34-08-12


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

34/08/12

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضـوع:- مسألة ( 384 ) / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
 وبعد أن اتضح أن مذهب الأصحاب على أن الثِنِيّ معتبر في ثلاثة من الحيوانان والجَذَع معتبر في واحدٍ منها - أي الضأن - نتساءل ونقول:- ما هو مدرك ذلك ؟ وواضح إن الذي يعتمد على الإجماع أو الشهرات فأمره سهل في مقام الاستنباط أما الذي لا يرتئي ذلك خصوصاً وأن الإجماع في المقام يحتمل أن يكون مدركيّاً فهذا يحتاج إلى دليل لإثبات أن الثِنِيَّ معتبر في ثلاثة من الحيوانات والجَذَع معتبر في واحدٍ منها فما هو الدليل على ذلك ؟
 والجواب:- إنه إذا لاحظنا الروايات وجدنا أن صاحب الوسائل ينقل في الباب الحادي عشر من أبواب الذبح عدّة روايات ترتبط بمقامنا - يعني أنه يعتبر الثني في كذا وكذا والجذع في كذا - ولعلّه يذكر عشر روايات أو أكثر ، بيد أنه إذا لاحظنا الروايات المذكورة فقد يصعب تحصيل ما يشفي الغليل فالدلالة ربما تكون ضعيفة كما سوف نلاحظ ، ولعل أهم الروايات في الباب المذكور ثنتان أو ثلاث:-
 الرواية الأولى:- والتي تمسك بها جمعٌ من الأصحاب كصاحب المدارك(قده) [1] وصاحب الجواهر(قده) [2] وغيرهما وهي صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه السلام عن علي عليه السلام كان يقول:- ( الثِنِيَّة من الإبل والثِنِيَّة من البقر والثِنِيَّة من المعز والجَذَعة من الضأن ) [3] ولم يذكر تقريب لدلالة الرواية المذكورة ولعل ذلك لشدّة وضوح دلالتها وذلك بأن يقال:- إنها دلت على أن ( الثني من الإبل ) يعني أنه يعتبر في حق الإبل الثني وهذا واضح ولا يحتاج إلى تقريب وهكذا في البقر وهكذا الباقي . إذن حيث أن الدلالة واضحة فبهذا الاعتبار لم تحتج إلى ذكر تقريب.
 بيد أنه يمكن أن نشكل بالإشكالين التاليين:-
 الاشكال الأوّل:- إن هذه الصحيحة لم تذكر أن الثِنِيّ معتبر في الإبل في باب الهدي - يعني أن التقييد باب الهدي ليس مذكوراً - فلعل ذلك في بابٍ آخر غير باب الهدي أعني مثل باب الزكاة أو في باب الأضحية أو في بابٍ آخر فإنه لم يخصّص الهدي بالذكر ومعه تعود الرواية المذكورة مجملة لا يمكن التمسك بها إذ لا نجزم بورودها في باب الهدي ولعلها واردة في بابٍ آخر.
 إن قلت:- إنه في باب الزكاة مثلاً لم يقل أحدٌ إنه يعتبر في الإبل أو في البقر أن يكون ثِنِيّاً ... وهكذا ومادام لم يقل ذلك من قبل الفقهاء فهذا قرينة على تعيّن إرادة باب الهدي فتحمل هذه الصحيحة على باب الهدي من جهة القرينة المذكورة.
 قلت:- من أين لك هذه الكبرى وأنه إذا لم يقل أحد الأصحاب بثبوت هذه في باب آخر فإذن يتعين إرادة باب الهدي ؟! فلعل الرواية تقصد ذلك غايته يكون مضموناً مهجوراً بين الأصحاب وما أكثر الروايات التي يكون مضمونها مهجوراً بين الأصحاب . إذن تطبيق هذه الكبرى مشكل في مقامنا أو في سائر المقامات.
 إن قلت:- لم لا نتمسك بفكرة الاطلاق بأن نقول إن الرواية مطلقة ولم تقيّد ببابٍ دون باب فلنأخذ بها بعرضها العريض وبإطلاقها الوسيع ومن جملة ذلك باب الهدي فيثبت بذلك الطلوب.
 قلت:- إن هناك قضيّة كان يجدر بحثها في باب الإطلاق وليس ببالي أنها مبحوثة وهي أنه إذا ذكرت قضيّة كمبتدأ بلا خبر أو كخبرٍ بلا مبتدأ ففي مثل ذلك تارةً يكون تقدير ذلك المبتدأ أو الخبر المحذوف واضحاً بحيث حينما يلقى إلى العرف يفهم ذلك ولا يحتمل غيره وفي مثل ذلك يكون ذلك المقدر بحكم المذكور وبالتالي يلزمنا أن نلاحظ ذلك المقدّر فإذا فرضنا وجود إطلاق على ضوء ذلك المقدر أخذنا به وإذا لم يكن لم يكن ولا توجد مشكلة في هذه الحالة ، وأما إذا فرضنا أن ذلك المقدّر لم يكن واضحاً وكانت فيه احتمالات متعدّدة وكما نحتمل أن ذلك المقدّر هو كل ما يصلح تقديره ولا يختص بشيءٍ معيّن كذلك نحتمل أن المراد حصّة خاصة من المقدر فإنه في مثل هذه الحالة هل ينعقد إطلاقٌ وهل السيرة جارية على الأخذ بالإطلاق ؟ ومقامنا من هذا القبيل فإنه يوجد مقدر حتماً إذ الجملة المذكورة ناقصة جزماً أما ما هو ذلك المقدر ؟ فنحتمل أن ذلك المقدر كان واضحاً لدى الأوساط ولأجل وضوحه عندهم لم تكن هناك حاجة إلى نقله وهو باب الأضحية أو باب الزكاة أو باب الهدي مثلاً فكما يحتمل هذا يحتمل ذاك أو ذاك وفي مثل هذه الحالة لا نجزم بأن السيرة - التي مدرك حجيّة الإطلاق - قد جرت على الحكم بالإطلاق مادام هناك مقدّر لا نعرفه ، والحكم في مثل هذه الحالة بكون المقدّر هو الجميع هو أول الكلام ودعوى بلا شاهد فإن هذه الجملة حتماً لم تصدر منه عليه السلام بهذا الشكل وبهذا المقدار فإنها ناقصة لا يصح السكوت عليها ولا يصح التلفظ بها فلابد من وجود مقدَّر ففي مثل هذه الحالة حيث أن المقدّر مجهول فلا نجزم بانعقاد بناءٍ عقلائيٍّ في أن المقدّر هو الجميع - أي جميع ما يصلح تقديره - حتى يشمل مثل الهدير. إذن اشكالنا الأوّل على هذه الرواية هو أنها مجملة ولا ندري هل هي واردة في باب الهدي أو هي واردة في بابٍ آخر بعد قصور الإطلاق عن التمسك به في المقام.
 الاشكال الثاني:- لو سلمنا أنها واردة في باب الهدي ولكن نقول لا دلالة فيها على اللزوم وأنه يلزم الثِنِيّ في الإبل ولعل المقصود أنه يرجح ويستحسن الثِنِيّ في الإبل ، إن هذا محتمل إذ أن ذلك الشيء المحذوف المقدّر ليس بمذكورٍ وليس موجوداً حتى نعرفه ولعله - بعد أن سلمنا أنها واردة في باب الهدي وأن الثني من الإبل هو في باب الهدي - ولكن كلمة ( يلزم ) غير موجودة فلعل المقدّر هو كلمة ( يرجح ) أو ( من المفضل ) . إذن لا يمكن أن نستفيد من الرواية المذكورة اللزوم.
 وخلاصة الاشكالين:- إن ورود الرواية في باب الهدي غير معلومٍ ، وعلى تقدير ورودها في ذلك تكون إرادة اللزوم منها دون الرجحان شيءٌ غير معلوم.
 الرواية الثانية:- صحيحة بن سنان:- ( سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:- يجزئ من الضأن الجذع ولا يجزي من المعز إلا الثني ) [4] ، وعلى منوالها صحيحة حماد بن عثمان:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام:- أدنى ما يجزي من أسنان الغنم في الهدي ؟ فقال:- الجذع من الضأن ، قلت:- فالمعز؟ قال:- لا يجوز الجَذَع في المعز ) [5] .
 وهاتان الروايتان لا تدلان على تمام المطلوب إذ غاية ما يستفاد منهما هو أن الضأن يجزي منه الجَذَع والمعز لا يجزي منه إلا الثِنِيّ وهي ساكتة عن الإبل والبقر فلم تدلّ على أنه لا يجزي فيهما إلا الثِنِيّ ، اللهم أن نتمسك بعدم الفصل بمعنى أن الفقهاء لم يفصِّلوا بين المعز وبين الإبل والبقر فإذا تمَّ هذا الكلام فبها وإلّا فتصير هذ الرواية ناقصة الدلالة.
 وقد يشكل ويقال:- إنها بالنسبة إلى الضأن قالت:- ( يجزي من الضأن الجَذَع ) ولم تقُل بأن غيره لا يكفي - يعني الأقل أن منه لا يكفي - وعلى هذا الأساس تكون دلالتها بالنسبة إلى الضأن ضعيفة إذ لا تدلّ على تعيّن الجَذَع بالنسبة إلى الضأن وإنما غاية ما تدّل عليه هو أنه يجزي واجزاؤه لا ينفي إجزاء الأقل منه أيضاً ؟!
 وجوابه:-
 أولاً:- إن كلمة ( يجزي ) حينما تستعمل يفهم منها عرفاً الإشارة إلى المرتبة الأقل والأدنى فإنها لا تستعمل إلا إلى إرادة ذلك - يعني أقل ما يكفي -.
 وثانياً:- إنه في الرواية الثانية - أعني رواية حماد - ورد التصريح بذلك حيث قال:- ( سألت أبا عبد الله أدنى ما يجزي من أسنان الغنم في الهدي ؟ فقال:- الجذع من الضأن ) فالسؤال هنا سؤالٌ عن أدنى ما يجزي ، وبهذا يكون الاشكال ضعيفٌ.
 والخلاصة من كل ما ذكرنا:- إن دلالة الروايات المذكورة على تمام المطلوب لا يخلو من هنٍ وهن ولعله لأجل هذا قال صاحب المدارك(قده):- ( والتعويل على ذلك كلّه مشكل ..... والأمر في هذه المسألة ملتَبَس ، وطريق الاحتياط واضح ) [6] .
 وبعد اتضاح هذا نقول:- إن فرض أن دلالة الروايات تامّة فبها ونعمت ، وأما إذا فرض أنها لم تتم فلعل الطريق الذي كنّا نسلكه أكثر من مرّة يمكن تطبيقه هنا أيضاً وذلك بأن نقول إن المسألة عامة البلوى - إذ الابتلاء بالهدي في الحج عام البلوى - فلا بد وأن يكون حكمها واضحاً ولا يحتمل أن ذلك الحكم الواضح هو شيء آخر غير ما اتفق عليه الأصحاب وغير ما أشارت إليه الروايات فإن الروايات عبّرت بالثِنِيّ في الإبل والبقر والمعز وعُبِّر بالجَذَع في الضأن ولكن الدلالة على اللزوم وفي باب الهدي كانت قاصرة فيمكن أن يقال إنه بعد شدّة الابتلاء بالمسألة ولزوم كون الحكم فيها واضحاً فيتعين أن يكون ذلك الحكم الواضح هو ما عليه الفقهاء وما لمّحت إليه الروايات ولا يحتمل أنه شيءٌ غير ذلك ولكن الفقهاء اتفقوا على شيءٍ عكسيّ والروايات أشارت إلى شيءٍ معاكسٍ إنه شيء غير محتمل وبالتالي يحصل الاطمئنان بأن ذلك الحكم الواضح هو ما عليه الفقهاء.


[1] مدارك الأحكام، الموسوي العاملي، ج8، ص29.
[2] جواهر الكلام، حسن الجواهري، ج19، ص136.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص103 ، ب11، من أبواب الذبح، ح1، آل البيت.
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص103 ، ب11، من أبواب الذبح، ح2، آل البيت.
[5] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص103 ، ب11، من أبواب الذبح، ح4، آل البيت.
[6] مدارك الأحكام، الموسوي العاملي، ج8، ص30.