جلسة 154

الكفارات

وفي الموقف إزاء هاتين الطائفتين احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأول: أنّ الطائفة الأولى صريحة في نفي وجوب القضاء، بخلاف الثانية فإنّها ظاهرة في وجوب القضاء، ومعه يأوّل الظاهر لحساب الصريح للقاعدة العرفية التي تقول: كلّما اجتمع دليلان متنافيان أحدهما صريح والآخر ظاهر أُوّل الثاني لأجل الأوّل، ومستند هذه القاعدة هو العرف، فراجع وجدانك العرفي تجد صدق ذلك.

أمّا كيف كانت الطائفة الأولى صريحة والثانية ظاهرة؟ ذلك باعتبار أنّ الأولى ورد فيها التعبير التالي: (... ليس عليه قضاء)، وهو ـ كما ترى ـ صريح في نفي وجوب القضاء وليس فيه احتمال آخر.

وأمّا أنّ الثانية ظاهرة في وجوب القضاء؛ فلأنّ التعبير الوارد فيها هو: (... على الذي أفطر صيام ذلك اليوم)، وهو ـ كما ترى ـ ليس صريحاً في وجوب القضاء؛ لاحتمال أن يكون المقصود شيئاً آخر غير وجوب القضاء، وهو استحبابه، فإنّه كما يصحّ التعبير عن الوجوب بفقرة: (عليه القضاء)، كذلك يصح التعبير عن الاستحباب بذلك، غايته أنّه ظاهر في الوجوب لا أن لا يحتمل إرادة الاستحباب منه، كما هو الحال في صيغة (أفعل) وصيغة (لا تفعل)، فإنّ الأولى ظاهرة في طلب الوجوب ولكن ذلك لا يعني عدم احتمال إرادة طلب الاستحباب، وهكذا بالنسبة لصيغة لا تفعل.

وفي المقام يمكن تأويل الطائفة الثانية وحملها على خلاف ظاهرها، ولكن لا بالحمل على استحباب القضاء ليقال إنّه بعيد بقرينة قوله ـ عليه السلام ـ: «إن الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول: (أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)[1]، فمن أكل قبل أن يدخل الليل فعليه قضاؤه؛ لأنّه أكل متعمّداً» [2]، فإنّ المناسب للأكل متعمّداً وجوب القضاء لا استحبابه، إنّه لا نحملها على استحباب القضاء، بل نحملها على معنى آخر بأن تُفَسَّر جملة: (على الذي أفطر صيام ذلك اليوم) على الإمساك بلحاظ الفترة المتبقية من ذلك اليوم، والاستشهاد بقوله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل) يتلاءم مع ذلك، فكأنّ الإمام ـ عليه السلام ـ يريد أن يقول: إنّ بقية الفترة يلزم الصيام فيها؛ لأنّ الله قد أمر بإتمام الصيام إلى الليل.

نعم، إن كان هناك شيء ينافي الحمل المذكور فهو قوله ـ عليه السلام ـ: «... فمن أكل قبل أن يدخل الليل فعليه قضاؤه؛ لأنّه أكل متعمّداً»، فإنّ هذه العبارة واضحة في وجوب القضاء، فالجملة السابقة وإن صحّ حملها على لزوم الإمساك في بقية الفترة وأمكن التخلّص منها بذلك ولكن تبقى هذه الجملة الثانية ربّما يقال هي واضحة في وجوب القضاء ولا يمكن التخلّص منها.

ولكن يمكن الجواب إمّا أن تُحمل على مَنْ أكل متعمداً في الفترة المتبقية من النهار، وكأنّ الإمام ـ عليه السلام ـ يقول: الإفطار السابق لا يضرّ وعليه الإمساك في بقية الفترة، ولكن إذا أكل متعمّداً في الفترة المذكورة فعليه آنذاك القضاء. أو تُحمل على أنّ المقصود منها بيان مطلبٍ كلّي لا يرتبط بمن أفطر للظلمة الموهمة، وكأنّه ـ عليه السلام ـ قسّم الناس إلى قسمين:

1. من أفطر للظلمة الموهمة، وهذا لا شيء عليه سوى الإمساك في بقية الفترة.

2. من أفطر متعمّداً لا للظلمة الموهمة، ومثل هذا يجب عليه القضاء؛ لأنّه أفطر متعمّداً.

هذا حاصل ما يمكن به الجمع بين الطائفتين، وقد صار إليه السيد الحكيم [3] قدّس سرّه، وربّما يظهر أيضاً من صاحب الجواهر[4] قدّس سرّه.

وهذا الذي أُفيد إن كان أمراً مقبولاً عرفاً ولم يكن مخالفاً للظاهر بشدّة أمكن المصير إليه، أمّا إذا فُرضت مخالفته للظهور بشدّة ـ كما هو ليس ببعيد ـ فلا يمكن المصير إليه، ولابدّ من ملاحظة الموقف الثاني.

الثاني: أن يُدعى أنّ هناك تعارضاً مستقراً بين الطائفتين ولا يمكن الجمع بينهما، وفي مثله لابدّ من إعمال المرجّحات، وإذا راجعنا كتاب (المغني) لابن قدامة [5] وجدناه يقول: إنّ القضاء هو قول أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم. وبذلك تكون الطائفة الثانية موافقة للعامّة ويؤخذ بالطائفة الأولى ويحكم بنفي لزوم القضاء، وهذا ما اختاره صاحب الحدائق [6] ـ قدّس سرّه ـ وتبعه السيد الخوئي [7] قدّس سرّه، وهما وإن لم يشيرا إلى الوجه الذي استندا إليه في الحمل على التقية، لكنّه من خلال نقلنا لعبارة صاحب (المغني) يتضح ذلك.

يبقى شيء وهو أنّه قد يقال: إنّ المرجّح في باب التعارض هو أحد أمرين (على ما ذكرنا في علم الأصول) وهما:

1. موافقة الكتاب.

2. مخالفة العامّة.

وفي المقام لِمَ لا نقول بأن الطائفة الثانية موافقة للكتاب، حيث يقول تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل)، وبذلك تكون الطائفة الثانية هي مقدّمة لا أنّها مطروحة لموافقتها للعامّة.

ويمكن الجواب: بأنّ قوله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل) لا يدل إلاّ على وجوب الأداء وأنّه يجب إتمام الصوم إلى الغروب، أمّا أنّ مَن خالف يجب عليه القضاء فلا يستفاد منه، وهذا هو معنى العبارة التي تقول: إنّ القضاء هو بأمر جديد وليس بالأمر السابق.

إذن ينحصر الترجيح بمخالفة العامّة، فتطرح الطائفة الثانية لموافقتها للعامّة.

________________________

[1] البقرة: 187.

[2] الوسائل 10: 121، أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، ب50، ح1.

[3] مستمسك العروة الوثقى 8: 89 كتاب الصوم.

[4] جواهر الكلام في شرح شرائع السلام 16: 285 كتاب الصوم.

[5] المغني لابن قدامة 3: 74.

[6] الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 13: 104 كتاب الصوم.

[7] مستند العروة الوثقى 1: 404 كتاب الصوم.