04-08-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/08/04

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:-مسألة ( 429 ) / الواجب الثاني عشر من واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
قلت:- إنه يوجد وصفٌ قد أخذه الإمام عليه السلام عند ذكره للقاعدة وكأنه اشار إليه من باب أنّه هو العلّة لعدم ثبوت شيء على المكلف وهو وصف ( بجهالة ) حيث قال:- ( أيّ رجل ركب أمراً بجهالةٍ فلا شيء عليه )، فمن ذكر وصف ( بجهالة ) يفهم أنّ الخصوصيّة كلّ الخصوصيّة هي للجهالة أمّا أن يكون المورد هو الحج أو غيره فليس بمهمّ . فإذن نتعدّى من باب أنّ العرف يفهم عدم الخصوصيّة للمورد لأجل ذكر الوصف المذكور . نعم في مثل قاعدة التجاوز الواردة في صحيحة زرارة والتي كان مضمونها ( يا زرارة إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء ) فهنا يوجد مجال للتشكيك في إطلاقها لغير باب الصلاة إذ لم يأخذ الإمام عليه السلام وصفاً يفهم منه النكتة والعلّيّة، وهذا بخلافه في مقامنا فإنّ أخذ الوصف المذكور يفهم منه أنّ تمام النكتة هي الجهالة فيتعدّى إلى جميع موارد الجهالة.
وعلي أيّ حال هذا يؤكد ما أشرنا إليه أكثر من مرّة من أنّ باب الظهورات لا يمكن حصرها بضابطٍ منضبطٍ بل الموارد تختلف فهنا لأجل ذكر قيد الجهالة فهمنا التعميم لغير المورد . وعلى هذا الأساس ينبغي أن يدقّق في كلّ موردٍ بحسبه.
والنتيجة من كلّ هذا:- أن الجاهل والناسي لا يثبت في حقهما الكفارة.
النقطة الثالثة:- هل تجب الفدية على المعذور أو لا  ؟ كما إذا فرض أنّ الشخص قد حدث له عارض قلبيٌّ فلا يتمكن من المبيت في منى، إنّ مثل هذا هل يثبت في حقّه الشاة أو لا ؟
المناسب أن يفصّل بين ما إذا فرض أنّ العذر بلغ درجة الاضطرار وصدق عليه عنوان المضطرّ من قبيل المثال المذكور فإن هذا الشخص مضطرّ عرفاً لترك المبيت بمنى فيصدق عليه عنوان الاضطرار والمضطر ومعه يشمله حديث الرفع – أي ( رفع عن أمتي ما اضطروا إليه ) - فهو واحدٌ من التعسة المرفوع عنها الآثار، وأمّا إذا لم يكن العذر موجباً لصدق الاضطرار كما إذا فرض أنّ الشخص كان يمرِّض غيره فحينئذٍ لا يمكن التمسّك بحديث الرفع بل المناسب أن يكون إطلاق ما دلّ على ثبوت الكفارة شاملاً لمثل هذا ولا يوجد ما ينفيها عنه إلا أن يدّعى أنّ المنصرف من أدلّة ثبوت الشاة وأنّ من بات في ليالي منى في غير منى عليه شاة أو دم هو حالة عدم العذر ولا تشمل غيرها، فإذا قبلنا بهذا الانصراف فنقول بعدم ثبوت الكفارة في حقّة من جهة القصور في المقتضي، أمّا إذا أنكرنا هذا الانصراف فمن المناسب ثبوت الكفارة في حقّه، وحيث إنّ ثبوت هذا الانصراف ليس بواضحٍ فالمناسب ثبوت الكفارة في حقّه ولو على مستوى الاحتياط الوجوبي.
بقي شيء يرتبط بحديث الرفع وحاصله إنه قد يقال:- إن تطبيق حديث الرفع في مقامنا - سواء بفقرة رفع النسيان أو بفقرة ما لا يعملون أو بفقرة المضطر[1] - هو حديث رفعٍ وليس حديث إثبات ويترتب على هذا أنّه متى ما كانت نتيجة تطبيقه هي الرفع فيطبّق وأمّا متى ما كانت النتيجة هي الاثبات فلا يمكن أن يطبّق، وحينئذٍ نقول:- إذا فرض أنّ المكلف قد صدر منه فعلٌ في حالة الحج وهو لا يجوز للمحرم كأن نظر إلى المرآة غافلاً عن كونه مُحرِماً أو لاعب زوجته ناسياً عن كونه مُحرِماً فهنا لا بأس بتطبيق حديث الرفع فيصير هذا النظر إلى المرآة الذي وجِدَ كأنه ليس موجوداً فينّزل الوجود منزلة العدم فترتفع الكفّارة بالتبع أيضاً حيث إنّه لا وجود لما يوجب الكفّارة بعد تنزيله منزلة العدم، وهذا بخلافه في مقامنا فإنّ المطلوب هو المبيت بمنى يعني أنّ المطلوب هو إيجادُ فعلٍ وهو لم يحقّق هذا الفعل - أي الجاهل أو الناسي أو المضطر - فإذا أردنا أن نطبّق الحديث عليه فهذا يعني أنّ عدم المبيت منزّلٌ منزلة العدم، يعني كأنه يراد أن يقال له أنت قد بِتَّ وقد تحقّق منك المبيت ومعلومٌ أنّ حديث الرفع ليست له هذه الطاقة فهو لا يثبت المبيت، فعلى هذا الأساس لا يمكن تطبيق حديث الرفع في موردنا وما شاكله ممّا يُطلَب فيه الفعل فيما إذا فرض أنّ المكلّف لم يحقّق هذا الفعل لنسيانٍ أو جهلٍ أو غير ذلك، إنّه في مثل ذلك لا يمكن التمسّك بالحديث لأن نتيجة تطبيقه هو أن يكون هذا العدم منزلاً منزلة الفعل وبالتالي يكون كأنه قد بات وحديث الرفع لا دلالة له على الإثبات وإنما هو يدلّ على النفي دون الإثبات فلا يمكن إذن تطبيق حديث الرفع في مثل المقام.
والجواب:- إنّ حديث الرفع يقول إنّه إذا ترتّب أثرٌ على فعلٍ أو تركِ فعلٍ ولم يتحقّق ذلك الفعل لجهلٍ أو نسيانٍ أو لم يتحقّق ذلك الترك لجهلٍ أو نسيانٍ فحينئذٍ يكون ذلك الأثر مرتفعاً، فهو ناظر إلى رفع الأثر أعمّ من كون هذا الأثر مترتباً على الفعل أو على الترك، فالأثر يرتفع في حالة الخطأ أو النسيان أو غير ذلك ولا يريد أن ينزّل الفعل منزلة العدم أو بالعكس بل هو يريد أن يرفع الأثر - يعني ما يترتب على الشيء أو على عدم الشيء - فهذا الأثر المترتّب على الشيء أو عدمه هو مرفوعٌ مادام قد فُرِض وجود خطأ أو نسيانٍ أو ما شاكله وفي مقامنا يقال قد ترتّب على ترك المبيت أثرٌ وهو الشاة ومادام قد فرض أنّه لم يتحقّق المبيت لنسيانٍ أو لغيره فذلك الأثر يكون مرتفعاً من دون دلالةٍ على أنّ عدم المبيت هذا قد نُزّل منزلة المبيت، إنّه لا يراد أن يقال ذلك حتى يقال إنّ الحديث حديث نفيٍ لا إثبات . إذن تمام النظر هو إلى الأثر، وعليه فلا مشكلة من هذه الناحية.
النقطة الرابعة:- حكم الطوائف الثلاث الباقية من الطوائف المستثناة، فإنه ورد في عبارة المتن أنّ هناك أربع طوائف مستثناة الطائفة الأولى هي المعذور وهذا قد تحدثنا عنه في النقطة الثانية، والآن نريد التحدث عن بقيّة الطوائف الأربع:-
الطائفة الثانية:- من اشتغل بالعبادة في مكّة طيلة الليلة من الغروب حتى الفجر فإن مثل هذا لا كفارة عليه خلافاً لابن إدريس على ما تقدّمت الإشارة إليه فلاحظ . والوجه في عدم ثبوت الكفارة في حقّه هو دلالة بعض الروايات على ذلك مثل صحيحة معاوية المتقدّمة حيث جاء فيها:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ زار البيت فلم يزل في طوافه ودعاءه والسعي والدعاء حتى طلع الفجر فقال:- ليس عليه شيء كان في طاعة الله عز وجل ) ، ودلالتها واضحة حيث قال عليه السلام ( ليس عليه شيء ) فهي دالّة بهذه الفقرة على أنّه في هذه الحالة التي هو مشغولٌ بالعبادة والقدر المتيقن هو الانشغال من أوّل الغروب فهذه الحالة الثانية هي القدر المتيقن من هذه الرواية وقد دلّت الرواية على عدم ثبوت شيء عليه.
ويمكن التمسّك أيضاً بصحيحة صفوان المتقدّمة:- ( قال أبو الحسن عليه السلام:- سألني بعضهم عن رجلٍ بات ليالي منى بمكة فقلت لا أدري، فقلت له:- جعلت فداك ما تقول فيها، فقال عليه السلام:- عليه دم شاة إذا بات، فقلت:- عن كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه لم يكن لنوم ولا لذة اعليه مثل ما على هذا ؟ قال:- ما هذا بمنزلة هذا ).إذن هي واضحة حينما قال ( ما هذا بمنزلة هذا ) في أنّ هذا الذي اشتغل بطوافه وسعيه ليس مثل التارك للمبيت في منى من دون طاعة . إذن هذه الطائفة لا إشكال في عدم ثبوت الكفارة فيها خلافاً لابن ادريس.
الطائفة الثالثة:- من اشتغل بالعبادة ولكن ليس من أوّل الليل وإنما خرج من منى بعد دخول الليل بساعة مثلاً فذهب إلى مكة مشتغلاً بالعبادة فهو مستثنى من وجوب المبيت بمنى ولا كفّارة عليه . ولماذا لا يثبت في حقّه الكفارة بعدما فرض أنّ المقتضي لثبوت الكفارة موجودٌ وهو إطلاق ما دلّ على أنّ من لم يبِت في منى فعليه شاة ؟ فلابد وأن نذكر له مخصّصاً والمخصّص أو المقيّد هو إطلاق صحيحة معاوية المتقدّمة الواردة فيمن اشتغل من أوّل الليل بالعبادة فإنه يمكن التمسّك بإطلاقها فإن الوارد فيها:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ زار البيت فلم يزل في طوافه ودعائه والسعي والدعاء حتى طلع الفجر، قال:- ليس عليه شيء ) فالإمام عليه السلام لم يستفصل فنتمسّك بعدم استفصاله بين كون زيارة البيت والسعي هي من أوّل الغروب أو لا وهذا يدلّ على أنّه لا فرق بين أن تكون الزيارة من أوّل الغروب أو بعد ساعة أو ساعتين فإن ذلك لا يؤثر فنتمسّك بالاطلاق، وهنا في هذا الاستثناء نعبّر بالاطلاق أو عدم الاستفصال، وهذا بخلافه في الاستثناء السابق - يعني من اشتغل من أوّل الليل - فإنه لا نتمسّك بالاطلاق بل نقول إنّ القدر المتيقّن من مورد الرواية هو من اشتغل من أوّل الليل وهذا بخلافه في هذه الحالة - أي الذي جاء إلى مكّة بعد ساعة أو ساعتين من دخول الليل - فإنا نحتاج إلى التمسّك بالاطلاق أو ترك الاستفصال.
الطائفة الرابعة:- من زار البيت ولو قبل الغروب ثم أراد الخروج من مكة فقلنا يجوز له أن يخرج من مكّة سواء كان خروجه قبل الغروب أو بعده والمهمّ أنه إذا فرض أنّه لم ينم في طريق مكة وإنما خرج من مكة فإذا خرج ولبث هناك ولو من أوّل الغروب فهذا جائزٌ له وهو مستثنى من وجوب المبيت في منى . وما هو الدليل على نفي الكفارة في مثل ذلك ؟ إنّ الوجه في ذلك هو صحيحة هشام بن الحكم المتقدّمة عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( إذا زار الحاج من منى فخرج من مكّة فجاوز بيوت مكة فنام ثم أصبح قبل أن يأتي منى فلا شيء عليه ) ، وهذه الرواية بإطلاقها تشمل من زار قبل الغروب بساعة أو ساعتين وخرج من مكة إمّا قبل الغروب أو بعد الغروب أيضاً، فهي بإطلاقها تشمل كلتا الحالتين، فإذا جاوز بيوت مكة فله أن يلبث هناك وقد صرّح الإمام عليه السلام بأنّه لا شيء عليه . إذن هي دالّة على نفي وجوب الكفّارة.


[1] وكان من المناسب ذكره فيما سبق مع ( إن قلت، قلت ) المتقدمة.