38/03/14
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/03/14
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة ( 28 ) الاجارة على الواجبات - المكاسب المحرمة.
الوجه الرابع:- أن يقال:- إنه يشترط في صحة الاجارة قدرة الأجير على تسليم متعلّقها ، فحينما نؤجره على أن يبني هذا البيت فلابدّ وأن يكون قادراً على البناء وإلا تكون الاجارة باطلة ، وحينئذٍ نقول:- إذا كانت الاجارة على الواجب فلا قدرة للأجير على التسليم لأنه ملزمٌ بأن يفعل ، فلا توجد عنده قدرة ، إنما تصدق القدرة إذا كان يمكن أن يفعل ويمكن أن لا يفعل ، فإذا افترضنا أنَّ المتعلّق واجب فلا توجد قدرة للأجير على التسليم لأنه واجبٌ ملزمٌ بفعله فتكون الاجارة باطلة لفقدان شرط صحتها وهي القدرة على التسليم ، ونصّ عبارته:- ( ولأنَّ الاجارة لو تعلّقت به ...... كان للأجير قدرة على التسليم وفي الواجب يمتنع ذلك )[1] ، والمقصود من العبارة واضح ، وكان من المناسب أن يقول ( ولأنَّ الاجارة لو تعلّقت به لم يكن للأجير قدرة .... ).
وفيه:-
أوّلاً:- إنَّ القدرة هنا ليس المقصود منها القدرة بالمعنى الكلامي أو الفلسفي ، بل القدرة التي يعتبرها الفقهاء على التسليم يعني لا تساوي الطرفين الفعل والترك وإنما القدرة بمعنى أنه عدم المانع من التسليم ، ومن المعلوم أن هذا لا مانع من ناحيته على التسليم فيتمكن أن يسلّم حينئذٍ ، نعم ليس له قدرة على العدم لأنه مجبرٌ شرعاً على فعل الواجب لكن بالتالي سلّم متعلّق الاجارة والشرط ليس القدرة بمعنى تساوي الطرفين بل بمعنى عدم الامتناع من التسليم وعدم وجود مانعٍ من التسليم وهذا متحقّقٌ ، فلا يوجد مانع من التسليم ، بل إذا أتى بالواجب وسلّمه فسوف يُشكر على هذا ، فإذن القدرة بهذا المعنى موجودة ، نعم القدرة بالمعنى الكلامي أو الفلسفي ليت موجودة.
ثانياً:- إنَّ القدرة المعتبرة في صحّة الاجارة حتى لو سلّمنا أنها معتبرة بمعنى تساوي الطرفين فهي ثابتة إذ المقصود القدرة التكوينية وتكويناً هذا الأجير يتمكن أن يفعل الواجب ويتمكن أن يترك فالاثنين الوجود والعدم كلاهما سيّان من ناحيته ، فإذن القدرة التكوينية على الفعل والترك موجودة ثابتة لا كلام فيها ، نعم القدرة الشرعية بمعنى تساوي الفعل والترك ليست وجودة لأنه ملزمٌ بالفعل ، ولكن المعتبر في صحّة الاجارة ليس هو القدرة الشرعية ، بل القدرة لو اعتبرناها فهي بالمعنى الفلسفي وهي القدرة التكوينية وهي متحقّقة.
ونكتفي بهذا المقدار بالنسبة إلى الوجوه التي ذكرها كاشف الغطاء.
الوجه الخامس:- وهو للشيخ الأعظم(قده) وحاصله:- إنَّ الواجب إذا كان عينياً تعييّنياً فعمل هذا الواجب وفعله لا يكون له احترام؛ إذ هو مقهورٌ وملزمٌ بالفعل ، ومع كونه مقهوراً وملزماً أيُّ احترامٍ لفعله ؟! ومعه يكون أكل الثمن في مقابل هذا العمل الذي لا احترام له يكون أكلاً للمال بالباطل ، فعلى هذا الأساس تجهيز الميت لو فرض أنه صار واجباً على شخصٍ بنحو التعيين بحيث أنه لا يوجد غيره فحينئذٍ سوف يصير واجباً عينياً عليه لأنه لا يوجد شخصٌ آخر حتى يكون كفائياً ، وتعييني لأنّ هذا العمل ليس مخيّراً بينه وبين صلاة ليلة الدفن مثلاً ، فهو واجب تعييني ، وعيني لأنه لا يوجد غيره يعرف دفن الميت أو الصلاة عليه ، فإذا صار ملزماً به بهذا النحو فلا احترام لعمله هذا؛ إذ هو مقهورٌ وملزمٌ بأنَّ يفعل ذلك ، وحينئذٍ يكون الأكل أكلاً بالباطل، ونصُّ عبارته:- ( فإن كان العمل واجباً عينياً تعيينياً لم يجز أخذ الأجرة لأنَّ أخذ الأجرة عليه مع كونه واجباً مقهوراً من قبل الشارع على فعله أكل للمال بالباطل لأن عمله هذا لا يكون محترماً )[2] ، وعبارته واضحة فيما ذكرناه.
وربما يدعم ما أفاده بأنَّ المرتكز في الأذهان العقلاء والمتشرعة استنكار أخذ الأجرة على ما يكون الانسان ملزماً به ، فذلك لو أردنا أن نعطي أجرةً لشخصٍ فهو يرفض ويقول كلا فإنَّ هذا واجبي ، فالمنافاة مرتكزة في ذهنه بين كونه واجباً وبين أخذ الأجرة ، فمادام الطرف يعتقد أن أوامري واجبٌ عليه امتثالها فالمرتكز في ذهنه استنكار أخذ الأجرة على هذا الفعل الذي يرى أنه ملزم بامتثاله لأنه يرى حجّية أوامري عليه.
وأيضاً إذا كانت الذمّة مشغولة لشخص بعينٍ من الأعيان أو بدينٍ من الديون وأردنا أن ندفع له أجرة مقابل تفريغ ذمته من هذا العين أو من هذا الدّين فإنه يرى المنافاة ويقول كلا فإنَّ ذمّتي هي مشغولة بهذا الدّين فما معنى أن تعطيني الأجرة ؟! فهو يستنكر وينكر هذا المعنى ويرى المنافاة.
فإنَّ هذا وإن كان الشيخ(قده) لم يذكره ولكن ربما يُدعَم ما أفاده بارتكاز المنافاة بين أخذ الأجرة وبين كون الشيء واجباً بالأمثلة التي ذكرناها أو غيرها التي هي منبهات على هذا الارتكاز.
وفيه:- أما بالنسبة إلى ما أفاده الشيخ - من أنه لا احترام للعمل مادام الشخص ملزماً بفعله - فنقول:- إنه ماذا يقصد من هذا الكلام ؟ هل يقصد أنه لا مالية ، أو يقصد أنه مال ولكن رغم كونه مال ألغى الشارع احترامه لا ماليته من قبيل أموال الحربي مثلاًً ولذلك لو أتلفها مسلم لا يحكم بالضمان لا لأنها ليست مالاً بل هي مال ولكنه ألغى احترامها ، فمقصود الشيخ ما هو ؟
فإن كان يقصد الأوّل فيردّه:-
أولاً:- إنَّ مجرّد الالزام بالدفع لا يخرج الشيء عن المالية فإنَّ مالية المال بتنافس العقلاء عليه وهذا العمل يتنافس عليه ، نعم لو كان مقهوراً على فعله تكويناً فيمكن أن يقال هو ليس بمال ، أما إذا لم يكن مقهوراً عليه تكويناً بل تكويناً يمكن أن يفعله ويمكن أن لا يفعله والعقلاء يتنافسون عليه فمجرّد إلزام الشارع به كيف يخرجه عن المالية ؟! إنَّ هذا بعيد جداً ومرفوض.
ثانياً:- أنه تقدّم منّا في أبحاث سابقة أنه يمكن أن يتأمّل في اشتراط المالية في البيع ، فلا يلزم أن يكون العوضان مالين ، كما مثلنا بأني رأيت ورقةً قديمة يريد شخص أن يرميها في النفايات ولكن كان فيها خطّ والدي فاشتريها منه ، وهذا لا مشكلة فيه رغم أنها لا يتنافس عليها العقلاء بل أنا فقط لي غرض شخصي بها ، فيمكن أن يقال إنَّ المالية ليست معتبرة في باب البيع.
ولكن المهم الذي نريد أن نناقش فيه هو الأوّل ، فإنه إذا كان مقصودة أنه يسقط عن المالية مادام ملزم به شرعاً فهذا شيء مرفوض فإنَّ الالزام هذا ليس إلزاماً تكوينياً وإنما هو إلزام شرعي ، فيبقى اختياره ليس مقهوراً ويتنافس عليه العقلاء ، فهو باقٍ على المالية.
وإن كان يقصد الثاني - يعني لا احترام له رغم أنه مال - فنقول:-
أوّلاً:- من أين لك أنه مادام ملزماً به فإذن هو لا احترام له ؟!! ففي المخمصة - المجاعة - إذا احتكر شخص الخبز وكان الناس بحاجة إليه فحينئذٍ يجبره الحاكم على اخراجه وبيعه للناس ولكن لا يقال له إنَّ احترام مالك يزول مادمت ملزماً بإخراجه ، كلا بل يبقى على ماليته وعلى احترامه ، ولذلك سوف ندفع له المال مقابله ونقول له بِع إزاء مبلغٍ من المال متعارف ، فمجرّد الإلزام حتى لو كان إلزاماً تعيينياً كما إذا كان الطعام منحصراً وموجوداً عند هذا الشخص فقط فحينئذٍ تعييناً عليه يكون الدفع والبيع ولكن مع ذلك لا يخرج عن الاحترام.
ثانياً:- من قال لك إنَّ الاحترام شرطٌ من شرائط صحة البيع ؟!
ثالثاً:- إنَّ الشيخ تمسّك بالآية الكريمة حيث قال:- يصير أكلاً للمال بالباطل ، وقال:- ذكرنا أكثر من مرّة أنَّ هذه الباء يحتمل أن تكون سببيّة لا باء المقابلة ، فإذا كانت باء المقابلة فيأتي حينئذٍ أنَّ هذا أكلٌ للمال مقابل الباطل ، أما الباء يحتمل أنها للسببيّة - ويكفينا الاحتمال - يعني لا تأكلوا أموالكم بالأسباب الباطلة يعني بالسرقة وبالغصب وغير ذلك من الأسباب الباطلة ، ومن المعلوم أنَّ السبب هنا سببٌ صحيح وهو البيع ، فحيث يحتمل أنَّ الباء سببيّة فلا يمكن التمسّك بالآية الكريمة.
هذا كلّه بالنسبة إلى ما يرجع إلى الشيخ الأعظم(قده).
وأما بالنسبة إلى المؤيّد والداعم الذي ذكرناه - وهو أنَّ المرتكز في الأذهان استنكار أخذ المال أو المنافاة بين كون الشيء واجباً وبين أخذ الأجرة عليه - فيمكن أن يقال:- إنَّ المرتكز في الأذهان هو استنكار طلب الأجرة بأن أقول لك اعطني أجرة على هذا العمل الواجب ، مثل كنس هذا المكان ، فهو يرى أنه حينما أمرته به فهو واجبٌ ، فإذا قال اعطني أجرةً على ذلك فهنا يُنكر عليه ويقال له أليس إنك تعتقد أنَّ هذا واجب عليك وملزمٌ به فكيف تطالب بالأجرة !!! ، فالإنكار والمنافاة بين المطالبة وبين اعتقاد أنه واجب ، أما إذا فرضنا أنه لا يطالب بالأجرة ولكني أريد أن أعقد بطيب نفسٍ مني من دون أن يجبرني هو فأقول له أكنس هذا المكان وأنا أعطيك أجرة وهو يقول إنَّ أوامرك مطاعة وأنا ملزم بها فأقول له إنه لا مشكلة آجرتك على أن تكنس المسجد بهذا المقدار من المال وهو قال لي قبلت ، فهنا هل يوجد إنكار ومنافاة في الأذهان ؟ إنَّ هذا أوّل الكلام ، فإنَّ هذا ليس واضحاً ويكفينا التردّد ، الذي يرى المنافاة يلزمني بالأجرة ، أما إذا لم يلزمني وأنا أريد أن أعقد معه عقد اجارة فليس المرتكز في الأذهان المنافاة.
وأما ما ذكر من مثال ما إذا إذا اشتغلت الذمّة بعينٍ من الأعيان أو بدينٍ من الديون فأخذ الأجرة على وفاء ما في الذمّة من عينٍ أو دينٍ مرتكز أنكاره في أذهان العقلاء وتحقّق المنافاة فيردّه:- إنَّ كلامنا هو في الواجبات التكليفية ، ففي الواجبات التكليفية هل يمكن أخذ الأجرة عليها أو لا دون ما يكون مستحقاً وضعاً ، يعني منشغلة به الذمّة وضعاً لا تكليفاً فهناك ربما تكون المنافاة موجودة ، ولكن هذا لا يضرّنا لأنَّ كلامنا فيما يكون ملزِماً على مستوى التكليف لا على مستوى انشغال الذمّة ، فالتمثيل بالعين التي اشتغلت بها الذّمة أو الدين الذي اشتغلت به الذمّة في غير محلّه.