1440/06/07


تحمیل

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

40/06/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: كتاب الإعتكاف، شروطه

كان الكلام في مسألة خروج المعتكف من المسجد إختياراً لا لحاجة، وأنه هل يوجب بطلانه أو لا؛ وقلنا أن المعروف هو الأول، وظاهر إطلاق كلامهم عدم الفرق بين الخروج الكثير أو القليل، وأستدل على ذلك أولاً بأن حقيقة الإعتكاف هو البقاء واللبث في المسجد، والخروج منه ينافي حقيقته، فيبطل بذلك، وثانياً بالروايات الناهية عن الخروج، بإعتبار أن النهي عن المركب العبادي ظاهر في الإرشاد إلى الفساد والبطلان، فيفهم منه أن الخروج مانع من الإعتكاف ومفسد له كالنهي عن الكلام في الصلاة.

في مقابل ذلك قد يقال أن تلك الروايات الدالة على منافاة الخروج مع الإعتكاف يمكن تفسيرها بتفسيرين، أحدهما أن يقال أن المنافاة تنشأ من تقوّم الإعتكاف باللبث في المسجد وعدم الخروج منه، وعلى هذا التفسير يبطل الإعتكاف بالخروج. ثانيهما أن يقال أنها تنشأ من فرض وإلزام المعتكف على نفسه البقاء فيه، والشارع أمضى ما فرضه المعتكف على نفسه، ولذا يلتزم بصحة الإعتكاف ونفوذ ما فرضه على نفسه، وهذا التفسير لا يستلزم أكثر من تحريم نقضه وعدم الإلتزام بما التزم به على نفسه، فهو التزم على نفسه المكث فيحرم عليه الخروج ولا يستلزم بطلان العمل، ويكون هذا نظير المحرم بالحج كما تقدم في الدرس السابق.

وهناك مؤيدات ثلاثة للتفسير الثاني:

الأول: الأدلة الدالة على حرمة الجماع على المعتكف كما تقدم.

الثاني: لو كان الخروج يوجب بطلان الإعتكاف فلازمه كثرة الأسئلة وبالتالي الأجوبة عن ذلك، بإعتبار أن المعتكف عند الخروج منه لقضاء حاجة غالباً يخطأ ويبقى أكثر مما هو مسموح له، كما إذا خطأ في الطريق أو مكث مقداراً منه لا لقضاء حاجته أو جلس في الطريق وغيرها من الأخطاء، والحال لم يصل إلينا شيء منها إطلاقاً، هذا بخلاف ما إذا كان الخروج يوجب الحرمة التكليفية فقط، لأنها (الحرمة التكليفية) لا تستتبع شيئاً غير الإستغفار حتى تكثر الأسئلة.

الثالث: ما دل على إستثناء بعض الموارد (كالخروج لقضاء حاجة أو عيادة مريض أو تشييع جنازة وغيرها) من عدم جواز الخروج، والظاهر أن إستثناءها يكون لأجل أهمية هذه الموارد من الإعتكاف، والمناسب والمتعارف للترجيح بالأهمية هو أن تكون هذه الموارد إستثناءاً من الحرمة التكليفية لا من الحرمة الوضعية والفساد، إذ ليس من المتعارف أن نقول أنّ الخروج مبطل للإعتكاف إلا إذا كان لحاجة، كما أنه ليس من المتعارف أن نقول أن البيع الغرري باطل إلا مع الضرورة فيصح، أو أن المنافي للصلاة مناف ومبطل لها إلا في حال الضرورة فتصح، لأن الحكم الوضعي له ملاكاته الخاصة فلا معنى (أي ليس من المتعارف، وليس مقصودنا أنه محال) أن يستثنى منه حالة الضرورة.

أقول: لحل هذه المسألة المهمة لابد أن نرى وننقّح أن الإعتكاف هل يتقوّم باللبث طيلة مدة الإعتكاف أو لا.

فإذا قلنا أنه متقوم به فهذا يعني زوال حقيقة الإعتكاف بزواله. فمن لبث في المسجد ساعة فيكون ما أتى به إعتكافاً (بغض النظر عن أنه ليس إعتكافاً شرعياً)، فإذا خرج منه إنتفى إعتكافه، وإذا عاد إلى المسجد ولبث فيه فيكون إعتكافاً جديداً غير الأول ولا يكون إستمراراً لذلك. ومن يقول بهذا الإحتمال (تقوّم الإعتكاف بإستدامة اللبث) لابد أن يلزم بلوازمه وهي أن الخروج مطلقاً -والإطلاق يشمل صورة العلم والإختيار والسهو والنسيان والجهل والإكراه، بل صورة الحاجة- يكون منافياً للإعتكاف، ويحكم بإنتفائه، إلا ما دل الدليل على جواز الخروج كعنوان الحاجة. نعم، الخروج لا يكون حراماً إذا كان له مبرر شرعي.

أما إذا قلنا بأنه ليس متقوّماً بإستدامة اللبث، بل هي واجبة فيه من دون أن تكون مقوّمة له، فالخروج لا ينافي الإعتكاف، نعم هو حرام تكليفاً إلا في موارد العذر كالنسيان والإكراه وغيرهما من الصور. فالإعتكاف على هذا الإحتمال لا يبطل في جميع الصور المتقدمة إلا ما خرج بالدليل.

فمن هنا يظهر أولاً أن الإلتزام بالإحتمال الأول (تقوّم الإعتكاف بإستدامة اللبث) مع الإلتزام بعدم المبطلية في حالتي النسيان والإكراه لا يجتمعان، بل لابد من الإلتزام ببطلانه فيهما. إذ لا دليل على إستثنائهما من البطلان كما كان هناك دليل بإستثناء صورة الحاجة.

وثانياً أن الإلتزام بالإحتمال الثاني (عدم تقوّمه بإستدامة اللبث، بل هي واجبة فيه من دون أن تكون مقوّمة له) مع الإلتزام بالمبطلية في حالة الجهل -خصوصاً إذا كان عن قصور لا عن تقصير- أيضاً لا يجتمعان، بل لابد من الإلتزام بصحته فيها. لأنه لم يرد دليل على المبطلية في صورة الجهل. فكل من الإحتمالين له لوازم لابد من الإلتزام بها إلا إذا ظفرنا على دليل يمنع من الإلتزام بها.

والصحيح -والله العالم- هو الإحتمال الأول، وأن حقيقة الإعتكاف هو اللبث في المسجد طيلة فترة الإعتكاف. ولازمه بطلانه في جميع الصور السابقة إلا في صورة الحاجة للدليل الخاص فيها. المشهور والمعروف هو الفرق بين صورتي العلم والجهل حيث حكموا بالمبطلية فيهما في الخروج الإختياري، وبين صورتي النسيان والإكراه إذ قالوا بعدمها فيهما، وإستدلوا على عدم المبطلية فيهما ببعض الوجوه العامة كحديث الرفع لا بدليل خاص فيهما، وسيأتي التعرض إليها.

فهنا يطرح هذا السؤال وهو أن جواز الخروج للحاجة الذي دل الدليل الخاص عليه هل يعني أنه لا ينافي الإعتكاف، أو أنه ينافيه ولكنه مستثناة منه؟