33/03/13


تحمیل
 (بحث يوم الاثنين 13 ربيع الأول 1433 ه 69)
 كان الكلام في القول الثالث وهو التفصيل بين صورتي التهمة وعدمها وتقدّم ذكر الدليل الثالث مما يمكن أن يُستدلّ به على هذا القول وهو الروايات .. وقد ذكرنا منها روايات ثلاثاً لم يمكن اعتماد أيّ منها دليلاً في المقام لأنها تشير إلى باب آخر [1] وهو باب الضمان حيث إنها بعد جمع دلالاتها تتحدّث عن تضمين الطرف الآخر إذا كان متهماً إلا إذا أقام بيّنة على صحة ما يدّعيه من تلف ما في يده من دون تعدٍّ أو تفريط أو حَلَف على ذلك كما سيأتي في رواية أخرى [2] تجعل الحلف في طول عدم وجود البيّنة ، ولا أقلّ من احتمال أن يكون هذا حكماً شرعياً لا ربط له بباب الدعوى فيُثبِت متعلّقه [3] من دون حاجة إلى إعمال قواعد باب القضاء [4] ، ومجرّد ورود الاحتمال مانع بطبيعة الحال من الاستدلال .
 ويُضاف إلى الروايات الثلاث المتقدّمة التي ذكرها السيد الخوئي (قده) روايات أربع قد يُدّعى دلالتها على المطلوب ، وهي :
 الأولى :

رواية بكر بن حبيب :
 " قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : أعطيتُ جبّة إلى القصّار فذهبتْ بزعمه ، قال : إن اتهمته فاستحلفه ، وإن لم تتهمه فليس عليه شيء " [5] .
 وهذه الرواية غير معتبرة سنداً من جهة راويها المباشر وهو بكر بن حبيب ، والظاهر أنها أجنبية عن محلّ الكلام حيث لم يُفرض فيها دعوى ومقاضاة [6] .
 الثانية :

رواية أخرى لبكر بن حبيب عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :
 " قال : لا يضمن القصّار إلا ما جنت يده وإن اتهمته أحلفته " [7] .
 والكلام في سند هذه الرواية ودلالتها كالكلام في سابقتها .
 الثالثة :

معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :
 " قال : لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلا أن يكونوا متّهمين فيُخوّف بالبيّنة ويُستحلف لعله يستخرج منه شيئاً ، وفي رجل استأجر جمّالاً فيكسِر الذي يحمل أو يُهريقه ، فقال : على نحوٍ من العامل [8] إن كان مأموناً فليس عليه شيء وإن كان غير مأمون فهو ضامن " [9] .
 الرابعة :

معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :
 " في حمّال يحمل معه الزيت ، فيقول : قد ذهب أو أُهرق أو قُطع عليه الطريق فإن جاء ببيّنة عادلة أنه قُطع عليه أو ذهب فليس عليه شيء وإلا ضمن " [10] .
 وهاتان الروايتان وإن كانتا معتبرتين سنداً إلا أنه يرد على دلالتهما ما ورد على الروايات المتقدّمة من عدم التعلّق بمحلّ الكلام حيث لم يُفرَض فيهما إقامة دعوى ومرافعة وإنما هما يتعلّقان بباب الضمان الذي لا يحتاج في إجرائه إلى إعمال قواعد باب القضاء فإنه وإن ذُكر فيهما البيّنة والحلف إلا أن الظاهر أن المراد هو تعليق الضمان على عدمهما [11] ، ولو كان من باب القضاء لزم ردّ اليمين على المدّعي مع أنه لم يُفرض في هذه الروايات ذلك فيكون هذا مؤشّراً على أن موردها لا يتعلّق بهذا الباب [12] .
 مضافاً إلى أن هذه الروايات لم تُذكر في باب القضاء في كتب الأحاديث كالكتب الأربعة [13] والمجاميع الحديثية كالوسائل وإنما ذُكرت في باب الإجارة كما هو ظاهر بالاستقصاء وهذا يدلّ على أن بعض فقهائنا لم يفهموا منها تعلّقها بمحلّ الكلام .
 نعم .. في مقابل ذلك ما يظهر من عدد غير قليل من فقهائنا (قدهم) فهم تعلّقها بباب القضاء ولذا استدلّوا بها على التفصيل المتقدّم من أنه في موارد التهمة يُسمع قول المدّعي ولو لم يكن جازماً .
 ولكن يظهر من صاحب الجواهر [14] الاعتراف بعدم تعلّقها بمحلّ الكلام إلا أنه يستفيد منها كبرى كلية وهي أن التهمة تقتضي الاستحلاف فتُطبّق في باب القضاء كغيره من الأبواب بمعنى أن المُدّعى عليه عندما يكون متهماً والدعوى تكون غير جزمية ولم تكن لديه بيّنة يُستحلف ولا يُضمّن حينئذ .
 هذا .. ولو تنزّلنا عمّا ذُكر وقلنا بأن لها نحو تعلّق بالمقام إلا أنها مع ذلك تكون أخصّ من المدّعى إذ لا يمكن التعدّي عن موردها وهو صورة تحقّق اليد المقتضية للضمان في حدّ نفسها إلى ما لا يكون كذلك فلو سلّمنا بأن هذه الروايات تدلّ على استحلاف المُدّعى عليه إذا كان متّهماً وسماع دعوى المدّعي في حقّه وإن لم تكن دعواه جزمية إلا أن موردها خصوص ما لو كان مال المدّعي تحت يد المُدّعى عليه مع اعتراف هذا الأخير بذلك والتعدّي عن هذا المورد إلى مطلق الموارد كما في حالات الاتهام بالقتل أو الاعتداء أو التزوير - حيث لا معنى لوجود يد فيها - يحتاج إلى القطع بعدم الخصوصية وهو ممّا لا مجال له إذ أن احتمالها [15] قائم لا دافع له .
 نعم .. ربما يقال إنه يمكن إلغاؤها بالنظر إلى ما ورد في معتبرة أبي بصير المتقدّمة من قوله (عليه السلام) : (لعله يستخرج منه شيئاً) الذي هو بمثابة جواب لسؤال مقدّر عن سبب مطالبة صاحب المال للمدّعى عليه بالبيّنة والحلف فيقال لعله يستخرج منه شيئاً من حقّه فيُدّعى أن هذا التعليل بمثابة كبرى كلية مضمونها أن كل مورد يُحتمل أن يترتب على الدعوى فيه استخراجُ شيء من الحقّ تكون [16] الدعوى فيه مسموعة ولو لم يُفترض وجود يد في موردها حيث فرضنا - تنزّلاً - تعلّق الرواية بمحلّ الكلام - ولكن مع خصوصية اليد التي يراد رفع اليد عنها بمقتضى هذه الكبرى المستفادة من التعليل المذكور - ولمّا كانت كل دعوى تقام عند القاضي تحتمل في حدّ نفسها استخراج شيء من الحقّ فيها فيثبت المطلوب حينئذ وهو أن كل دعوى غير جزمية ولو لم تشتمل على يد مقتضية بذاتها للضمان تكون مسموعة لأنها بطبيعة الحال لا تخلو من ذلك الاحتمال .
 ولكن هذا الاستدلال غير تام إذ لا يمكن معه التعدّي إلى غير مورد تلك الروايات وهو صورة كون مال المدّعي تحت يد المُدّعى عليه وذلك لعدم إمكان شمول التعبير بالاستخراج لغير هذا المورد لأن معنى الاستخراج هو خروج ما هو ثابت فلا يجري إلا في موارد اليد حيث يكون المال ثابتاً في يد المُدّعى عليه ليقال بعد ذلك : (لعل المدّعي يستخرج منه بسبب الدعوى شيئاً) فالكبرى المستفادة من التعليل المذكور مختصّة بصورة اليد وليست عامة لجميع الصور .
 وبعبارة أخرى : إنه يُفهم من التعبير بالاستخراج المفروغية عن ثبوت الحقّ في رتبة سابقة وهذا لا يتحقق إلا بعد افتراض وجود يد مقتضية في حدّ نفسها للضمان ، وأما الموارد التي لا يُفترض فيها ذلك مثل دعاوى القتل أو الاعتداء أو التزوير فلا يناسبها مثل هذا التعبير فالتعدّي عن مورد الرواية إلى مثل هذه الموارد مشكل .
 والحاصل أن الروايات المذكورة لا تدل على ما هو المطلوب من سماع الدعوى غير الجزمية مطلقاً ، ولو تنزّلنا وسلّمنا دلالتها على ذلك فلا يمكن التعدّي عن موردها من وجود يد مقتضية للضمان إلى مطلق الموارد لعدم مناسبتها مع التعبير بالاستخراج الوارد فيها .
 هذا .. ولكن يمكن إثبات المطلوب بطريق آخر انطلاقاً ممّا أشار إليه المحقق العراقي (قده) في قضائه من دعوى استقرار سيرة العقلاء على عدم عدّ الدعوى مع اليد المقتضية للضمان في صورة التهمة [17] سفهيةً بل يرون أنه ينبغي سماع هذه الدعوى وترتيب الأثر عليها فيقال بالتعدّي إلى غير موارد وجود اليد المقتضية للضمان بادّعاء قيام السيرة على أن الدعوى في مثل ذلك ليست سفهية أيضاً كما هو المشاهد خارجاً في دعاوى القتل في حال وجود ما يشير إلى اتّهام شخص معيّن فإنه لا ريب في كون هذه الدعاوى مسموعة حتى مع الغضّ عن وجود روايات بهذا الخصوص بل يمكن أن يقال إن عدم سماع الدعوى في موارد الاتهام لمجرد أنها غير جزمية يؤدّي إلى ضياع كثير من الحقوق لعدم كون هذا الفرض من الحالات النادرة التي قد لا تكون مورد اهتمام الشارع المقدّس في سنّ الأحكام الكلية بشأنها .


[1] غير ما نحن فيه من باب القضاء .
[2] وهي معتبرة أبي بصير الآتية .
[3] أي الضمان .
[4] بغضّ النظر عن كون هذا هو الموقف الشرعي النهائي الذي يُتمسّك به فإن هذا فرع أمور أخرى دخيلة كمسألة عدم وجود المعارض له مع أنه توجد في المورد روايات معارضة مفادها عدم تضمين الأمين ، وتمام الكلام في محلّه من باب الضمان . (منه دامت بركاته)
[5] التهذيب مج7 ص221 ، الوسائل الباب التاسع والعشرون من أبواب أحكام التجارة الحديث السادس عشر مج19 ص146 .
[6] أقول : مما يشير إلى عدم تعلّق الرواية بمحلّ الكلام أن الإمام (عليه السلام) يذكر فيها للسائل أنه يجوز له استحلاف الطرف الآخر إن كان يتّهمه مع أن الاستحلاف في باب القضاء وظيفة القاضي لا المدّعي فهذه قرينة على أن موردها ليس باب القضاء .
[7] المصدر السابق الحديث السابع عشر .
[8] يعني حاله حال القصّار والصائغ .
[9] التهذيب مج7 ص218 ، الوسائل الباب التاسع والعشرون من أبواب أحكام التجارة الحديث الحادي عشر مج19 ص144 ، قال (دامت بركاته) : قوله : (فيخوّف بالبيّنة) هو الموجود في التهذيب وغيره لكن الموجود في الفقيه (حيث إن له طريقاً آخر الى هذه الرواية) قوله : (فيجيئون) بدل (فيخوّف) .
[10] الفقيه مج3 ص254 ، الوسائل الباب الثلاثون من أبواب أحكام التجارة الحديث السادس عشر مج19 ص153.
[11] ومن ذلك يُعلم أن المطالبة بالبيّنة واليمين كما يجري في باب القضاء يجري في باب الضمان لكن الفرق أن المطالِب - بالكسر - بهما في الأول هو صاحب المال وفي الثاني هو القاضي .
[12] الذي هو محلّ الكلام .
[13] أي الكافي والفقيه والتهذيب والاستبصار .
[14] جواهر الكلام مج40 ص155 .
[15] أي تلك الخصوصية وهي اليد .
[16] جملة (تكون) خبر (أن) .
[17] الذي تقدّم أنه مورد الروايات المذكورة ، قال (دامت بركاته) : (لا بد أن تكون التهمة مبنية على أساسٍ كشهادة شاهد - مثلاً - وليست تهمة جزافية أو مبتنية على غرض لا يمتّ إلى الدعوى بصلة كالتسبّب بها إلى إيقاع الضرر بالمدّعى عليه بلا وجه حقّ) .