38/05/16


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/05/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة ( 32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.

المحاكم في زماننا:-

هل يجوز الذهاب إلى المحاكم في زماننا أو لا ؟

والجواب:- وفي هذا المجال نقول ، تارةً يقع الكلام من حيث نفس القضاة وأنه هل يجوز لهم أن يتصدوا للقضاء أو لا ؟ ، وأخرى هل يجوز لنا الذهاب إليهم أو لا ؟

أما بالنسبة إلى تصدّي القاضي نفسه فنقول:- تارةً يقع الكلام بلحاظ القاعدة الأولية والحكم الأوّلي ، وأخرى بلحاظ الحكم الثانوي :-

أما بلحاظ الحكم الأوّلي:- فالمناسب عدم الجواز ، فإن الذي يتصدّى للقضاء يلزم أن يحكم بالشرع أي بما أنزل الله تعالى والأحكام الموجودة هي أحكام وضعية ، فبالتالي ليس جميعها هي أحكام الشرع المقدّس فكيف يجوز التصدّي للحكم بمثل هذه الأحكام ؟!! ، مضافاً إلى أنه يشترط أن يكون الشخص عادلاً حتى يتصدّى للقضاء وهؤلاء في الغالب ليسوا عدولاً ، فحينئذٍ هذه ناحية ثانية لعدم جواز التصدّي ، مضافاً إلى شرطية الاجتهاد كما هو معروف وهذا المتصدي ليس بمجتهد ، فإذن مقتضى الحكم الأوّلي أو القاعدة الأوّلية أنه لا يجوز له أن يتصدى للقضاء.

أما بلحاظ الحكم الثانوي والقاعدة الثانوية:- فيمكن أن نفسح مجالاً في مساحةٍ معيّنة وضيّقة ، وذلك بأن يقال: إذا فرض أنه لم يتصدَّ امثال هؤلاء للقضاء فحينئذٍ نبقى بلا قضاء والمفروض أننا لم نتمكن من أن نهيئ كادراً في هذا المجال لسببٍ وآخر ، فحينئذٍ يدور الأمر بين أن يترك هؤلاء الاشخاص القضاء بالكلّية فنبقى بلا قضاء وبين أن يتصدّوا فنسمح لهم ولكن بمساحةٍ معيّنة حيث نقول لهم يلزمكم أن تحكموا مهما أمكنكم بالحكم الشرعي ولو بالمراجعة إلى الخبراء الشرعيين ، فمهما أمكن يلزم أن يكون الحكم مقارباً للشرع ، فحينئذٍ لو دار الأمر بين هذين فالمتعيّن هو الثاني وهو السماح لهم بهذا المقدار لأنه لولا ذلك للزم الهرج والمرج.

وقد يقول قائل:- لماذا لم نربِّ نحن قضاةً ؟

والجواب:- إنَّ هذا يحتاج فترة طويلة وليس أمراً سهلاً ، وهذا إذا فرضن أننا جلسنا ودرسنا القضية من ناحية الايجابيات والسلبيات فإذا كانت الايجابيات أكثر فهذا جيد وأما إذا كانت السلبيات فلا . وعلى أيَّ حال ماذا نفعل في خلال هذه الفترة التي نحتاجها إلى صناعة الكادر القضائي فسؤالنا نطرحه هنا وهو أنه ماذا نصنع ؟ وجوابه ما ذكرناه.

كما إنه إذا لم نسمح للمتديّن بالتصدّي للقضاء فمن الذي نسمح له ؟! فإذن هذا الشخص إذا سمحنا له فلعله تكون موافقته للشرع بنحو القضية الموجبة الجزئية ولعله يكون في مساحة أوسع فهذا أجدر وأولى ، وهذا شيء ينبغي الالتفات إليه وأخذه بعين الاعتبار ، والنتيجة التي انتهينا إليها أنه يجوز أن يتصدى أخواننا المؤمنون لذلك في المساحة التي أشرنا إليها.

وأما بالنسبة إلى الناس الذين يراجعون القضاة:- فلا يجوز لهم الرجوع إليهم بالعنوان الأوّلي ، لأنَّ هذا ذهاب إلى قضاة الجور غير الشرعيين فيشمله ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله ... فلا يجوز التحاكم إليه ، ومقبولة ابن حنظلة حذّرت تحذيرا شديداً من هذه الناحية ، ولكن لو فرضنا أن شخصاً إذا لم يراجع أمثال هؤلاء القضاة كما في زماننا فسوف يضيع حقه أو سوف يدخل عليه الضرر فحينئذٍ يجوز التحاكم إليهم بهذا المقدار - يعني لإثبات الحق أو لدفع الضرر - ، أما إذا فرض أنه لا يلزم هذا ولا ذاك فحينئذٍ لا يجوز التحاكم إليهم فنأخذ بالقاعدة الأوّلية ، وعادة الناس في زماننا يذهبون إلى القضاة لأجل اثبات الحق أو دفع الضرر والرجوع إلى المجتهد العادل أيضاً لا ينفع لأنه لا توجد عنده سلطة والقضاء يحتاج إلى سلطة ونحن لا يمكننا أن نشكّل هذه السلطة ، نعم إذا اتفق الطرفان المتخاصمان على القبول بحكم الشرع فحينئذٍ لا يجوز لهم الذهاب إلى هؤلاء ، لكن إذا لم يقبل الطرف بحكم الشرع فحينئذٍ يضطر الشخص إلى أخذ حقه من خلال الرجوع إلى المحاكم الرسمية فهذا حينئذٍ يجوز من هذه الناحية.

إذن الخلاصة في الموضوع هي كما أوضحنا.

الارتزاق من بيت المال:-

إذا لم نجوّز للقاضي أخذ الأجر – ونحن انتهينا في بعض الصور إلى أنه يجوز للقاضي أن يأخذ ولكن إذا بنينا على ذلك كما لعل المشهور – فحينئذٍ نقول يجوز للقاضي الارتزاق من بيت المال ، بمعنى أنه لو كان بيت المال بأيدينا في دولة كانت بأيدينا فحينئذٍ نخصّص جزء من بيت المال كرزقٍ للقاضي ، بمعنى أنه قد صرف أوقاته في سبيل الحكم وحلّ الخلافات بين الناس وهذه مصلحة من لمصالح فيدفع إليه بعنوان الارتزاق لا بعنوان الاجرة مقابل العمل فإنَّ عمله لا يثمَّن وليست له أجرة ، كما هو الحال في طال بالعلم فإنَّ طالب العلم ليس لعلمه أجرة فإنه لا يثمّن غايته أنه صرف وقته في الدرس والتدريس ومراجعات الناس وصلاة الجماعة وقضاء حوائج الناس وما شاكل ذلك فحينئذٍ لابدَّ أن يرتزق مادام يعمل لصالح المسلمين فيدفع إليه من بين المال جزءً من باب الارتزاق حسب ما يحدده الحاكم الذي بيده بيت المال كما هو الحال في المؤذن وغير.

والوجه في جوازه أمران:-

الأوّل:- إنَّ بيت المال معدّ لمصالح المسلمين ، ولا يتصوّر شخص أنَّ بيت المال هو سهم الامام ، كلا ليس ذلك وإنما سهم الامام عليه السلام هو في الحقيقة لمنصب الامامة فإنَّ الامامة لها مصارف فسهم الامام هو للإمام وشؤونه ، فحينما نقول بيت المال المقصود منه الزكاة والضرائب إذا فرضت والمعادن وما شاكل ذلك من الأموال العامة ، ومن هذا القبيل والذي هو المموّل الأساسي في ذلك الزمان شيآن هما الزكاة والخراج فهما اللذان يكوّنان بيت المال ، فهذه الأموال تكون للمسلمين ولصالح المسلمين فإنَّ بيت المال معدٌّ لمصالح المسلمين وهذا من مصالح المسلمين.

الثاني:- ما ورد في بعض الروايات ، من قبيل ما ورد في عهد الامام عليه السلام لمالك الأشتر فإنه جاء فيه :- ( وافسح له في البذل ما يزيل علّته وتقل معه حاجته إلى الناس ) [1] .

وعلى منوال ذلك ما جاء في مرسلة حمّاد الطويلة حيث قال عليه السلام في بيان مصارف بيت المال حيث قال بعد أن بيّن بعض المصاديق قال:- ( وغير ذلك ممّا فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير )[2] .

إذن الحكم من هذه الناحية ممّا لا تأمل فيه وأنه يجوز له أن يدفع له بعنوان الارتزاق.

وبهذه المناسبة نشير إلى قضية:- وهي أنه هل يمكن الاعتماد على عهد الامام علي عليه السلام إلى مالك الأشتر سنداً أو لا ؟ وبالتالي نصوع هذا السؤال فيكون أعم وهو أنَّه هل يجوز الاعتماد على نهج البلاغة لأخذ الأحكام الشرعية منه لأنَّ الحكم الشرعي يحتاج إلى حجّة شرعية فهل نهج البلاغة حجة شرعية ؟ فإن سند الشريف الرضي إلى ما نقلة وجمعه بالحساب الفقهي الدّقي غير معتبر لأنه مراسيل فأنه ينقل من تلك الكتب فيقول نقل فلان عن الامام هذه الخطبة ونقل فلان هكذا وطريقه إلى الكتاب ليس معلوماً وكذلك طريق صاحب الكتاب إلى الخطبة أيضاً ليس واضحاً ، فالطابع العام عليه هو عدم الحجية من حيث الفقه كأحكام شرعية.

وفي هذا المجال ألفت النظر إلى الحكم إذا كان ليس شرعياً وإنما كان حكماً أخلاقياً أو اجتماعياً فلا تذهب إلى السند وإنما انظر إلى المضمون فإذا كان المضمون عقلائياً مقبولاً ولا يولد اشكالاً فانقله على المنبر وأما إذا رأيت فيه شائبة إشكال فاتركه فليس من الصحيح بأنه للناس بل بين للناس الأحاديث المقبولة عقلائياً ، فمثلاً ترى في الكلمات القصار لأمير المؤمنين عليه السلام يقول:- ( عاشروا الناس معاشرةً إذا متم بكوا عليكم وإذا غبتم حنوا إليكم )[3] فهذا لا يوزن بالذهب فهو مضمون عقلائي ، فإنه قد يقول شخص وأنا أجزم أن هذا قول أمير المؤمنين عليه السلام فهذا جيد جداً ، ولكن الذي أريد أن أقوله هو أنَّ هذا قول مقبول جداً وعقلائي ، أو مثلاً ( إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو شكراً للقدرة عليه )[4] فكم هو معنى جميل فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة قال: ( اذهبوا فأنتم أنتم الطلقاء ) ، فانقل هذا المضمون العقلائي إلى الناس وبينه لهم ولا تذهب إلى السند ، ومثل ( عاتب أخاك بالإحسان إليه واردد شرة بالإنعام عليه ) ، فمثل هذه المضامين قم بنقلها ولا تلاحظ السند ، أما إذا أردت أن تستنبط حكماً شرعياً كما في موردنا فلابدّ من ثبوت السند أو أنَّه يحصل لك الاطمئنان ، فالميزان هو الاطمئنان والذي يعبّر عنه بالوثوق ، والذي يقرأ عهد الامام عليه السلام إلى مالك الأشتر يراه أنه لا يمكن أن تصل إليه العقول البشرية العاديّة فيحصل اطمئنان بحقّانية وبنسبة هذا العهد إلى الامام عليه السلام فحينئذٍ يكون حجّة من ناحية الاطمئنان ، وربما قد لا يحصل الاطمئنان لشخصٍ آخر ولكن إذا حصل الاطمئنان فآنذاك يكون حجّة.

ولكني استدرك وأقول:- إنَّ هذا سوف يثبت لنا أنَّ هذا العهد حتماً قد كتبة الامام عليه السلام ، ولكن إذا فرض ذلك في بعض الكلمات مثل ( ثم ) أو ( الواو ) أو غير ذلك بحيث كان يتوقّف استفادة الحكم على كلمة معيّنة بعينها فهنا لا تتمكن أن تستند إلى الاطمئنان ، لأنَّ الاطمئنان لا يثبت لك أنَّ هذا الكلام كله قد صدر من الامام حتى هذه الكلمة ، نعم إذا فرض أنها كانت عبارة راقية كما في موردنا فالاطمئنان موجود ، أما إذا فرض أنها كانت كلمة وتوقّف الاستدلال عليها فهذا الاطمئنان لا ينفعنا لأنه لا يثبت لنا أنَّ هذه الكلمة صادرة حتماً ، هذه فائدة أردت بيانها بشكل كلّي ينبغي الالتفات إليه.