33/03/15


تحمیل
  (بحث يوم الأربعاء 15 ربيع الأول 1433 ه 71)
 كان الكلام في بيان تكليف المدّعي من حيث جواز إقامته للدعوى وعدمه حيث ذكرنا أنه بالإضافة إلى ثبوت ما يدّعيه لا يخلو من إحدى حالات ثلاث فإما أن يكون جازماً به أو جازماً بعدمه أو متردّداً ، وقلنا إنه لا إشكال في جواز إقامته للدعوى في الحالة الأولى وعدم جوازها في الثانية ولكن وقع الكلام في الثالثة فهل يجوز له إقامتها بصورة الجزم أم لا ؟
 وذكرنا أنه لا يجوز أن يُبرز دعواه بصورة جازمة لاستلزامه الكذب ، وأما إبرازها بصورة غير جازمة فقلنا إنه إن كان معتمداً على إمارة معيّنة فيجوز وإلا فيشكل .
 ولا يخفى أن هذا بناءً على اشتراط الجزم في الدعوى - مطلقاً أو على التفصيل بين مورد التهمة وعدمها - بمعنى أن الدعوى لا تُسمع إلا إذا كان المدّعي جازماً .
 ويقع الكلام هاهنا في ما هو المقصود بالجزم ؟ فهل المقصود به الجزم الواقعي بمعنى أن يكون جازماً في نفسه وعقيدته أم المقصود به الجزم الظاهري وهو ما عبّرنا عنه سابقاً بالجزم الصياغي أي الجزم في مقام اللفظ والتعبير ؟
 المعتبر في الحقيقة هو الأول ولو كان مستكشفاً من الثاني بمعنى أن الذي يدور حوله سماع الدعوى وجوداً وعدماً هو كون المدّعي جازماً ولا عبرة بالجزم في صورة الدعوى وصياغتها إلا من حيث كونه كاشفاً عن كون المدّعي جازماً فاعتبار الأول من حيث الموضوعية واعتبار الثاني من حيث الطريقية وحينئذ فإن علم القاضي بكون المدّعي جازماً في دعواه فلا إشكال في جواز سماعه لها ، وإن علم بكونه غير جازم فيها فلا تكون دعواه مسموعة وإن صيغت بصورة جزمية ، وأما إذا لم يعلم [1] حال المدّعي فيجوز له أن يستند إلى جزمه الظاهري [2] في إحراز كونه جازماً في الواقع [3] وذلك من باب مطابقة الظاهر للواقع وكونه طريقاً لإثباته إذ الجزم الظاهري بمثابة الإمارة الكاشفة التي يجوز الاستناد إليها في حالات الشكّ والتردّد .
 وقد ذكرنا في مبحث سابق أن بعض ما استُدلّ به لاعتبار الجزم كان يشير إلى أن المعتبر هو الجزم الواقعي وهو مسألة عدم إمكان ردّ اليمين على المدّعي في ما إذ اكانت الدعوى غير جزمية فإن هذا يناسب أن يكون هناك جزم واقعي فإن المتردد واقعاً هو الذي لا يمكنه أن يحلف وأما المتردد ظاهراً [4] مع كونه جازماً في الواقع فلا مانع من ردّ اليمين عليه ويصحّ منه فإن اليمين وإن كان يعتبر في جوازه الجزم ولكن لا يضرّه عدم الجزم في الصيغة ما دام الشخص جازماً واقعاً ، ولو كان المراد هو الجزم الظاهري لم يصحّ حكمهم بعدم جواز ردّ اليمين على المدّعي بهذا الإطلاق بل كان يلزم تقييده بغير صورة إبراز الدعوى بصيغة جزمية فإنه لا مانع في ما لو كان مرادهم الجزم الظاهري من ردّ اليمين على من أبرز دعواه بصيغة جزمية ولو لم يكن في الواقع جازماً فيُستكشف من حكمهم بعدم إمكان ردّه عليه في الدعوى غير الجزمية أن المعتبر هو الجزم الواقعي ، نعم .. ذكر بعض الفقهاء [5] أنه : " يُعتبر الجزم في الصيغة لا في نفس الأمر والعقيدة " ولكن يمكن حمل هذا الكلام على ما ذكرناه من اشتراط الجزم الواقعي وذلك بأن يقال إن الجزم في الصيغة إنما يُعتبر من حيث كونه كاشفاً عادة عن الجزم في النفس والاعتقاد وطريقاً لإحراز ذلك لا من جهةٍ موضوعية .
 هذا كله في التفصيل الثالث - وهو التفصيل بين التهمة وعدمها ففي موارد التهمة تُسمع الدعوى وإن كانت غير جزمية وفي موارد عدم التهمة لا تُسمع الدعوى إلا إذا كانت جزمية - .
 التفصيل الرابع : وهو التفصيل بين ما يعسر الاطّلاع عليه [6] وما لا يعسر فيُلتزم بالسماع في الأول وإن لم تكن الدعوى جزمية وعدم السماع في الثاني إلا إذا كانت الدعوى جزمية .
 وذُكر أن أول من صرّح به هو المحقق الكركي (قده) وتبعه جماعة في ذلك ولكن يبدو من عبارة في الدروس طرح هذا الاحتمال من غير تبنٍّ حيث يقول : " وأما الجزم فالإطلاق محمول عليه ولو صرّح بالظن أو الوهم فثالث الأوجه السماع في ما يعسر الاطّلاع عليه " [7] .
 استُدلّ على الشقّ الثاني من هذا التفصيل الذي يشترط الجزم في ما لا يعسر الاطّلاع عليه بما استُدلّ به على القول الأول من اشتراط الجزم مطلقاً ، وأما الشق الأول منه وهو سماع الدعوى مطلقاً في ما يعسر الاطلاع عليه [8] فلا بد في الاستدلال عليه من الجواب على دعوى مشمولية هذا المورد لما دلّ على اشتراط الجزم مطلقاً [9] فأجيب بأنه لما كان يلزم من عدم سماع الدعوى غير الجزمية في هذا المورد [10] ضياع كثير من الحقوق والتسبّب في إبطالها [11] من جهة أنه لا يمكن حصول الجزم في كثير من الموارد كالقتل والسرقة لتعسّر الاطّلاع على الحدث فيها وفي هذا خطر كبير ومحذور عظيم لا يمكن دفعه وتلافيه إلا بأن نلتزم بسماع أمثال هذه الدعاوى [12] غير الجزمية فيكون هذا استثناءً من القول باشتراط الجزم مطلقاً فينتج محلّ الكلام من القول بالتفصيل بين ما يعسر الاطّلاع عليه فيكون مسموعاً وما لا يعسر الاطّلاع عليه فلا يكون مسموعاً إلا إذا كان جزمياً .
 ولكن نوقش هذا الدليل بأن المحذور المذكور - أعني دعوى لزوم تضييع الحقوق - ليس في الحقيقة علّة للزوم الحكم بالسماع يدور مداره وجوداً وعدماً ليقال إنه في كل مورد يلزم من عدم السماع تضييع للحقوق يُحكم فيه بالسماع وفي كل مورد لا يلزم من عدم السماع تضييعها يُحكم بعدم السماع بل الظاهر أن ما ذُكر هو بمنزلة الحكمة التي لا تستتبع الحكم في جميع موارد وجودها ولا تقتضي عدمه في موارد عدمها [13] من قبيل مسألة اختلاط المياه في باب العدة ، نعم .. في ما يعسر الاطّلاع عليه من هذه الدعاوى إذا اشتمل على تهمة [14] كما هو الغالب في حالات القتل والسرقة فيكون مسموعاً وإن لم يكن صاحب الدعوى جازماً وذلك بمقتضى ما دلّ من الأدلة على سماع الدعوى في حالات الاتهام وإن لم تكن جزمية فيتعلّق السماع بوجود التهمة وعدمها وهذا في الحقيقة رجوع إلى التفصيل السابق .
 هذا تمام الكلام في هذه المسألة .


[1] أي القاضي .
[2] أي إبرازه لدعواه بصيغة جزمية .
[3] أي في نفسه ومعتقده على حدّ تعبير صاحب الرياض (قده) وستأتي الإشارة إليه - .
[4] أي بحسب الصيغة .
[5] وهو صاحب الرياض (قده) .
[6] كالقتل والسرقة على ما مُثّل به فإن القاتل والسارق يُخفيان في العادة جرمهما بحيث يكون من الصعب جداً أن يطّلع عليه أحد .
[7] الدروس للشهيد الأول مج2 ص84 ، فالوجه الأول هو السماع مطلقاً والثاني هو عدم السماع مطلقاً والثالث هو التفصيل بين ما يعسر الاطّلاع عليه فيُسمع وإن لم تكن الدعوى جزمية وما لا يعسر الاطّلاع عليه فلا يُسمع إلا إذا كانت الدعوى جزمية .
[8] أي سواء كانت جزمية أو غير جزمية .
[9] فإنها كما تشمل بإطلاقها مورد عدم تعسّر الاطّلاع كذلك تشمل بإطلاقها مورد تعسّر الاطّلاع .
[10] أي ما يعسر الاطّلاع عليه .
[11] أي تعطيلها وعدم استيفائها لمستحقيها .
[12] أي التي يعسر الاطّلاع عليها .
[13] فقد يثبت الحكم مع عدمها وقد ينتفي الحكم مع وجودها .
[14] شريطة أن تكون مستندة إلى أمارة معينة وليست اعتباطية أو ناشئة من أغراض شخصية .