39/08/11


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/08/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 51 ) - المكاسب المحرّمة.

وربما يحوّل هذا إلى قضية علمية لا فقط قضية جانبية فنية إذ ربما يقال:- لعل هناك مقصوداً آخر يتلاءم مع الارتباط ، فيبقى مدلول ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ غير محرز ، وبالتالي لا يمكن التمسّك به ، فتتحوّل هذه القضية الجانبية بهذا البيان إلى قضية علمية.

يمكن أن يجاب ويقال في هذا المقام:- إنَّ العقد لغةً عبارة أخرى عن التعهّد ، فكل تعهّد هو عبارة أخرى عن العقد - وهذا ما سوف نثبته إن شاء الله تعالى بعد قليل والمقدار الذي نحتاج إليه إلى الآن هو أنَّ العقد عبارة عن العهد - فإذا ثبت هذا نقول: إنَّ الشخص حينما يتشهد الشهادتين ويسلّم فهذا معناه إني اتعهّد بدين الاسلام وقبوله وقبول جميع قوانينه وأحكامه وتعاليمه ، فالمقصود هو هذا ضمناً ، وإلا فليس فقط هو يؤمن بأنَّ يشهد بـ( ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ) ولكنه لا يؤمن بأحكام الاسلام ، كلا فإنَّ أحكام الاسلام جزء من تعهّده إذا أسلم ، فإذا قبلنا بهذا حينئذٍ نقول إنَّ الآية الكريمة تريد أن تقول إنَّ من جملة قوانين الاسلام التي لابد أن يكون تعهدكم شامل لها هي ﴿ أحلّت لكم بهيمة الأنعام ﴾ يعني جميع الحيوانات إلا ما خرج بالدليل ﴿ إلا ما يتلى عليكم ﴾ ، فهذا قانون لابد وأن تلتزموا به ، ولماذا هذا التشديد فهل هذه قضية مهمة حتى تؤكد عليها الآية الكريمة ؟ إنَّ هذه قضية ثانية ، لأنه يظهر أن جماعة لم يقبلوا بذلك بل حرّموا على أنفسهم بعض الحيوانات فالآية الكريمة جاءت لتقول ليس لكم الحق في أن تحرموا على نفسكم إلا ما حرّمه القرآن فقط - ﴿ إلا ما يتلى عليكم ﴾ - ، وعلى هذا الأساس يصير الربط واضحاً ومتلائماً وبيّناً بين ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ وبين ﴿ أحلّت لكم بهيمة الأنعام ﴾.

ولكن من قال إنَّ العقد عبارة عن التعهد ؟يمكن اثبات ذلك بطريقين:-

الطريق الأوّل:- التمسّك برواية ابن سنان المتقدّمة حيث فسّر الامام العقود بالعهود ، بيد أنَّ المشكلة التي تواجهنا في هذه الرواية هي ضعف السند ، ببيان: أنَّ العياشي حينما رواها فقد رواها عن عبد الله بن سنان ، فإذن هناك ارسال في السند ، هكذا ذكرنا فيما سبق.

ونستدرك الآن نقول:- صحيح أنها برواية العياشي تشتمل على ارسال ولكن رواها العياشي أيضاً بشكل آخر هكذا ( عن النضر بن سويد عن بعض اصحانا عن عبد الله بن سنان )[1] ، فإذن هو ذكر سنداً لها لا أنه رواها مباشرة عن عبد الله بن سنان حتى يقال إنَّ فيها ارسال.

ولكن هذا لا ينفعنا من جهتين:- من جهة أنه ورد في السند تعبير ( عن بعض أصحابنا ) ، ومن جهة أنه من البعيد أن يروي العياشي مباشرة عن النضر بن سويد فإن يوجد ارسال من ناحيتين ، فإذن لابد وأن نفكر في محاولة أخرى لعلنا نحصل على طريق معتبر.

وقد روى القمي هذه الرواية في تفسيره بهذا السند في بداية سورة المائدة حيث قال:- ( حدثني أبي عن النظر بن سويد عن عبد الله بن سنان )[2] ، فإذن هذا طريق معتبر ، فإنَّ القمّي ثقة وكذلك أبيه إبراهيم بن هاشم فإنه لا توقف من ناحيته ولو لكثرة رواية ولده عنه ، ( عن النظر بن سويد عن عبد الله بن سنان ) ، وقد يقال إنَّ هذا سند معتبر ولا مشكلة فيه ، ولكن هناك شيء وهو أنَّه من قال إنَّ هذه الرواية موجودة في تفسير القمي ؟ ، فإذا كانت موجودة في تفسيره فهي مقبولة ولكن وليس التفسير المطبوع الآن وإنما تفسير القمّي الصحيح ، وكيف نثبت تفسير القمّي الصحيح ؟ ذلك كما إذا فرض أنَّ صاحب الوسائل روى الرواية من تفسير القمّي ، لأنَّ صاحب الوسائل له طريق معتبر إلى القمّي يذكره في آخر الوسائل ، فعلى هذا الأساس مادام لصاحب الوسائل طريق معتبر إليه وهو ينقل الرواية فلا مشكلة حينئذٍ ، ولكن المفرض أنَّ صاحب الوسائل لم ينقل هذه الرواية عن تفسير القمّي ، فإذن كيف نثبت أنه قد رواها القمّي بعد فرض أنها موجودة في هذا التفسير المتداول لا أكثر ، ومجرّد الطباعة لا تكفي إلا إذا ثبت هناك طريق معتبر ، خصوصاً إذا راجعنا تفسير القمّي وجدنا فيه أنه يقول ( رجع الحديث إلى علي بن إبراهيم ) ، ( عود إلى علي بن ابراهيم ) ، ومن هذا القبيل ، وهذا معناه أنه يشتمل على شيء آخر ، وقد ذكرنا في كتاب دروس تمهيدية في القواعد الرجالية مواضع متعددة هو يشير فيها لذلك بكلمة ( عود ) أو ( رجوع ) ومن هذا القبيل وهذا معناه أنه يشتمل على غيره ، فمادام يشتمل على غيره فنحتمل في كل مورد أنها من غير القمّي ، وهذا الاحتمال موجود ، اللهم إلا إذا فرض أنه يوجد طريق معتبر إلى القمي كصاحب الوسائل[3] ، فعلى هذا الأساس نحتمل أنَّ هذا من الزيادة فلا مثبت أنَّ هذا الكلام من القمي.

إن قلت:- المفروض أن التعبير هكذا ( حدثني أبي عن النضر بن سويد عن عبد الله بن سنان ) فهذا واضح أنه من كلام القمّي ولا كلام فيه ؟

قلت:- مادام هو خليطاً فنحتمل أنَّ الذي خلط ويتكلّم قد وضع هذه العبارة ودسّها أو غير ذلك ، فتنفتح علينا أبواب غير صحيحة ، فإذن الأمر مشكل من هذه الناحية.

نعم يبقى بصيص أمل إذا قبلت به فبها:- وهو أنَّ تعدد النقل مع وحدة المضمون والتعبير- لأنَّ العياشي ينقلها مرتين وأيضاً هي موجودة في تفسير القمّي - قد يورث الاطمئنان للفقيه ، ولا يبعد ذلك ، وعليه فيمكن قبول الرواية على أساسه.

هذا كلّه في الطريق الأوّل في اثبات أنَّ المقصود من العقود هو العهود.

الطريق الثاني:- أن يقال: إنَّ العقد عرفاً معناه العهد ولا نحتاج إلى رواية فإنه إذا وقع تصادم بين عشريتين فيجلس ممثل عن هذه العشيرة وممثل عن تلك العشيرة وهذا يعطي تعهداً بشيء وذاك يعطي تعهداً بشيء فنقول آنذاك قد تعاهدا ، وهذا الاطلاق صحيح ، وكذلك الحال بيني وبينك ، فأنا لو تعهّدت لك بشيء وأنت تعهّد لي بشيء فيقال إنه قد تعاقدنا على هذه القضية ، فالتعاقد لغة وعرفاً هو كذلك بلا حاجة إلى رواية ، فعلى هذا الأساس ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ يعني أوفوا بالعهود لأنه هو المعنى العرفي بلا حاجة إلى وراية ، وبهذا تنحلّ المشكلة.

هذا كلّه بالنسبة إلى القضية الجانبية التي أردنا الاشارة إليها.

الدليل الخامس:- حديث السلطنة وهو:- ( الناس مسلطون على أموالهم ) وتقريب الدلالة واضح ، فإنَّ الأنسان مسلّط على ماله كما يشاء ومن أحد أفراد السلطنة على المال أن يبيع ماله بالمعاطاة ، هذا هو التقرب بالبدائي للتمسّك بالحديث.

والكلام تارة يقع في الدلالة وأخرى في السند:-

أما دلالة:- فالمذكور في كلمات الأعلام أربعة احتمالات:-

الأول:- ما ذهب إليه السيد اليزدي(قده) في حاشيته على المكاسب[4] وحاصله:- إنَّ الحديث يثبت السلطنة بلحاظ الكمّ وبلحاظ الكيف ، يعني أنت مسلط بالبيع وبالإجارة وبالحوالة وبغير ذلك ، هذا كمّاً ، وكيفاً أي بالعقد أو بالمعاطاة.

والمهم أننا نريد التعميم كيفاً ، فهو عمّم الحديث لجميع أنحاء التصرّفات من حيث الكم والكيف ، وقد تقول: ما هو مستنده ؟ إنَّ مستنده واضح ، وهو أنَّ حديث ( الناس مسلطون على أموالهم ) مطلقٌ فلو أُخِذ بعرضه العريض فهكذا سوف تصير النتيجة.

الثاني:- ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(قده)[5] من أنَّ الحديث ناظر إلى العموم من حيث الكمّ دون الكيف ، فهو يريد أن يقول إنَّ لك الحق في أن تبيع أو تؤجر أو تهدي مالك ولكنه ليس ناظراً إلى الكيف أنه يكون بهذا الشكل أو بذاك الشكل .

ولعلّه يقول:- إنَّ الدليل على ذلك هو إنَّ ظاهره هو هذا المقدار أما ما زاد فهو ليس بواضح.

الثالث:- ما ذهب إليه الشيخ الخراساني(قده) في حاشيه على المكاسب[6] حيث قال: إنَّ الحديث ليس ناظراً لا إلى العموم من حيث الكمّ ولا إلى العموم من حيث الكيف وإنما يريد أن يقول كل تصرّف مشروع في الاسلام للمكلف الحق الأخذ به وتطبيقه من دون حاجة إلى رضا الغير واجازته ، كما لو كان شخص عنده دار وسيارة وأراد أن يوزعها بين أولاده فأعطى السيارة لولده الكبير والدار يعطيها لولده الأصغر فلو لم يقبل أبناءه البقية فهذا لا اعتبار له فإنَّ الناس مسلّطون على أموالهم فالترف المشروع في حدّ نفسه لا يتوقف على كسب الاجازة والرضا من الغير ، وكالمرأة تريد أن تنذر من أموالها فهي ملطة على أموالها ولا يحقّ للزوج منعها إلا إذا جاءنا دليل تعبّدي فهذه قضية ثانية ، فإذن الحديث ناظر إلى هذا المعنى[7] .

الرابع:- ما ذهب إلي الحاج ميرزا علي الايرواني(قده)[8] وحاصله:- إنَّ كل تصرف لك حق لكن مادام الاضافة إليك موجود محفوظة ، أما إذا كانت الاضافة تزول بالتصرّف كأن يبيع الدار أو يهديها فهنا لا يشمله الحديث لأنَّ الحديث يقول ( الناس مسلّطون على أموالهم ) فالإضافة لابد وأن تكون دائماً محفوظة وموجودة ، فكل تصرّف الاضافة معه محفوظة وموجودة كما لو أردت أن أنقل مالي من هذا المكان إلى ذاك المكان أو أريد أن ادعوا جماعة عليه فهذا كلّه مالي ، فالتصرفات التي تكون الاضافة معها محفوظة هي تجوز أما التي لا تحفظ معها الاضافة فهذه ليست مشموله للحديث والدليل على هذا واضح فإنَّ الحديث يقول ( الناس مسلّطون على أموالهم ) فلابد أن تكون هذه أموالهم.

والنافع لنا من هذه الاحتمالات هو الأوّل كما هو واضح ، وهو إذا كان المقصود كمّاً وكيفاً ، لذلك لا ينفعنا احتمال الشيخ الأنصاري(قده) لأنه لا يوجد فيه ( وكيفاً ) ، فإذن النافع هو الاحتمال الأول ، فإن استظهرناه فبها ونعمت ، وإذا لم نستظهره وتردّد الأمر بينه وبين غيره فيصير مجملاً فيسقط الحديث عن الصلاحية عن الاستدلال.

[3] بناء على أنَّ اجازة صاحب الوسائل ليست تبركية وإنما هي على النسخة.
[4] الحاشية على المكاسب، السيد اليزدي، ص76.
[6] الحاشية على المكاسب، الآخوند الخراساني، ص12.
[7] ونذكر قضية جانبية:- وهي أنَّ الأب وإن كان يجوز له أن يفعل هكذا بأن يعطي الدار لابنه من الزوجة الأولى مثلاً أما ولده من زوجته الأخرى يعطيه شيئاً جزئياً ولكنه ليس من المناسب، لأنه سوف يثير أحقاداً بين الطرفين نحن في غنًى عنها، ولعله يحصل على إثم لأنه صار سبباً لهذه المشكلة وهذه قضيّة لابد من الالتفات إليها فهو جائز ولكن ليس معنى ذلك أن كل جائز نفعله.
[8] الحاشية عل المكاسب، الميرزا علي الايرواني، ج1، ص77.