38/04/23


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/04/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة ( 29 ) حكم النوح – المكاسب المحرمة.

الرواية الثالثة: الصدوق بإسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن النبي صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً في حديث المناهي: ( نهى عن الرنّة عند المصيبة ونهى عن النياحة والاستماع إليها ونهى عن تصفيق الوجه )[1] .

وموضع الشاهد هو ( ونهى عن النياحة والاستماع إليها ) فنفس النياحة حرام والاستماع إليها أيضاً حرام فإذا كان الاستماع إليها حراماً فبالأولى هي حرام أيضاً ، فإذن نستفيد الحرمة من ناحيتين من ناحية نهى عن النياحة ، ومن نياحة نهى عن الاستماع فإنه بالدلالة الالتزامية العرفية نثبت حرمة نفس النياحة وإلا لا معنى لحرمة الاستماع إليها.

ولكن يمكن التأمل في الرواية سنداً ودلالة:

أما سنداً: فقد رواها الصدوق بإسناده عن شعيب بن واقد ، وإذا رجعنا إلى مشيخة الفقيه[2] فهو يذكر طريقه إلى شعيب بن واقد وهو يشتمل على عدّة مجاهيل ، بل نفس شعيب لم تثبت وثاقته ، فلا حاجة لنا إذن إلى بحث في الطريق ، أما الحسين بن زيد فقد مرّ علينا في مسألة (26 ) في حرمة الغش فإنه بمناسبةٍ مرّت عندنا رواية كان في سندها الحسين بن زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام وهو لا يوجد توثيق واضح في حقّه.

ولكن قد يقال في اثبات وثاقته:

أوّلاً: إنه ابن زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام وكيف يكون ابن علي بن الحسين ليس بثقة ؟!

ولكن هذا غير مقبول: فإن القرآن الكريم يقول: ﴿ إنه عملٌ غير صالح ﴾ ، فمن له عقيدة التوثيق بهذا الطريق فسوف يوثقه من خلاله ، ولكن نحن لم نقبل بذلك.

ثانياً: أن يقال: إنَّه على ما نقل النجاشي أنَّ الامام عليه السلام قد تبنّاه وربّاه وزوجه بنت الأرقط ، وتبنّي الامام له ألا يدل على وثاقته بل أكثر من الوثاقة ؟!

وهذا أيضاً فيه ما فيه: فهو بالتالي من أقارب الامام عليه السلام ولا يعني اهتمام الامام به أنه ثقة فإن هذا لم يثبت ، كما لعلّه كان ثقةً في الفترة التي كان فيها عند الامام عليه السلام أما بعد ذلك فلم يكن ثقة ، فلا نستطيع أن نثبت وثقاته ، فنفس التربية والتبنّي والتزويج لا يدلّ على ذلك ، ولو دلّ فربما يقال إنَّ هذا صحيح في الفترة التي كان فيها عند الامام عليه السلام أما في فترة نقل الرواة فلا ندري أنه ثقة أو لا ، إلا إذا ضمننا الاستصحاب الاستقبالي ولكن هذا مشكل.

ثالثاً: وهو أحسن الطرق لمن يبني على ذلك ، وهو أنه روى عنه ابن أبي عمير[3] ، فبناءً على هذه الكبرى وقد تعرضنا إلى هذا سابقاً وهي أنَّ الثقاة الثلاثة إذا نقلوا عن شخصٍ فسوف تثبت وثاقته فهنا يحكم بوثاقته.

وإلا إذا لم نقل بهذه الطرق الثلاث فأمره مشكل ، فإذن الرواية قابلة للتأمّل من حيث السند.

وأما من حيث الدلالة: فقد أشرنا أكثر من مرّة إلى إنَّ كلمة ( نهى ) يشكل استفادة التحريم منها ، إذ لابد وأن نفرّق بين نهى الاخبارية وبين أنهاكم أو أنهاك الانشائية ، فأنهاك أو أنهاكم انشاءٌ وهو كما قرأنا في علم الأصول ظاهر في التحريم كصيغة النهي ، أما نهى بنحو الإخبار فهذا يتلاءم مع الكراهة أيضاً ، فإنه لو صدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم صيغة كراهتيّة كذلك يصحّ أن نقول ( نهى النبي ) فهذا التعبير يلتئم مع الكراهة والحرمة معاً فلا يمكن استفادة التحريم منه ، وقد قلنا إنَّ هذا شيء مهم لأنَّ الكثير من الروايات فيها كلمة( نهى ) فهذه القضية سوف تؤثر في كثيرٍ من الموارد.

إذن اتضح أنَّ هذه الرواية قابلة للتأمّل سنداً ودلالةً.

الرواية الرابعة: الخصال عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن الحسن بن أبي الحسين الفارسي عن سليمان بن جعفر البصري عن عبد الله بن الحسين بن زيد بن علي عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام عن علي عليه السلام قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أربعة لا تزال في أمتي إلى يوم القيامة الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة وإن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من حرب [ جَرَب ] )[4] .

وموضع الدلالة هو ليس قوله صلى الله عليه وآله ( أربعة ..... والنياحة ) إذ لو كانت الرواية بهذا المقدار فلا دلالة فيها على الحرمة بل أقصى ما فيها أنَّ هذه العادات غير حسنة أما الحرمة فلا يستفاد منها ، ولكن بعد ذلك قال: ( وأما النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ) فهذا العذاب يدل على حرمة النياحة وفعل النائحة وبذلك يثبت المطلوب ، هذا تقريب الدلالة ، وهي في الجملة لا بأس بها.

ولكن يمكن التأمّل فيها سنداً ودلالة:

أما سنداً: فلاشتمالها على بعض المجاهيل ، حيث رواها علي بن إبراهيم عن أبيه عن الحسن بن أبي الحسين الفارسي والفارسي لم يذكر بتوثيق بل لعلّه مجهول ، وكذلك سليمان بن جعفر البصري لم يذكر بتوثيق بل لعلّه مجهول أيضاً ، وكذلك عبد الله بن الحسين بن زيد بن علي فهذا يحتمل أنه ابن الحسين بن زيد الذي تقدّمت الاشارة إليه في الرواية السابقة وهو أيضاً مجهولٌ أو لم يذكر بتوثيق ، أما أبيه الحسين بن زيد فيبقى على الكلام الذي ذكرنا قبل قليل فإنا قلنا إنَّه قد يتأمل في وثاقته إلا من طريق ابن أبي عمير ، فإذن الرواية تشتمل في سندها على عددٍ من المجاهيل.

أما دلالةً: فيمكن أن يقال: لا يبعد أن تكون الرواية ناظرة إلى النوح بالباطل فإنَّ مثله من المناسب أن يكون عليه هذا العذاب الشديد ، أو هي ناظرة إلى من اتخذت ذلك كسباً ، أما أنها تنوح مرّة أو مرتين بالحقّ لا بالباطل فشمول الرواية لمثل ذلك بهذا اللسان الشديد له يمكن أن يتأمل فيه ، فإذن هذه الرواية قابلة للمناقشة من هذه الناحية.

الرواية الخامسة: عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن الحسين عن الحسين بن عطية عن عذافر قال: ( سمعت أبا عبد الله عليه السلام وسئل عن كسب النائحة ، فقال: تستحله بضرب احدى يديها على الأخرى )[5] .

وتقريب الدلالة على الحرمة: إنَّ الامام عليه السلام حينما سئل عن كسب النائحة قال إنَّ أجرتها حلال على ضرب اليد ، يعني ليس على النوح ، يعني أنَّ النوح محرّم وإلا إذا كان محلّلاً فلماذا يقول فليكن التحليل بضرب اليد ، فالعدول من جعل الكسب والأجرة على نفس النوح إلى جعله على ضرب اليدين يفهم منه أنَّ نفس النياحة محرّمة ولكن هناك مخرج شرعي أشار له الامام عليه السلام وهو أنه يمكن أن نحكم بحلّية الأجرة من باب كون الأجرة على ضرب اليدين.

ولكن يشكل عليها سنداً ودلالة:

أما سنداً: فباعتبار عذافر فإنه لم يذكر في حقه توثيق ، أما بقية رجال السند فلا مشكلة فيهم.

وأما من ناحية الدلالة: فيمكن أن يقال إنَّ ما ذكر في تقريب الدلالة هو احتمالٌ ، ويوجد احتمالٌ ثانٍ وهو أن يكون المقصود هو أنَّ الامام يريد أن يبيّن أنَّ نياحتها وإن كانت بالباطل لأنه عادةً تكون النياحة بالباطل فهي حرام لأنها بالباطل فتستحل الأجرة حينئذٍ بواسطة ضرب اليدين ، فلا تدلّ الرواية على حرمة النياحة مطلقاً وإنما النياحة المتعارفة التي سئل عنها الامام عليه السلام حيث إنها بالباطل فتستحّل الأجرة بضرب يديها ، فهذا الاحتمال موجودٌ ولا نريد أن نستظهره فتعود الرواية بذلك مجملة من هذه الناحية.

إن قلت: هي مطلقة فلنتمسّك بإطلاقها من هذه الناحية ، فإنه لم يقيّد بما إذا كانت النائحة تنوح بالباطل فحينئذٍ نتمسّك بإطلاقها يعني سواء كانت تنوح بالحق أو بالباطل الامام قال تستحلّ الأجرة بواسطة ضرب يديها فبضمّ الاطلاق تثبت حرمة النياحة مطلقاً.

قلت: إنه لا اطلاق لها من هذه الناحية ، فإنه من الوجيه أن يكون الامام عليه السلام والسائل ناظران إلى النياحة المتعارفة ، فهما ليسا في صدد الاطلاق ، والنياحة المتعارفة هي النياحة بالمحرّم ، فمادامت النياحة المتعارفة فيها ذكرٌ للباطل المحرّم فعلى هذا الأساس قال الامام عليه السلام إنها تستحلّه بضرب يديها ، فبما أنَّ هناك انصراف وعادة إلى النياحة بالباطل فاعتماد الامام عليه السلام على ذلك شيء وجيه والسائل أيضاً اعتمد على هذا فانعقاد الاطلاق شيءٌ مشكل.

هذا بالنسبة إلى روايات المسألة وقد اتضح أنَّ الروايات التي يتمسّك بها لإثبات التحريم قابلة للمناقشة سنداً ودلالةً ، لكن لو قطعنا النظر عن هذا وافترضنا أنَّ دلالتها تامّة فلنذهب إلى الطائفة الثالثة المفصّلة.

وأما الطائفة الثالثة المفصّلة فهي روايتان:

الرواية الأولى: قال الصدوق: ( قال عليه السلام: لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقاً )[6] ، فإنها قيّدت وفصّلت حيث قالت ( لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقاً ) وهذا يدل على أنَّ النوح بالصدق جائز ولذلك صار الكسب جائزاً ولا بأس به ، فيتمسّك بدلالتها الالتزامية على أنَّه إذا كان الكسب لا بأس به هذا بالمطابقة فبالالتزام تكون نفس النياحة جائزة إذا كانت صدقاً ، وبذلك يثبت المطلوب ، فتكون مفصّلة ، دلالتها واضحة بذلك.

إلا أنَّ المشكلة من حيث السند: فهي مرسلة لأنّ الصدوق أرسلها بلسان قال ، فمن قال إنَّ مراسيل الصدوق التي هي بلسان ( قال ) لا بلسان ( روي ) يدل على الجزم فإذا دلَّ على الجزم فلابد وأن يكون عنده طريقاً جزمياً إلى الامام عليه السلام حتى يجزم بالنسبة ويقول قال الصادق عليه السلام ، فإذا كان عنده جزماً بالنسبة فلابد إذن من وجود سندٍ جزميٍّ عنده وهو من أعاظم علمائنا ، فعلى هذا الأساس يثبت المطلوب.

وقد ناقشنا هذا فيما سبق حيث قلنا: إنَّ الصدوق(قده) مكانته محفوظة عندنا وهو من الأعاظم والجزم ربما يقال هو حاصل له ، ولكن جزم كلّ شخص حجة عليه وقد خرج من ذلك جزم المجتهد بالنسبة إلى المقلّد له ، ولكن نحن الآن لسنا بصدد تقليدنا في العمل للشيخ الصدوق ، فلا يمكن أن نقول إنَّ جزمه حجة علينا ، على أنه قد يشكك في الصغرى وهي أنَّ النسبة للإمام تدل على الجزم ، كلا بل الصدوق روى روايةً فحينئذٍ ينسب إلى الامام ذلك يعني على ما في الرواية ، مثل الخطباء الآن فهم يقولون قال الصادق وقال الباقر ومقصودهم أنه حسب ما جاء في الرواية لكنهم حذفوا هذا الكلام لوضوحه لكنَّه مقدَّر ، فإذن يصحّ لك أن تنسب إلى الصادق عليه السلام مثلاً مادامت هذه القرينة موجودة والمفروض أنَّ القرينة مستبطنة وواضحة لا أنه فقط هو يلتفت إليها . فإذن قد يناقش صغرىً وكبرى.

الرواية الثانية: الكليني عن بعض أصحابنا عن محمد بن حسّان عن محمد بن زنجوية ويقال رنجويه عن عبد الله بن الحكم عن عبد الله بن إبراهيم الجعفري عن خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين في حديث قالت: ( سمعت عمي محمد بن علي عليه السلام يقول: إنما تحتاج المرأة إلى النوح لتسيل دمعتها ولا ينبغي لها أن تقول هجرا فإذا جاء الليل فلا يؤذي الملائكة بالنوح )[7] .

ووجه دلالتها على التفصيل: إنه عليه السلام قال: ( ولا ينبغي لها أن تقول هَجرا ) والهَجر بفتح الهاء هو الباطل يعني الكذب فتدل على أنَّ المبغوض هو النياحة بالباطل أما بغير الباطل فلا ، وأما إذا قراناها ( هُجْرا ) بضم الهاء وهو الفحش والخنا يعني هي لا تعدّد مناقب للميت من هذا النوع لأنه في الزمان السابق كانوا يعدّدون مناقب للميت ويجعلون من جملة مناقبه أنه يسرق ويقتل ويئد البنات وغير ذلك فهذه الأشياء التي هي من قسم القبيح لا تذكرها النائحة ، فإذن هي على كلا القراءتين تدل على التفصيل وأنَّ النوح جائز في حدّ نفسه.

لكنها تشتمل على الارسال ومجموعة مجاهيل ، فقوله ( عن بعض أصحابنا ) ارسالٌ ، ومحمد بن حسان مجهول ، ومحمد بن رنجويه مجهول ، وعبد الله بن الحكم مجهول ، وخديجة بنت عمر بن علي لم تذكر بتوثيق ، فالرواية قابلة للتأمل من حيث السند أيضاً.