثل هذا الزمان .
 ولكن يمكن الجواب عن ذلك بأن الذي ارتفع هو إطْلاع داوود (عليه السلام) على الواقع والحقّ من قبل الله تعالى فحيث لا يُخبَر داوود بعد ذلك بالحقّ من جهة الوحي يكون حينئذ مضطراً إلى أن يحكم بين الناس بالوسائل المتاحة من البيّنات والأيمان وهذا لا ينافي أنه إذا علم بالحقّ في واقعة من الوقائع استناداً إلى بعض الأمور الحسية كالرؤية والسمع بل حتى استناداً إلى الوحي في بعض القضايا الخاصة - ولو من جهة اقتضاء المصلحة ذلك أن يقضي بعلمه فيها .
 وهذا الجواب لا يخلو من ضعف لتعارضه مع التعليل المستفاد للرفع من قوله : (فعَجِب الناس وتحدّثوا حتى بلغ داود (عليه السلام) ودخل عليه من ذلك ما كره فدعا ربّه أن يرفع ذلك ففعل) حيث يُستفاد منه أن طلبه رفع إطلاعه على الحق من قبله تعالى إنما كان لحديث الناس وتألّمه مما دخل عليه منه والذي سبّب ذلك هو حكمه بعلمه حيث لا يكون في غالب الأحوال مقنعاً للناس وإنما المقنع لهم حكم الحاكم على وفق البيّنات والأيمان فكيف يجوز بعد ذلك أن يقضي بعلمه ولو كان مستنداً إلى الحسّ فضلاً عمّا إذا كان مستنداً إلى الغيب .
 وكيف كان فلا يؤثّر هذا الإشكال ولو تمّ في ما استفيد من دلالة المعتبرة المتقدّمة لضعف هذه الرواية بالإرسال .
 وأما الرواية الثالثة - وهي مرسلة محمد بن قيس فسندها ضعيف أيضاً بالإرسال من جهة قوله : (عن بعض أصحابه) حيث لم يُصرّح باسمه ليُستبان مدى وثاقته .
 اللّهم إلا أن يقال إن إبراهيم بن هاشم وإن كان يروي عن كثيرين قد يبلغ عددهم مئة وخمسين أو اكثر إلا أن معظم هؤلاء من الثقات الأجلّاء لاسيما من يُكثِر الرواية عنه مضافاً إلى ما يوحيه التعبير عن المُرسَل عنه بقوله : (عن بعض أصحابه) من الإشارة إلى الاعتماد عليه .. فبضمّ هذا إلى ذاك قد يُطمأن بأن ذلك البعض من الأصحاب لا بد أن يكون من الثقات فإذا تمّت هذه الدعوى فالرواية تتمّ سنداً .
 هذا من حيث السند ، وأما من جهة الدلالة فإن فُسّر قوله : (كيف أقضي في أمور لم أُخبَر ببيانها؟)
 بأن المقصود هو الاستفهام عن كيفية القضاء في أمور لم يَطّلع على تفاصيلها فمفادها يكون حينئذ نفس مفاد سابقتيها ، وإن فُسّر بأن المقصود به الاستفهام عن كيفية القضاء في أمور لم يُخبّر من قِبَل الله تعالى بكيفية القضاء فيها فأُجيب بأن يردّهم إليه ويُضيفهم إلى اسمه عزّ وجل يحلفون به فالرواية تكون على هذا أجنبية عن محلّ الكلام من نفوذ علم القاضي فلا يصحّ الاستدلال بها في المقام .
 فتحصّل ممّا تقدّم أن العمدة هي الرواية الأولى لتماميتها سنداً - مؤيّدةً بباقي الروايات - وهي دالة بالبيان المذكور على نفوذ علم القاضي إذا كان مستنداً إلى الحسّ دون ما إذا كان مستنداً إلى غيره .
 وحيث انتهينا من ذكر الأدلة التي سيقت في المقام على دعوى جواز استناد القاضي إلى علمه ومناقشتها سنداً ودلالة يبقى التطرّق إلى أهمّ ما ذُكر منها وهي أربعة : (الإجماع والآيات الآمرة بالحكم بالعدل ومعتبرة الحسين بن خالد ومعتبرة سليمان بن خالد) [9] فإن فيها مزيد كلام سيأتي التعرّض إليه إن شاء الله تعالى .
 


[1] في حقّ الناس .
[2] في حقّ الله تعالى .
[3] أقول : الظاهر أن لا أصل لهذا الشقّ لأن فرض كونه حدّاً يقتضي كون حصول مسبّبه عن عمد وحينئذ فلا بد من أن تكون فيه كلتا الجنبتين فمن جهة هو من حقّ الله تعالى لفرض التعدّي على حقوق الآخرين وقد ضمن الله تعالى الحقوق لأهلها ما لم تكن مهدورة من قبله ومن جهة هو من حقّ الناس لفرض الاستيلاء عليها بغير وجه حقّ فكلّما حصل التعدّي عن عمد كان لا ريب ملزوماً للإثم فيكون حينئذ من حقّ الله تعالى ثم لأجل كونه مالَ الغير أو من مختصّاته يكون من حقّ الناس ففي المقام حقيقة شقّان : ما يتمحّض كونه من حقّ الله تعالى وما يكون مشتركاً بين الحقين فيتأتى الجواب حينئذ بأن مثل حدّ السرقة إنما اختلفت فيه ألسنة الروايات من جهة تغليب أحد الحقّين على الآخر .
[4] ولكن هذا الجواب لا يخلو من ضعف ، والأولى أن يقال إن مرجع ذلك الاختلاف إلى التفصيل بين حال ما بعد رفع الأمر إلى الحاكم فيتمحّض في كونه من حقّ الله ، وحال ما قبل رفعه إليه فيتمحّض كونه من حقّ الناس فالروايات التي جعلته من حقّ الله تعالى كانت ناظرة إلى حال ما بعد الرفع والتي جعلته من حقّ الناس كانت ناظرة إلى حال ما قبل الرفع .. وبذلك يمكن حلّ إشكال الاختلاف في ألسنة تلك الروايات .
[5] الكافي مج7 ص415 ، الوسائل أبواب كيفية الحكم الباب الأول الحديث الأول مج27 ص229 .
[6] المصدر السابق الحديث الثاني .
[7] المصدر السابق الحديث الثالث ص230 .
[8] أي عند الله عزّ وجل .
[9] وهي على الترتيب الدليل الخامس والأول والسابع والثامن .