26-01-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/01/26

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:- الحلق والتقصير / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
هذا ويمكن أن يقال:- إن المشكلة في إجراء البراءة ليس هو فقط ما أشرنا إليه - أعني أنه كيف نثبت إباحة محرّمات الاحرام والحال أن الحالة السابقة لها هي الحرمة -  بل هناك مشكلة أخرى وهي أن البراءة في حدّ نفسها لا تجري والمورد ليس من موارد البراءة وذلك باعتبار أن الحالة السابقة للتقصير هي الحرمة فإن المكلف بمجرد أن أحرم حرم عليه إزالة الشعر الذي من مصاديقه الحلق ومن مصاديقه أيضاً التقصير أما الحلق فنجزم بارتفاع حرمته حينما يأتي المكلف بالرمي والذبح فإنه يجوز له جزماً بلا حاجة إلى براءة وأما بالنسبة إلى التقصير فنشك في جوازه له والاستصحاب يقتضي بقاءه على الحرمة فلا تصل النوبة آنذاك إلى البراءة فإن مورد البراءة ينحصر بما إذا فرض أن الحالة السابقة لم يمكن استصحابها كما إذا فرض أنا شككنا أن التدخين حرام أو لا فأصل البراءة يجري ولا يوجد استصحابٌ يثبت الحرمة فإن الحالة السابقة ليست هي الحرمة حتى يكون الاستصحاب مقدّماً على البراءة ، وهكذا لو شككنا في جزئية السورة للصلاة أو وجوب جلسة الاستراحة فإنه يصح أن نجري البراءة ولا يوجد استصحاب يقتضي لزوم ذلك - أي السورة أو جلسة الاستراحة - وهذا بخلافه في موردنا فإن الحالة السابقة للتقصير هي الحرمة ويشك الحاج بعد أن يرمي ويذبح أن التقصير جائزٌ له أو لا بعد الفراغ عن جواز الحلق له فلا معنى لإجراء البراءة بعد وجود الاستصحاب ، وهذا مطلب كليّ ينبغي الالتفات إليه في الموارد المختلفة ومحصلّه إن البراءة إنما تجري في موارد الشك في التكليف فيما إذا لم تكن الحالة السابقة معلومة وإلا كان الاستصحاب هو الجاري دون البراءة . وهناك كلام أن الاستصحاب يتقدّم على البراءة حتى إذا كان موافقاً بحسب النتيجة يعني أن الحالة السابقة هي البراءة وعدم التكليف فحينئذٍ هل هنا أيضاً تصل النوبة إلى البراءة أو أن الاستصحاب يكون حاكماً ومقدّماً أو يختص جريانه بما إذا كان مخالفاً كما في مقامنا فإن الاستصحاب يقتضي بقاء الحرمة للتقصير والبراءة تقتضي الإباحة والجواز ولكن على أيّ حال في مورد المخالفة كما هو في المقام يتقدّم جريان الاستصحاب على البراءة . هذا تتمة للمطلب المتقدم هذا كلّه في حج غير الصرورة.
وأما حج الصرورة فهل يتعيّن فيه الحلق أو يجوز فيه التقصير أيضاً ؟
والجواب:- المعروف هو التخيير أيضاً وقد اختار المحقق الحلي(قده) ذلك ، وعلق في المدارك بقوله:- ( ما اختاره المصنّف من التخيير مطلقاً هو المشهور بين الأصحاب . وذهب الشيخ في جملة من كتبه وجماعة آخرون إلى تعيّن الحلق في حقّه )[1]. إذن نتمكن أن نقول إن الرأي المعروف والمشهور هو التخيير ولكن كيف نستدلّ عليه بعد أن عرفنا أن الأصل - أي أصل البراءة - لا يمكن التمسك به لكون المورد من موارد الاستصحاب بالبيان المتقدّم ؟
والكلام تارةً يقع في أنه هل يوجد ما يدلّ على التخيير في حقّ الصرورة ونقصد بذلك الآية الكريمة التي هي أبرز ما يمكن التمسك به في المقام فإنه قد يتمسك بها - وهي آية سورة الفتح - لإثبات التخيير وأخرى يقع الكلام في أنه لو كان هناك ما يدلّ على التخيير فهل يوجد ما يدلّ على الاحتمال المعاكس - يعني تعيّن الحلق - كي تحصل المعارضة ؟
أما الآية الكريمة:- وأعني بذلك قوله تعالى:- ﴿ لتدخلنَّ المسجد الحرام إنشاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم ومقصّرين ﴾[2] ، وقد يتمسّك بها لإثبات التخيير ببيانين:-
البيان الأول:- ما ذكره العلامة(قده) في المختلف حيث قال ما نصّه:- ( لنا قوله تعالى " لتدخلنَّ المسجد الحرام إنشاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم ومقصّرين " وليس المراد الجمع بل إما التخيير أو التفصيل والثاني بعيد وإلا لزم الإجمال فتعيّن الأول )[3].
ومقصوده(قده) إن الآية ذكرت أنكم سوف تدخلون المسجد الحرام أيها المسلمون مقصّرين ومحلّقين ولكن ما المقصود من ذلك ؟ إنه يوجد احتمالات ثلاثة فإما أن يكون المقصود هو الجمع - يعني مقصّر وحالق - وهذا ليس مراداً جزماً إما لعدم إمكانه أو لأجل أنه حتى لو أمكن أن يقصّر من لحيته مثلاً ويحلق رأسه ولكنّه ليس بواجبٍ جزماً و ليس بمرادٍ جزماً فهذا الاحتمال باطل ، أو يكون المقصود هو التفصيل وهو أن الصرورة يدخل هو حالق وغير الصرورة يجوز له أن يدخل وهو مقصّر ومن المعلوم أن هذا التفصيل يحتاج إلى بيانٍ والآية الكريمة لم تذكر ذلك فيلزم الاجمال فإذن هذا الاحتمال باطل بعدما كان محتاجا إلى البيان فيتعيّن بذلك الاحتمال الثلاث وهو أن يكون المقصود هو التخيير يعني سوف تدخلون كذلك إشارة إلى أنكم مخيّرون بين أن تقصّروا وبين أن تحلقوا فبعضكم يفعل الحلق وبعضكم يفعل التقصير فيثبت بذلك المطلوب.
وفيه:- إن ما ذكر يلزم لو كانت الآية الكريمة ناظرة مباشرة وابتداءً إلى الحكم الشرعي وأن الحكم هو التقصير أو الحلق فتأتي مسألة الإجمال وأنه إذا كان المقصود التفصيل يلزم الإجمال في بيان الحكم الشرعي وهو لا يليق بالمشرّع وهو يريد أن يبيّن الحكم الشرعي ، ولكن يمكن أن يقول إن الآية هي بصدد الإخبار فإنّها تخبر المسلمين بأنكم حينما مُنِعتُم في عام الحديبية من دخول مكة فلا تتأذوا ولكنّكم سوف تدخلون كذلك في المستقبل يعني البعض حالق والبعض مقصّر . نعم لازم هذا الإخبار ثبوت حكمٍ شرعيّ فالإجمال الذي يلزم ليس فيما أخبرت عنه وإنما هو في لازم ما أخبرت عنه والإجمال في لازم المخبَر عنه ليس شيئاً بعيداً ، نعم لو كانت الآية ابتداءً تريد أن تبيّن الحكم الشرعي فنعم لا يناسب آنذاك الاجمال أما بعدما كانت هي إخبار عن واقعةٍ تقع في المستقبل ولازم تلك الواقعة هو الحكم الشرعي فلا محذور حينئذٍ في الإجمال.
البيان الثاني:- ما ذكره السيد الخوئي(قده) في المعتمد[4] وحاصله:- إن الآية الكريمة تشير إلى أن المسلمين سوف يدخلون المسجد الحرام وبعضهم حالقٌ وبعضهم مقصّرٌ وهي تقصد الإشارة إلى الدخول الأوّل للمسجد الحرام وللكعبة الشريفة فأوّل دخولٍ تدخلونه أيها المسلمون يكون بعضكم حالقاً وبعضكم مقصّراً ، ثم نضيف إليه شيئاً آخر وهو أن الدخول الأوّل بهذا الشكل لا يتصوّر إلا في حجّ التمتع لأن في عمرة التمتع حينما يدخلون فيها يدخل المكلف ليس بحالقٍ وليس بمقصّرٍ وإنما يحرم من الميقات ثم يدخل المسجد الحرام حتى يطوف ويصلّي ويسعى ثم يقصّر فالدخول الاوّل هو ليس بمقصّر ولا حالق والتقصير يصير بعد الدخول ، وهكذا في حج الإفراد والقران فإنه في البداية حينما يأتي فهو يدخل المسجد الحرام وهو ليس بحالقٍ وليس بمقصّرٍ وإنما يصير بعد ذلك في اليوم العاشر ، وأما العمرة المفردة فأمرها أيضاً كذلك فهو يدخل المسجد الحرام ليس بمقصّرٍ وليس بحالقٍ وإنما يكون مقصّراً بعد ذلك . إذن إذا كانت الآية الكريمة تشير إلى الدخول الأوّل بهذه الهيئة والمفروض أن الدخول الأوّل لا يكون كذلك إلا في حقّ المتمتع ، ثم نضيف إلى ذلك شيئاً ثالثاً وهو أن الآية ناظرة إلى حجّ التمتع الصرورة ، ولماذا ؟ لأن محلّ كلامنا هو هنا والوجه في ذلك هو أن المسلمين لم يحجّوا سابقاً وإنما هي هذه الحجّة التي حجّوها مع النبي صلى الله عليه وآله المعبّر عنها بحجة الوداع . إذن الغالب فيهم هو حجّ الصرورة وقد أخبرت الآية الكريمة بالتخيير بين كونهم مقصّرين وحالقين فيثبت بذلك أن الصرورة في حجّ التمتع هو مخيّر بين الأمرين . هذا حاصل ما أفاده(قده) وهو يرتكز على مقدمات ثلاثة الأولى إن الآية الكريمة تقصد الإشارة إلى الدخول الأوّل للمسلمين في البيت الحرام وأنه في دخولهم الأوّل يكونون بهذه الحالة ، والمقدمة الثانية هي أن الدخول بهذه الحالة لا يتصوّر إلا في حجّ التمتع ، والمقدمة الثالثة هي أن حجّ المسلمين كلّاً أو جُلّاً كان حجّ صرورة فيثبت بذلك أن الصرورة في حجّ التمتع مخيّر بين الأمرين وهو المطلوب.
هذا ولعلّ المعروف بين المفسّرين حمل الآية الكريمة على عمرة القضاء بمعنى أن المسلمين حينما منعوا من الدخول والنبي صلى الله عليه وآله كان قد أخبرهم بأنهم سوف يدخلون والحال أنهم مُنِعوا ولم يدخلوا في عام الحديبية فتألموا أو حصل لهم إشكالٌ وشبهةٌ بأنه كيف تخبرنا بأنا سوف ندخل البيت الحرام محلّقين ومقصّرين والحال أنّا مُنِعنا من ذلك ؟! فحينئذٍ جاء الجواب بأنه أنا لم أقل لكم أنكم تدخلونه في هذا العام - أي عام الحديبية – بل قلت سوف تدخلون وإنما أطلقت وقلت ( لتدخلنَّ ) وهذا مطلقٌ فإذن هذا يمكن أن يكون في السنة التالية التي تحققت فيها عمرة القضاء بعد عام الحديبية فأطلق على العمرة التي أتي بها بعمرة القضاء فالمفسرون يحملون الآية الكريمة على عمرة القضاء وإذا حملوها عليها فسوف لا ننتفع بها لأن غاية ما تدلّ عليه هو التخيير في العمرة المفردة ونحن نريد أن نثبت التخيير في حجّ الصرورة فلذلك بذل(قده) عنايةً لإثبات أن الآية الكريمة ناظرة إلى حجّ التمتع وليس إلى العمرة المفردة والعناية التي بذلها هي المقدّمة الأولى يعني في المقدمة الأولى ادعى بأن الآية الكريمة ناظرة إلى أوّل دخولٍ إلى المسجد الحرام وأنهم يدخلون بهذه الحالة وأوّل دخولٍ بهذه الحالة لا يُتصّور في العمرة المفردة ويتعيّن أن يكون في حجّ التمتع . إذن بهذا البيان من خلال المقدمة الأولى اندفع ما ذكره المفسرون.