38/07/13


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/07/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.

النقطة الأولى - أعني حرمة الكذب:- لا إشكال في حرمة الكذب في الجملة ، وقد ذكر الشيخ الأعظم(قده) ما نصّه:- ( الكذب حرام بضرورة العقول والأديان وتدل عليه الأدلة الأربعة إلا أنَّ الذي ينبغي الكلام فيه مقامان )[1] ، المقام الأوّل في كونه من الكبائر والمقام الثاني في سوّغاته وجوزاته فإنه يجوز الكذب في حالات كما سيأتينا في الحالة الخامسة.

ولكنه لم يشر وهكذا من جاء بعده إلى دليلٍ قرآني يدل على حرمة الكذب بنحو الاطلاق حتى نستفيد منه الاطلاق في موارد الشك في حرمة الكذب فإنَّ هناك مصاديق وموارد قد يشكّ فيها في حرمة الكذب فإذا كان هناك اطلاق فيمكن التمسّك به لإثبات الحرمة ، من قبيل ما إذا فرض أنه لم تترتب على الكذب مفسدة فهل يحرم آنذاك أو لا ؟ ، أو مثلاً في الهزل هل يحرم الكذب أو لا ؟ ، وهكذا مثلاً الكذب بالاشارة أو بالكتابة هل هو حرام أو لا ؟ ، فإذا كان هناك اطلاق فنتمسّك به ، أما إذا لم يكن هناك اطلاق فكيف نثبت الحرمة في مثل ذلك ؟ ، وهكذا أذا أخبر الإنسان بشيءٍ لا يعلم تحققه ، فهو لا يعلم أنه قد نزل المطر أو لم ينزل وهو متردّد وغير متأكد من نزوله فإذا قال نزل المطر ويحتمل أنَّ المطر قد نزل واقعاً ولكنه كان شاكاً في نزوله فهل هذا كذب محرّم أو لا ؟ ..... وهلم جراً ، فهناك موارد كثيرة من هذا القبيل نحتاج فيها إلى الاطلاق في دليل حرمة الكذب حتى نتمسّك به لإثبات الحرمة ، وأما إذا لم يكن هناك اطلاق فالأمر يصير مشكلاً ، والشيخ الاعظم(قده) لم يشغل نفسه في هذا المجال بل اكتفى بضرورة العقل والأديان والأدلة الأربعة ولم يذكر شيئاً بعد ذلك ، فهو قد أجمل وكان من المناسب له التعرض إلى هذا.

وإذا رجعنا إلى الكتاب الكريم وجدنا أنه في الغالب يحرّم حصّةً من الكذب وهو الذي فيه افتراء على الله عزّ وجلّ عادةً ، كقوله تعالى:- ﴿ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ﴾[2] ، فإذن هذا افتراء على الله تعالى ، فأقصى ما تدل عليه الآية الكريمة هو أنَّ الافتراء على الله تعالى حرام أما الكذب العادي فالآية لا تدل على تحريمه ، وهكذا آيات أخرى من هذا القبيل ، فمن المناسب تحصيل آية كريمة في هذا المجال ، وفي كتاب المحاضرات في الفقه الجعفري قال:- يدلّ على حرمته قوله تعالى ﴿ ألا لعنة الله على الكاذبين ﴾ ، فإذا كانت توجد آية قرآنية هكذا تقول فهي فيها اطلاق حيث يوجد فيها لعنة على الكاذب من دون تقييد ، ولكني حسب مراجعتي لم أجد آية كريمة هكذا تقول بل الموجود ﴿ ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴾[3] ، ولكن هذه الآية ليست فيها اطلاق وإنما هي ناظرة إلى أنه دعونا نبتهل ونجعل لعنة الله على الكاذب ، فهي لا تدل على حرمة مطلق الكذب ، بل لا يوجد فيها حتى إيحاء بذلك ولا وهم ، بخلاف ما ذكره السيد الخوئي(قده) فإنه إذا كانت هكذا آية موجودة فهي فيها إطلاق ولكن كما قلنا لا توجد مثل هكذا آية.

وعلى أيّ حال ربما يتمسّك لذلك بالآيتين التاليتين:-

الأولى:- قوله تعالى ﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كان يكذبون ﴾[4] ، وهل فيها إطلاق ؟ إنه يمكن أن يقال إنَّ هذه إشارة إلى شريحة من اليهود في قلوبهم مرض النفاق فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بسبب كذبهم ، أما الكذب الصادر منهم ما هو ؟ هو الكذب والافتراء على الله تعالى ولا يستفاد من هذا أنَّ كل كاذب له عذاب أليم ، كلا بل هذه الشريحة لها عذاب أليم ، فإذن يشكل التمسّك بهذه الآية.

الثانية:- قوله تعالى ﴿ واجتنبوا قول الزور ﴾[5] بعد تفسير الزور بالكذب ، فإذا فسّرنا الزور بالكذب فسوف يصير معنى الآية الكريمة ( واجتنبوا قول الكذب ) وهذه الآية الكريمة سوف نستفيد منها بعض الاطلاق ، يعني سوف نستفيد أنَّ كلّ قول كذب اجتنبوه أما غير القول كالإشارة والكتابة فهي ليس فيها دلالة على الأمر باجتنابه ، ولكن هذا جيّد فإننا سوف نستفيد ولو في هذه المساحة ، ولكن هذا المقدار محلّ إشكال أيضاً باعتبار أنَّ الزور ما هو فهل هو الكذب ؟ إنَّ هذا أوّل الكلام ، فليس من البعيد أنَّ الزور هو عبارة عن الباطل كما ذكرنا ذلك في مبحث الغناء ، فكلّ باطل هو زور والغناء كما في بعض الروايات فسّر بأنه قول الزور باعتبار أنه فردٌ من أفراد الباطل في مقابل الحق ، فالزور إذن لم يثبت ترادفه مع الكذب وأنه نفس الكذب بحيث لو رفعنا كلمة زور ووضعنا بدلها كلمة ( الكذب ) تصير ( واجتنبوا قول الكذب ) فإنَّ هذا ليس بثابت ، بل لعلّ المقصود ( اجتنبوا قول الباطل ) والذي قلنا إنَّ مصاديقه مختلفة ، وإذا كان كذلك فهذا لا يمكن أن نستفيد منه أيضاً في موارد الشك ، فمثلاً إذا كان الكذب ليس فيه مفسدة كما لو كان في الهزل فإذا كان عندنا دليل على حرمة الكذب فنتمسّك بالإطلاق حتى في الهزل وحتى إذا لم تكن فيه مفسدة وحتى إذا كان بالاشارة أو بالكتابة ، أما إذا كان الزور هو الباطل فإذا كان هذا الكذب ليس فيه مفسدة فمن قال بأنه مصاديق الباطل ؟! إنَّ هذا ليس بواضح ، وهكذا إذا كان في الهزل هل هو باطل ؟ إنَّ هذا ليس بواضح أنه من الباطل ، نعم إذا كان الوارد هو عنوان الكذب فهذا كذبٌ ، أما إذا كان الوارد هو عنوان الباطل فهذا ليس من الواضح أنه من الباطل ولا أقل يشك بنحو الشبهة المصداقية أنه باطل - إذا لم تكن فيه مفسدة وإذا كان في الهزل - فلا يمكن حينئذٍ التمسّك بهذا الاطلاق ، فإذن نحن نريد آية مطلقة تحرّم عنوان الكذب .

والخلاصة من كل هذا:- إنَّه يصعب تحصيل آية كريمة تشتمل على إطلاق بحيث يتمسّك باطلاقها لإثبات حرمة الكذب في جميع الموارد والخارج منه حينئذٍ هو الذي يحتاج إلى دليل على الاستثناء فالمقتضي يكون تاماً والخروج عن هذا يحتاج إلى دليل.

وهناك قضية أخرى:- وهي أنَّ الشيخ الأعظم(قده) ذكر في عبارته المتقدّمة أنه تدل على حرمة الكذب الأدلة الأربعة ، وقد كان يستعمل هكذا أدلة أربعة من بداية المكاسب إلى نهاتيه ، يعني يجعل الاجماع إلى جنب الآيات والروايات والعقل ، ومن الواضح أنه إذا كانت توجد آية أو رواية فسوف يصير هذا الاجماع مدركياً فتعود القيمة حينئذٍ إلى الآية أو الرواية ، فأنت لاحظ الآية أو الرواية هل تدل على المطلوب أو لا تدل عليه ولا تجعل الأدلة أربعة ، بل عليك أن تحذف الاجماع فإنَّ الاجماع إنما يصلح دليلاً إذا لم يكن هناك آية ولا رواية ولا مدرك محتمل ، وهذا ما قد تعلّمناه من الشيخ الأعظم(قده)في الأصول ، ولكنه في الأصول غيره في المكاسب وهذا واقع.

إلا اللهم أن يكون مقصوده مجرّد بيان واقع وهو أنَّ هذه المسألة لا خلاف فيها , فإذا كان يقصد هذا فلا بأس بذلك ولكن لا تقل ( وتدل عليه .. ) فإنَّ الاجماع سوف لا يصير دليلاً في جنب الآيات والروايات ، فالتعبير بـ( ويدل عليه الاجماع ) لا معنى له.

وأيضاًً هو ذكر أنَّ العقل يدل على حرمته ، وهنا يوجد كلام جانبي:- وهو أنه لابدَّ من أن نفسّر مقصود الشيخ(قده) من قوله بأنَّ العقل يدل على حرمته فإنَّ العقل ليس بمشِّرع إنما التشريع لله عزّ وجل أما العقل فلا توجد له حيثية التشريع ، ولتوجيه كلام الشيخ نقول إنَّ مقصوده أنه قبيح وبعد ضمّ الملازمة تثبت الحرمة ، وإذا كان يقصد هذا فهو شيء وجيه ولكن لابد من الالتفات إلى قضية جانبية وهي أنه هل كل كذبٍ يقول العقل هو قبيح حتى الذي ليس فيه مفسدة ؟ إنه ليس من الواضح أنَّ العقل يحكم بقبحه بل نتوقف في حكم العقل بقبحه كما لو كان بالهزل فقد يقال هو ليس بقبيح ، ثم لو سلّمنا أنه قبيح فنحتاج في استكشاف حكم الشرع إلى ضمّ الملازمة فإنَّ القبح وحده لا يكفي ويقال كل ما حكم العقل بشيء حكم الشرع بحرمته وهذه القضية أوّل الكلام ، فلعلّ الشارع لا يحكم بالحرمة اكتفاءً بحكم العقل ولا يحتاج إلى أن يتصدّى هو للحكم ، بل ربما كما قال بعض وإن كنّا لا نوافق على هذا أنه لا معنى لأن يحكم الشرع آنذاك بعد حكم العقل ، لأجل أنه إذا كان حكم العقل كافياً لتحريك المكلّف فبها ونعمت فإنَّ المحرّك موجود فلا داعي إلى حكم الشارع ، وإذا فرض أنَّ العقل لا يحرّكه فالشرع أيضاًً لا يحرّكه فيكون حكمه لغواً أيضاً ، فعلى كلا التقديرين يلزم محذور اللغوية ولكن هذا الكلام كما قرأنا في محلّه المناسب أنه لا وجه له إذ يمكن للإنسان العاقل أنَّ لا يحرّكه حكم العقل وحده إلا إذا انضمّ إليه حكم الشرع ، فإذن لا يلزم محذور العبث واللغوية ، نعم الاشكال المهم الذي يرد هو أنه لا توجد ضرورة من كلا الطرفين لا ضرورة حكم الشرع كما قد يقول البعض بذلك حيث قال مادام قد حكم العقل يلزم أن يحكم الشرع لأنه سيد العقلاء فهذه ليست لها ضرورة ، وتلك أيضاً ليس لها ضرورة وهي أنه يبغي أن لا يحكم ، فلا الضرورة من طرف الايجاب ثابتة ولا الضرورة من ناحية السلب ثابتة ، أما الضرورة من ناحية الايجاب ليست ثابتة فلاحتمال اكتفاء الشرع بتقبيح العقل وكونه سيد العقلاء لا يقتضي أن يحكم كما يحكموا فكونه سيدهم ربما هو التفت إلى بعض النكات التي لم يلتفتوا إليها فلا يلزم أن يحكم بحكمهم وإلا كان تابعاً ولم يكن سيدهم ، وهكذا الضرورة الثانية السلبية وهي أنه لا ينبغي أن لا يحكم لأنه عبث حيث لا يحرّكه حكم العقل فبحكم الشرع أيضاً لا يتحرّك فيردّه ما أشرنا إليه من أنَّ الانسان أحياناً لا يحرّكه حكم العقل وحده فيحتاج إلى حكم الشرع.


[5] سورة الحج، الاية30.