39/02/24


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/02/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- حكم مجهول المالك - مسألة ( 39 ) حكم جوائز الظالم – المكاسب المحرّمة.

الرواية الثانية:- محمد بن يعقوب عن محمد بن جعفر الرزاز عن محمد بن عيسى عن ابي علي بن راشد قال:- ( سألت أبا الحسن عليه السلام قلت: جعلت فداك اشتريت أرضاً إلى جنب ضيعتي بألفي درهم فلما وفّرت المال خبّرت أنَّ الأرض وقف ، فقال: لا يجوز شراء الوقوف ولا تدخل الغلة في ملكك ادفعها إلى من أوقفت عليه ، قلت: لا أعرف لها ربّاً ، قال: تصدق بغلّتها )[1] ، ومحل الشاهد أنه بعد أن اتضح أن الأرض المشتراة وقف قال الامام عليه السلام لا يجوز شراء الوقوف ثم قال ( ولا تدخل الغلّة في ملكك ) ، ومحل الشاهد هو هنا يعني بالنسبة إلى الغلة حيث قال الامام ( لا تدخل الغلّة في ملكك ادفعها إلى من أوقفت عليه ، قلتك لا أعرف لها رباً ، قال: تصدّق بغلتها ).

إذن الامام عليه السلام في مورد مجهول المالك كما هو المفروض هنا حيث لم يعرف لها رباً ليدفع الغلة إليه - لأنَّ الموقوف عليهم لا يعرفهم حتى يدفعها لهم - فالامام أمره بالتصدّق بها.

إذن الدلالة إلى الآن لا بأس بها.

والكلام تارة يقع في سندها وأخرى في دلالتها:-

أما بالنسبة إلى السند:- فمحمد بن عيسى فهو محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني وهو ثقة ، وأما أبو علي بن راشد فقد قال عنه الشيخ الطوسي(قده) في رجاله في أصحاب الجواد عليه السلام ( الحسن بن راشد يكنّى أبا علي مولى لآل المهلّب بغدادي ثقة )[2] فإذن لا مشكلة فيه ، إنما المشكلة في محمد بن جعفر الرزاز فإنَّ الشيخ الكليني قد روى عنه[3] وقد يكون ذكره له بألفاظ مختلفة فمثلاً هنا[4] روى عنه باسم محمد بن جعفر الرزاز ، وفي مورد آخر قال محمد بن جعفر بن الرزاز الكوفي[5] ، وقال في بعضها محمد بن جعفر أبو العباس[6] ، وفي بعضها قال محمد بن جعفر أبو العباس الرزاز[7] ، وفي بعضها محمد بن جعفر الكوفي[8] ولعلّه ذكره بألوان أخرى في موارد أخرى ، ولكن لم يذكر في كتب الرجال بتوثيق ، نعم إذا رجعنا إلى النجاشي وجدناه يقول ( محمد بن جعفر بن محمد بن عون الأسدي أو الحسن الكوفي ساكن الري يقال له محمد بن أبي عبد الله كان ثقة صحيح الحديث )[9] ، لكن لا يمكن الاطمئنان بأنَّ هذا الرجل هو محمد بن جعفر الرزاز لأنه وصفه بأمور منها أنه ساكن الري وأنه ابن عون وأنه أبو الحسن أما ذاك فهو أبو العباس فالأمر مشكل من هذه الناحية ، فهذا المقدار لا ينفعنا.

ولكن ربما يقال:- إنَّ الكليني قد ذكر في بداية كتابه ما نصّه:- ( قلت أنك تحبّ أن يكون عندك كتاب كافٍ يجمع فيه من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين )[10] ، فهذه شهادة من قبل الشيخ الكليني[11] وحينئذٍ يثبت بأنَّ هذا الرجل ثقة.

بل قد يتمسّك بعضهم بهذه الشهادة لتعميمها ليس على المشايخ المباشرين للكليني فقط بل على جميع رجال السند ، يعني قد يفهم من عبارة الكليني أنه يشهد بوثاقة جميع رجال الأسانيد المذكورة في كتاب الكافي ، ولعله لأجل هذا نقل السيد الخوئي(قده) عن استاذه النائيني(قده) أنه قال في مجلس درسه المبارك ( المناقشة في أسانيد الكليني حرفة العاجز).

ولكن هذا يتم إذا فرض أنه يشهد بالوثاقة وهو لم يشهد بالوثاقة وإنما شهد بالصحّة حيث قال ( من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ) ، والصحة في مصطلح القدماء تغاير الصحة في المصطلح المتأخرين من زمان العلامة ، وهي إن لم تغايرها جزماً فيحتمل المغايرة ويكفينا الاحتمال ، فالصحة عند المتأخرين هي مصطلح جديد وهو ما إذا كان كل رجال السند من الامامية الثقات العدول ، بينما الصحة في المصطلح القديم هو كلّ خبر يلزم العمل به فكل خبر يجب العمل به هو عندهم خبر صحيح ، ولا يوجد عندهم أنَّ رجال السند هم عدول امامية فإنَّ هذا التقسيم الرباعي جاء به ابن طاووس - وإن نسب إلى العلامة - ، فمادمنا لا نجزم بأنه يقصد من الصحيح هذا المصطلح واحتملنا أنه يقصد ذلك المصطلح فإذن لا يمكن أن ثبت وثاقة جميع رجال السند أو المباشرين منهم.

إن قلت:- يكفينا أنه يشهد بوجوب العمل بها.

قلت:- هذا اجتهاد منه لكن هذا الكلام لا يثبت لنا حجية رأيه علينا فإنا لسنا مقلّدين له ، فلو كان يشهد بالوثاقة فنعم هذا معتبر ، كشهادة النجاشي وغيره بالوثاقة ، ولكنه لم يشهد وإنما قال هذا الخبر يجب العمل به وذاك الخبر يجب العمل ونظر مجتهدٍ ليس حجة على المجتهدين الآخرين وهذا من الأمور الواضحة ، فإذن هذا لا ينفعنا في اثبات وثاقته.

إلا بطريقٍ آخر وهو أن نقول:- إنَّ رواية الشيخ الكليني عنه في موارد متعددة فهذا معناه أنه يعرف الرجل ، إذ من البعيد أنَّ مثل الشيخ الكليني يروي عن شخصٍ غير ثقة أو مجهول الحال ، فإذا بني على هذا فلا بأس حينئذٍ ، خصوصاً بإضافة هذا إلى ما ذكره في المقدّمة ، فإذا حصل لك الاطمئنان بذلك فمن باب حصول الاطمئنان تنحل مشكلة هذا الرجل ، هذا إذا لم نبنِ على مسألة وثاقة كل من ورد في اسانيد كامل الزيارات وتفسير القمّي ، وأما من يبني على ذلك فهو في راحة من هذه الناحية لأنه ورد في أسانيدهما.

إذن يمكن أن نقول إنَّ سند هذه الرواية معتبر.

وأما من حيث الدلالة:- فقد يشكل عليها بإشكالين:

الاشكال الأوّل:- إنَّ التعبير الوارد فيها ( قلت لا أعرف لها ربا ، قال: تصدق بغلتها ) حيث يحتمل من ( لا أعرف لها ربا ) هو أني لا أعرف لها مالكاً ، فهي لعلّها ليس لها مالك أصلاً باعتبار أنها ليست وقفاً خاصاً وإنما هي من الخيرات العامة والوقوف العامة التي أوقفت لله تعالى ، فإذن هو يريد أن يقول أنا لا أعرف لها مالكاً أصلاً ويحتمل من البداية أنها ليس لها مالك لا أنَّ لها مالكاً ولكني أجهله ولا أعرفه ، وبناءً على هذا تخرج الرواية عن محل الكلام ، وربما يستشهد لذلك بأنه عبّر وقال ( لا أعرف لها ربا ) ولم يقل ( ولا أعرف ربها ) ، فأنه لو كان لها ربٌّ وهو لا يعرفه لقال ( لا أعرف ربّها ) بينما هو قال ( لا أعرف لها رباً ) فيحتمل أنها ناظرة إلى الأرض أو الغلّة التي لا يعرف لها مالك رأساً ، ويكفينا الاحتمال حيث تصير حينئذٍ مجملة ، وهذا ما ذهب إليه السيد الخميني(قده) ونصّ عبارته:- ( فإن الظاهر من قوله لا أعرف لها ربّاً أن من المحتمل عنده أن لا يكون له ربّ رأساً وأن وقفت الأرض لمطلق الخيرات وإلا كان حق التعبير في مجهول المالك أن يقول لا أعرف ربه )[12] .

وفيه:-

أولاً:- إنه حتى لو كانت من الأوقاف العامة فبالتالي هي لها ربّ وهو جميع المسلمين لا أنها ليس لها ربّ فإنه لا يوجد وقفٌ ليس له مالك ، إذ بالتالي قد يوقف الشيء على طلبة العلم أو إلى زوار الحسين عليه السلام أو على جميع المسلمين لا أنه ليس له ربّ ، فلا يتصوّر وقفٌ ليس ربٌّ.

ثانياً:- إذا صار البناء على إعمال التدقيقات مع التعابير بهذا الشكل فنقول إنَّ المناسب على ما أفاده(قده) أن لا يستعين بمادّة ( عرف ) والمعرفة ، بل يستعين بمادة ( العلم ) فيقول ( لا أعلم أنَّ لها رباً ) لا أنه يستعان بمادة المعرفة ويقول ( لا أعرف ) لأنّ المعرفة فرع وجود المالك ولكني لا أعرفه ، أما تعبير ( لا أعلم لها رباً ) يعني أني أشك في وجود ربٍّ لها.

فإذن التشكيك في دلالتها من هذه الناحية قابل للتأمل.

الاشكال الثاني:- إنه جاء فيها ( فلما وفرت المال خبّرت أن الأرض وقفٌ ، فقال: لا يجوز شراء الوقوف ) وهنا لا إشكال في الرواية ، ثم قال عليه السلام ( ولا تدخل الغلة في ملكك ) والاشكال هنا حيث يقال إنَّ كون الأرض وقفاً لا يلازم أن يكون النماء ملكاً لمن أُوقفت عليه الأرض وإنما النماء والزرع تابع لمالك البذور ، فمن جعل البذور في تلك الأرض الموقوفة يكون النماء له رغم أنَّ الأرض ليست له فإنَّ النماء يتبع البذر ، نعم تجب عليه أجرة بقاء هذا الزرع في هذه الأرض لا أنَّ هذا النماء يكون لأصحاب الأرض ، بل من المناسب أن يكون لصاحب البذر.

ومرجع هذا الاشكال إلى أنَّ الرواية اشتملت على حكم لا يمكن تطبيقه على القواعد ولا يمكن قبوله فإذن لابد من ردّ علمها إلى أهلها ، فإنَّ الزرع ليس تابعاً للأرض الموقوفة وإنما هو تابع لصاحب البذر وإنما تثبت الأجرة على من بذر الأرض ، هكذا ربما يشكل وتردّ الرواية.

وجوابه واضح حيث يقال:- إنَّ حكم الامام بأنَّ الزرع لمن أوقفت عليه الأرض يفهم منه أن الوقف لم يكن للأرض فقط وإنما كان للأرض بما فيها من زرع ، كالبساتين الموقوفة في زماننا فإنَّ الواقف لا يوقف الأرض فقط بل يوقف الأرض وكلّ ما موجود فيها ، فحينئذٍ يكون الزرع للموقوف عليهم ، ومادام يمكن توجيه الرواية بهذا الشكل فلا معنى للتوقّف فيها وردّ علمها إلى أهلها فإنَّ هذا لا معنى له.

والخلاصة من كل ما ذكرناه:- إنَّ الرواية لا بأس بها لإثبات فكرة وجوب التصدّق في مجهول المالك عند اليأس من المالك.


[3] وبتعبير آخر هو شيخ للكليني لأنه يروي عنه المباشرة في موارد متعددة من الكافي ولا أقول روى عنه الكثير مثل محمد بن يحيى أو علي بن إبراهيم كلا بل روى عنه في موارد معدودة لا بأس بها.
[11] وهو قد قال في مقدمة الكافي إنَّ الله يسّر ذلك فيظهر من عبارة ( إنَّ الله يسّر ذلك ) أنه كتب هذه المقدمة بعد تأليف الكتاب وإلا لا يقول ذلك قبل التأليف فلا يأتي اشكال أنه كان بناءه أن يعمل هكذا في البداية ولكنه خرج عن خطته عند التأليف.