38/02/04


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/02/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة(26) الغش - المكاسب المحرمة.

ولقد أجاد السيد الماتن(قده) حيث لم يحدّد الغش وإنما ذكر مناشئ له ، وكما قلنا سابقاً أنه لابدّ وأن يكون مقصوده بيان المناشئ لا بنحو الحصر وإلا ربما تكون هناك مناشئ أخرى.

وما ذكره من المناشئ لا تخلو من إشكال:-

فهو مثلاً ذكر أنَّ من أحد مناشئ الغش أن المعدن يطلى بماء الذهب أو الفضّة فهذا يعدُّ من الغش ، والحال أنَّ هذا يحتاج إلى تقييد ، فلابدّ وأن يقول ( شريطة أن لا يكون ذلك هو الحالة المتعارفة ) ، أما إذا كان ذلك هو الحالة المتعارفة يبيعون الآن الأسورة للأطفال وهي مطلاة فمن يراها يتصوّر أنها ذهب حقيقي ولكنها مطلاة فمثل هذا لا يعدُّ غشّاً لأنَّ هذه حالة معروفة ، وهكذا ذكر وما كان من هذا القبيل.

وهكذا ذكر أنه من أحد مناشئ الغشّ ترك ذكر العيب مع اعتماد المشتري على البائع ، كما لو كانا صديقان وباع أحدهما داره للآخر فمقتضى الصداقة أن يعتمد المشتري على صديقه البائع ، فهو(قده) قال إنَّ ترك ذكر العيب يعدُّ غشاً لأنَّ المشتري اعتمد على البائع فإذا سكت البائع عُدَّ ذلك غشاً.

وهنا أيضاً نحتاج إلى تقييدٍ وذلك بأن يقال ( شريطة أن يتقبّل البائع هذا الاعتماد ) فربما المشتري قد اعتمد على البائع لكن البائع لا يقبل بهذا الاعتماد خصوصاً إذا صرّح البائع وقال أنا أبيع لك هذا البيت الموجود أمامك ، ففي مثل هذه الحالة يمكن أن يقال الغش لا يتحقّق.

إذن رغم المناشئ التي ذكرها ربما أحياناً تحتاج إلى تحديديات وتقييدات ، ولذلك الأجدر الاحالة إلى العرف فإنَّ الضبط شيءٌ مشكل.

هذا وقد حاول الميرزا علي الايرواني(قد)[1] أن يضبطه بشكلٍ آخر:- فقال إنَّ الغش يعتبر فيه أربعة قيود إذا تحقق صار الغش وهي:-

الأوّل:- أن يكون الرديء مستوراً أو قابلاً للستر ، فلو فرض أنَّ الرديء ليس قابلاً للستر كما لو فرض أنَّ الحنطة كانت ممزوجة بالشعير وكأن أحدهما رديئاً ، ففي مثل هذه الحالة مادام قد فرض أنهما مخلوطان فلا يمكن أن يتحقق الغش لأنه لا يمكن الستر بلحاظ الرديء ، فمثل هذا لا يتحقّق فيه الغش ، فإذن يلزم في المورد قابلية ستر الرديء وإلا فلا يتحقق الغش.

الثاني:- أن يكون الرديء مستوراً بالفعل - أي الستر الفعلي - ، فلو فرض أنَّ الرديء كان في الأعلى والجيّد كان في الأسفل فلا يتحقق الغشّ هنا ، أو يفترض أنه يجعلهما وأحداً إلى جنب الآخر بحيث أنَّ الرديء لا يوجد له ستر بالفعل.

الثالث:- أن تكون هناك معاملة ، فلو فرض أنه لا توجد معاملة فالغش لا يتحقّق ، كما لو قدّم للزوّار حليباً ممزوجاً بالماء ففي مثل هذه الحالة لا يتحقّق الغش ، نعم قد يتحقّق عنوان الكذب كما إذا فرض أنه أظهر أنه خالصاً ، فهذا إظهارٌ لكونه سليماً ولو على مستوى الفعل فيدخل في حرمة الكذب لا في حرمة الغش . فإذن المعاملة معتبرة لتحقّق عنوان الغش.

الرابع:- أن يكون طالباً للزيادة ، أما إذا فرض أنه جعل الرديء أسفل الجيّد ولكن لم يرفع الثمن وإنما جعله بالشكل المناسب يعني باعه بثمن الممزوج غير الخالص فهنا أيضاً لا يتحقّق الغش ، فشرط تحقّق الغش أن يكون الثمن الذي يأخذه هو ثمن الجيّد الخالص لا ثمن الممزوج.

هذه قيود أربعة ذكرها لتحق الغش.

وما ذكره قابل للتأمل إذ يرد عليه:-

أوّلاً:- إن هذا يتم في باب الرديء والجيّد كالحنطة الرديئة يضعها أسفل الجيّد ، ولكن أحياناً قد يفترض أنَّ المعاملة موجودة ولا توجد مسألة رديء وجيّد وإنما يتحقّق الغش بشيءٍ آخر ، كما لو فرض أني بعتك داراً وكان أساسها واهياًً ولكن بالظاهر قد أجريت عليها صيانةً وأنت لا تعلم أنَّ الدار سوف ينهدم بعد سنة مثلاً ، أو كانت القضايا الرسمية للدار ليست كاملة فإنها إذا لم تكن كاملة فسوف تنخفض قيمة البيت إلى النصف أو أكثر ، فهنا هل يوجد جيّد ورديء والرديء أسفل الجيّدة ؟! كلا ، فهذا الضابط الذي ذكره لا يوجد هنا ، وما ذكره هو ضابطٌ لمساحة محدودة للغش ولكن توجد مساحات أخرى يتحقّق فيها الغش من دون أن يوجد فيها رديء قد سُتِرَ بالجيّد ، وهكذا لو باع له داراً جيرانها مؤذون ولم يبلغه بذلك ، ومن هذا القبيل الكثير الكثير .

فأنت ذكرت لنا تحديد خاص في مسألة الغشّ الذي يتحقّق بالرديء والجيّد ولكن لم تحدّده كما يحصل في المساحة الأوسع كما مثّلنا بالأمثلة.

ثانياً:-كان من المناسب أن يذكر قيداً آخر ، وهو أن لا يقول البائع للمشتري أبيعك هذا الموجود؛ إذ لو قال له هذا المعنى فيمكن أن يقال إنَّ الغش لا يتحقّق لأنه قال للمشتري من البداية أنا أبيعك هذا الموجود ، فهذا قيدٌ لابدَّ من أخذه وما شاكل ذلك.

وقد يسأل سائل ويقول:- ما الفرق بين باب الغشّ وباب خيار العيب ؟ فالفقهاء يقولون في باب العيب إنّه يثبت الخيار ولا تثبت الحرمة بينما في باب الغشّ تثبت الحرمة ، أوليس المغشوش معيباً أيضاً ؟ نعم هو معيبٌ كما لو بعت لك داراً أسسها واهية أو بعت لك حنطة أسفلها رديء ... وهكذا ، أوليس هذا عيباً ؟!! ، وعليه وسوف يدخل باب الغشّ في مسألة العيب أو يدخل باب العيب في مسألة الغش ، فما هو ضابط التفرقة بينهما بعد الالتفات إلى أنَّ الفقهاء في باب العيب يثبتون الخيار من دون حرمة ، بينما في باب الغش تثبت الحرمة فقط ، فكيف نفرّق بين البابين ؟

وفي مقام الجواب نقول:- يمكن أن يقال إنه في مسالة الغش أُخِذَ عنصر الاخفاء والتدليس وما شاكل ذلك - يعني عنوان تلبيس الأمر على الطرف الآخر - ، فإذا كان البائع قاصداً تلبيس الأمر على المشتري أو على الأقل يعلم بالعيب ويدري أنَّ المشتري معتمد عليه ويعطيه له بعنوان أنه سليم فهنا يتحقّق عنوان الغشّ ، فكأنَّ عنوان الغشّ عنوان قصدي ومأخوذ به شيء أكثر فليس مأخوذاً فيه القصد فقط بل يقصد الاخفاء التلبيس ولذلك صار حراماً لأنه يوجد فيه قصد أو ما هو بمثابة قصد التلبيس والاخفاء وهو سكوت البائع عن العيوب مع علمه بها مع فرض اعتماد المشتري عليه أما في باب العيب لم يؤخذ القصد ، فإذا فرض أنه باع شيئاً وكان معيباً ولكنه لم يكن قاصداً غشّ المشتري أو غير ذلك فحينئذٍ يكون من مصداق خيار العيب ويثبت العيب.

هذا فارقٌ موجودٌ بينهما ، ولكن بناء على هذا لا نريد أن نقول أنه يتحقّق بينهما تباين كلّي ، بل ربما يجتمعان معاً - يعني هو غشٌّ وفي نفس الوقت من مصاديق العيب - ، كما في بيع اللبن الممزوج بالماء فهذا يصدق عليه أنه معيب أيضاً فيثبت خيار العيب رغم أنَّ الغشَّ موجودٌ ، فالغشُّ موجودٌ لأنَّ البائع قصد الاخفاء ولكنه من حيث الحكم يشمله حكم خيار العيب ويثبت خيار العيب.

فإذن ليس بينهما تباين ونما قد يجتمعان - كما مثّلنا - ، وقد يفترقان كما إذا فرضنا أنَّ الممزوج الاضافي لم يكن حنطة رديئة وإنما كان تراباً ، ففي مثل هذه الحالة لا يثبت خيار العيب لأنَّ هذا ليس مسألة عيب ، فالعيب لابدَّ أن يصدق عليه أنه كلّه حنطة لكنّه معيوب ، بل هذا حنطة وتراب ، فهو يصير من موارد تبعّض الصفقة ، فيثبت خيار تبعّض الصفقة دون خيار العيب ، لأنَّ شرط العيب أن يصدق عليه أنه حنطة معيبة وهذا لا يصدق عليه أنه حنطة معيبة وإنما يصدق عليه حنطة وغير الحنطة.

إذن الذي أريد أن أقوله:- هو أنهما ربما يجتمعان ، فإذا اجتمعا ثبتت الحرمة لأجل الاخفاء والتلبيس وثبت خيار العيب لأجل أنه يصدق عليه عنوان المعيب ، وربما يفترقان كما إذا لم يقصد التلبيس فسوف لا يصدق عنوان الغشّ وإنما يصدق عنوان العيب فقط ، وهذه قضية جانبية يجدر الالتفات إليها.

النقطة الثالثة:- هل حرمة الغش تعمّ غير باب المعاملات أو تختصّ بباب المعاملات ؟

وسؤالي ليس عن عنوان الغش وإنما عن الحرمة ، يعني يراد أن يقال إنَّ الغش قد يصدق في غير المعاملات ، كما لو خطب شخصٌ امرأةً وكان فيها عيب كأن كانت مريضة أو غير ذلك وأهلها يخفون ذلك عنه فهنا يصدق الغشّ ، فهل حرمة الغش تختصّ بباب المعاملات أو أنها تعمّ غير باب المعاملات أيضاً ؟

رب قائلٍ يقول:- إنَّ حرمة الغش ثابتة في موردين ، الأوّل باب المعاملان ، والثاني باب النكاح ، ففي هذين البابين الغش صادق والحرمة تكون ثابتة ، وأما في غير ذلك فالحرمة لا تكون ثابتة ، كما إذا فرض أنَّ امرأة ليست جميلة لكنّها تضع مواد كمالية خاصّة أو ترتدي ملابس خاصّة فتوحي للآخرين أنها جميلة ، فهي في المجلس يرونها جميلة بهذا الشكل ولكنها لا تريد أن يراها الخاطب وإنما هي أرادت أن تظهر نفسها جميلة في المجلس ولكنها إذا زالت هذه المواد فهي فسوف تبدو قبيحة ، أو أنَّ شخصاً يأتي إلى داره فيزيّنها ويرتّبها بحيث من يدخلها يرى أنها دار جميلة جداً ولكن في الواقع هي ليست كذلك ، فهنا قد يقال الغشُّ صادقٌ ، ولكن الحرمة ليست موجودة ، فالحرمة تختصّ بباب المعاملات وباب النكاح وأما ما سوى ذلك فلا موجب لحرمته لانعقاد السيرة من دون نكير ، ولعلَّ سيرة المتشرّعة أيضاً جارية على ذلك ، فعلى هذا الأساس الحرمة تختصّ بهذين البابين حتى ولو قلنا بأنَّ الغشَّ شاملٌ وصادقٌ ولكن نحصّص دليل الغشّ بهذين الموردين.

ولكن المناسب أن يقال:- إنَّ بعض الأمور خرجت بالسيرة المتشرعيّة كما في هذين المثالين وما شاكلهما ، ولكن بعض الموارد يمكن أن يقال بثبوت الحرمة فيها رغم أنها ليست من المعاملات ولا من باب النكاح ، كما لو فرض أنَّ شخصاً قدّم لنا طعاماً ولكن هذا الطعام قد صنعه قبل يوم أو يومين أو أكثر وقدمه لنا ولم يقل لنا بأنه مطبوخ منذ يوم أو يومين أكثر ، أو أنه يضع الزيت المستعمل[2] أكثر من مرّة ويطبخ به طعاماً ويقدّمه لنا ولم يخبرنا بهذا ، ففي مثل هذه الحالة نتمكّن أن نقول الغش صادق عرفاً ودليل الغش لا يحل الوارد في صحيحة هشام بن الحكم شامل له أيضاً ولا توجد سيرة متشرعية حتى تكون مقيّداً ومخرجاً للمورد من الاطلاق ، ففي مثل هذه الحالة يتمسّك آنذاك بإطلاق دليل الحرمة؛ إذ من المناسب أن يقال هكذا.

إذن الحرمة لا يمكن أن نقول هي خاصّة بباب المعاملات وبباب النكاح ، بل ربما تكون أوسع من ذلك كما ذكرنا في هذه الأمثلة ، وربما بالتأمل تجد أمثلة وموارد أخرى من هذا القبيل.


[1] الحاشية على المكاسب، الميرزا علي الايرواني، ج1، ص174.
[2] كما ينصع ذلك أصحاب محلات الأكلات السريعة كالشطائر.