33/02/29


تحمیل
  (بحث يوم الاثنين 29 صفر الخير 1433 ه 60)
 تقدّم أن هناك في مقابل أدلة النفوذ أدلة قد يُستدلّ بها على عدم جواز استناد القاضي إلى علمه في باب القضاء وعدم نفوذه فيه وكان الدليل الأول عبارة عن الروايات الدالة على حصر القضاء بالبيّنات والأيمان وقد مرّ ذكر روايتين منها كانت أولاهما معتبرة سليمان بن خالد المتقدّمة وقد تمّ الكلام عليها وكانت الثانية صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقد ورد فيها قوله (صلى الله عليه وآله) : " إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان .." وهذا الحصر يدلّ على أنه لا يقضي بينهم بغيرهما الشامل [1] للقضاء بالعلم الذي هو محلّ الكلام ، ومقتضى ظاهره [2] الأولي أنه حصر حقيقي فتكون الرواية دالة حينئذ على عدم نفوذ ما عدا الأيمان والبينّات في القضاء ومنه علم القاضي ولو كان مستنداً إلى الحسّ .
 ولكن قد يقال بأن هذا الحصر إضافي لا حقيقي ، والظاهر بدواً فيه احتمالان :
 الأول : أن يكون حصراً بالإضافة إلى الأدلة غير العلمية فلا يشمل العلم الذي هو محلّ الكلام .
 الثاني : أن يكون حصراً بالإضافة إلى العلم الغيبي الإلهي [3] وكأنه (صلى الله عليه وآله) يقول - وفق هذا الاحتمال - أنه لا يقضي بالعلوم الغيبية وإنما يقضي بالبيّنات والأيمان فهو نفي للعلم المستند إلى الغيب لا إلى مطلق العلم ولو كان عن حسّ .
 أما الأول فهو خلاف الظاهر لأن مقتضى إطلاق الحصر كونه حصراً حقيقياً فهو لا يتكفّل بنفي ما عدا هذين [4] من الأدلة العلمية وإنما ينفي غير هذين مطلقاً سواء كان من الأدلة العلمية أو كان من غيرها [5] .
 وأما الثاني فهو لا ينافي استناد القضاء إلى العلم العادي الذي يحصل من الأسباب الطبيعية كالرؤية والمشاهدة لأن الرواية وفقاً له ليست في مقام نفي نفوذ القضاء المستند إلى العلم مطلقاً وإنما هي في مقام نفي نفوذ القضاء المستند إلى العلم الغيبي الإلهي .
 إن قيل : لو تمّ ما ذُكر لكان ينبغي أن يُذكر العلم العادي إلى جنب ما ذُكر من البيّنات والأيمان .
 فإنه يقال : إنه ذُكر خصوص البيّنات والأيمان لأن القضاء بهما هو الشيء المتعارف بين الناس أو هو الشيء الذي تعارف أن يقضي به (صلى الله عليه وآله) من غير أن يعني ذلك عدم جواز قضائه بالعلم المستند إلى الأمور العادية فهو إذاً في مقام نفي أن يقضي استناداً إلى العلم الغيبي وليس في مقام نفي نفوذ القضاء المستند إلى العلم مطلقاً ومنه العلم العادي الذي هو محلّ الكلام .
 ويمكن أن يُؤيَّد ما تقدّم [6] بأمور :
 الأول :

أن الظاهر أنه لا إشكال عندهم في أن النبي (صلى الله عليه وآله) يجوز له أن يقضي بالعلم العادي وإنما وقع البحث والكلام في استناد غير المعصوم من القضاة إلى علمه العادي ، ومن هنا فإن الرواية حيث تتحدّث عن قضاء النبي (صلى الله عليه وآله) ولا تتحدّث عن قضاء الحاكم غير المعصوم فلا يمكن أن يكون الحصر فيها حقيقياً بل هو بالنسبة إلى العلوم الغيبية الإلهية فكأنه (صلى الله عليه وآله) يريد أن يقول إني لا أقضي بينكم بالعلم الغيبي الإلهي بل أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ولا بد من حمله على الحصر الإضافي لأن الحمل على الحصر الحقيقي ينافي الاتفاق بينهم على أن النبي (صلى الله عليه وآله) يجوز له أن يقضي بعلمه العادي وإنما الخلاف كما ذكرنا - وقع في غير المعصوم من القضاة والحكّام .
 فهذا يؤيد كون الرواية في مقام نفي القضاء بالنسبة إلى العلوم الغيبية وليست هي في مقام حصر قضائه (صلى الله عليه وآله) بخصوص البيّنات والأيمان .
 الثاني :

معتبرة سليمان بن خالد المتقدّمة الدالّة على أن الإمام المعصوم الذي هو القدر المتيقَّن من المراد بلفظ الإمام - وإن حملناه على المعنى الأعمّ - يجوز له أن يقضي بعلمه في بعض الموارد وهذا يمثّل قرينة على أن الحصر في قوله (صلى الله عليه وآله) : (إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان) هو حصر إضافي بالنسبة إلى العلوم الغيبية .
 نعم .. لو كانت الرواية تدلّ على الحصر حقيقي بمعنى أن النبي لا يقضي بغير الأيمان والبيّنات لدلّت على عدم جواز القضاء بغيرهما لغيره من باب أولى فالاستدلال بها على عدم نفوذ قضاء المعصوم المستند إلى العلم العادي يستلزم كما هو واضح عدم نفوذ قضاء غيره المستند إلى هذا العلم ولكن قد عرفت عدم دلالتها على ذلك وأن المراد بها نفي قضائه بالنسبة إلى العلم الغيبي فلا دلالة لها على نفي قضائه بالنسبة إلى غيره من العلوم ومنه العلم العادي الذي ثبت بالاتفاق أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يجوز له أن يقضي استناداً إليه .
 الثالث :

عدم الإشكال في أنه يجوز القضاء اعتماداً على الإقرار مع أن الإقرار ليس بيّنة ولا يميناً فهذا يؤيد في الجملة [7] - كون الحصر إضافياً لا حقيقياً .
 الرابع :

أن الذي يُفهم من التعبير الوارد في هذه الصحيحة : (إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان) وما ورد في ذيلها من قوله (صلى الله عليه وآله) : (فأيُّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً [8] فإنما قطعت له به قطعة من النار) أن المقصود هو تأتّي احتمال عدم مطابقة القضاء للواقع بمعنى أنه ليس ثمّة ضرورة في كون القضاء الذي يقضي به (صلى الله عليه وآله) بين الناس مطابقاً للواقع دائماً بل قد يكون مطابقاً وقد لا يكون وذلك لأن قضاءه إنما هو بالبيّنات والأيمان ومن الواضح أن شيئاً منهما ليس مأخوذاً في حدّه المطابقة للواقع فهو إذاً ليس في مقام بيان حصر القضاء بالبيّنات والأيمان ، ومن الواضح أيضاً أن العلم العادي يشترك مع البيّنات والأيمان في كونه قد يطابق الواقع وقد لا يطابقه ، نعم .. علمه الغيبي الإلهي يكون دائماً مطابقاً للواقع ولكنه (صلى الله عليه وآله) لا يريد أن يقول إنه يستند في قضائه إلى ذلك ، وهذا المعنى لا ينافي أنه (صلى الله عليه وآله) يجوز أن يقضي استناداً إلى العلم العادي الذي يشترك مع البيّنات والأيمان في كونه تجوز فيه المطابقة للواقع وعدمها ولا مانع من الالتزام بذلك في حقّ النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) فإنه قد يحصل لهم علم عادي نتيجة أمر حسي ويتّفق أن لا يكون مطابقاً الواقع وليس في هذا مثلبة في أشخاصهم المقدّسة أو في عصمتهم حاشا لله .
 والحاصل أن الرواية ليس فيها دلالة على عدم جواز قضائه بالعلم العادي حتى يُستدلّ بها على عدم جواز قضاء غيره بالعلم العادي لتكون من أدلة عدم نفوذ القضاء استناداً إلى العلم العادي الذي هو محلّ الكلام .
 هذا .. مع أنه لو سُلّمت دلالة الرواية على الحصر الحقيقي إلا أنها ليست واضحة في كونه حصراً بالنسبة إلى الجواز بمعنى أنها لا تدلّ على حصر جواز قضائه (صلى الله عليه وآله) بالبيّنات والأيمان ليُفهم منها عدم جواز القضاء بغيرهما وإنما هو حصر في مقام العمل أي أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يصدر منه خارجاً قضاءٌ إلا بالبيّنات والأيمان وهذا لا يعني عدم جواز أن يقضي بغيرهما وهو العلم العادي في محلّ الكلام فالرواية ليس فيها ظهور واضح في عدم جواز أن يستند في قضائه إلى هذا العلم حتى يقال إن عدم الجواز في حقّه يستلزم عدم الجواز في حقّ غيره فيثبت المطلوب .
 قد يقال : إن الرواية على تقدير أن تدلّ على عدم نفوذ علم القاضي [كما هي مسوقة لهذا الغرض] فهي إنما تدلّ على عدم نفوذ علمه الحدسي وليس فيها دلالة على عدم نفوذ علمه الحسّي بتقريب أن استناد الحاكم إلى البيّنة واليمين إنما يكون مع علمه بهما عن حسّ بمعنى أنه يرى البيّنة ويسمع إفادتها ويرى الحالف ويسمع قسمه وحينئذ يقال بأن احتمال أن يكون العلم الحسّي بالبيّنة واليمين نافذاً مع عدم نفوذ العلم الحسّي بالواقع الذي هو محلّ الكلام هو احتمال بعيد جداً بل هو خلاف الظاهر لأن العلم الحسّي بالواقع هو أقرب إلى الواقع من العلم الحسّي بالبيّنة أو اليمين الكاشفين عن الواقع .
 وعلى ذلك فالرواية على تقدير أن تدلّ على عدم نفوذ علم القاضي فهي إنما تدلّ على عدم نفوذ علمه الحدسي لا علمه الحسّي لأن عدم نفوذ العلم الحسّي بالواقع مع نفوذ العلم الحسّي بالبيّنة احتمال بعيد جداً كما ذكرنا - فإذا دلّت الرواية على نفوذ العلم الحسّي الكاشف عن الواقع بواسطة البيّنة أو اليمين فهي تدلّ بالأولوية على نفوذ العلم الحسّي بالواقع الكاشف عنه مباشرة .. وعلى ذلك فلو سُلمّت دلالة الرواية على عدم نفوذ علم القاضي فلا بد من حملها على إرادة عدم نفوذ علمه الحدسي لا الحسّي .
 وحينئذ يقال إن الرواية لا تعارض ما انتهينا إليه من نتيجة في روايات النفوذ لأن المحصّلة النهائية من تلك الروايات هي نفوذ علم القاضي المستند إلى الحسّ وفي حقوق الله وما يقال هنا هو عدم نفوذ العلم الحدسي للقاضي وعدم جواز الاستناد إليه في جميع الموارد وهذا لا ينافي جواز الاستناد إلى العلم المستند إلى الحسّ في موارد معيّنة .
 هذا .. وللكلام بقية ستأتي إن شاء الله تعالى .


[1] أي هذا الغير وهو ما عدا البيّنات والأيمان - .
[2] أي ظاهر الحصر .
[3] الذي ورد في الروايات أنه يختصّ بالإمام الحجة (عجّل الله فرجه الشريف) فبعد ظهوره الشريف هو يقضي بالواقع المستند إلى علمه الإلهي به . (منه دامت بركاته)
[4] أي البيّنات والأيمان .
[5] سيأتي منه (دامت بركاته) - في ضمن البحث - التسليم بكونه حصراً إضافياً ولكن وفق الاحتمال الثاني أي من أنه بالإضافة إلى العلم الغيبي الإلهي وهو لا ينافي استناد القضاء إلى العلم العادي الذي يحصل من الأسباب الطبيعية كالرؤية والمشاهدة وسيقيم مؤيّدات على إنكار كون الحصر حقيقياً فيتبيّن أنه جوابه على الاحتمال الأول من أن مقتضى إطلاق الحصر كونه حصراً حقيقياً إنما كان في مقام تفنيد هذا الاحتمال لا القبول بكونه كذلك - أي حصراً حقيقياً - .
[6] أي من إنكار كون الحصر حقيقياً .
[7] وإنما قلنا في الجملة - لأنه قد يقال بأن الحصر حقيقي ولكن نرفع اليد عنه بمقدار ما يدلّ عليه الدليل فإذا دلّ الدليل على أن الإقرار أحد الأمور التي يمكن أن يستند إليها القاضي في قضائه فحينئذ نرفع اليد عن هذا الحصر الحقيقي بالإضافة إلى الإقرار كما قيل بمثل ذلك في باب الصوم عندما ورد في الدليل : (لا يضرّ الصائم إذا امتنع عن ثلاثة) مع أنه قد دلّت الأدلة على أنه لا يضرّه الامتناع عن أمور أخرى أيضاً فيبقى الحصر حقيقياً بالإضافة إلى غير ما دلّ عليه الدليل .. قد يقال هذا ولكن لا إشكال أنه لا يخلو من تأييد على عدم كون الحصر حقيقياً بل هو إضافي كما ذكرنا . (منه دامت بركاته)
[8] يعني استناداً إلى البيّنات والأيمان .