32/05/30


تحمیل

 لا إشكال بين الأصحاب في جواز إسدال المحرمة ما على أرسها،وقيد بعض ومنهم السيد الماتن (قده) بما إذا كان ذلك لأجل التحفظ من الأجنبي،فإذا خافت أن يراها الأجنبي جاز لها أن تسدل ما على رأسها،ولكن إذا رجعنا إلى الروايات وجدناها مطلقة من هذه الناحية ولم يؤخذ ذلك في شيء منها.

 وعليه فالمناسب هو الجواز مطلقاً،اللهم إلا أن يدعى الانصراف إلى ذلك،يعني أن الروايات جوزت الإسدال في خصوص حالة وجود الأجنبي،فان تم هذا الانصراف فهو وإلا فالتقييد مشكل،ولعل دعوى الانصراف شيء صعب.

 والمهم في مسألتنا هذه طرح السؤالين اللذين تقدمت الإشارة إليهما فيما سبق:-

السؤال الأول:- كيف نوفق بين اتفاق الأصحاب على حرمة تغطية المحرمة وجهها وبين الاتفاق على جواز الإسدال،أوليس ذلك تهافتا ؟

والسؤال الثاني:- إذا جاز الإسدال فحدُّه إلى ماذا ؟

أما بالنسبة إلى السؤال الأول:- فتوجد أجوبة ثلاثة قد نقلها صاحب الجواهر[1] ولعل الأوجه منها هو الثالث كما سيتضح:-

الجواب الأول :- أن يدعى أن عنوان التغطية يغاير عنوان الإسدال،فهما من مقولتين مختلفتين ،فالتغطية أُخذ في معناها المماسة،أي مماسة الثوب للوجه،فان حصلت المماسة فتلك تغطية،وان لم تحصل فتلك إسدال ، إذن الإسدال اخذ فيه عدم المماسة بينما التغطية اخذ فيها المماسة،وبناءا على هذا فلا تنافي بين لزوم التغطية وجواز الإسدال،فتحرم التغطية هو بمعنى الملاصقة والمماسة بينما يجوز الإسدال هو بمعنى إبعاد الثوب عن بشرة الوجه باليد ونحوها ، والى هذا ذهب الشيخ الطوسي في المبسوط والعلامة في القواعد بل ونسبه في الدروس إلى المشهور .

وجوابه واضح:- فان هذا ادعاء بلا مستند،فالتغطية عرفاً صادقة حتى إذا لم تكن هناك مماسة،والإسدال صادق حتى إذا كانت هناك مماسة.

ويمكنك أن تقول هكذا بروح أخرى أو بصيغة أخرى :- أنا إذا رجعنا إلى روايات الإسدال وجدنا أنها مطلقة،فالإمام عليه السلام يجوز أن تنزل ما على رأسها من دون أن يقيد بعدم المماسة وانه يلزم إبعاد الثوب عن الوجه ،خصوصا إذا التفتنا إلى أن حالة المماسة بما يُسدَل قضية غالبية،فإذا كان ذلك شيئاً لازماً فمن الضروري التنبيه عليه،هذا من ناحية روايات جواز الإسدال.

 ونفس الشيء نقوله بالنسبة إلى روايات التغطية فإنها مطلقة من هذه الناحية،يعني لم تأخذ قيد المماسة،فإنها قالت مثلاً ( إحرام المرأة في وجهها ) وهذا يفهم منه أنه يلزمها أن تكشف عن الوجه لا أنه يحرم خصوص حالة المماسة،وهكذا قوله ( فانك أن تنقبت لم يتغير لونك ) انه يفهم من هذا التعليل أن المماسة لا خصوصية لها،ومن هنا تراجع العلامة (قده) في المنتهى عما ذكره في القواعد ونقل عنه صاحب الوسائل في الهامش ما نصه ( قال العلامة في المنتهى:- قال الشيخ يكون الثوب متجافيا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة فان أصابها ثم زال أو أزالته بسرعة فلا شيء عليها وإلا وجب الدم. والوجه عندي سقوط هذا لأنه غير مذكور في الخبر مع أن الظاهر خلافه ، وسدل الثوب لا تكاد تسلم معه البشرة من الإصابة فلو كان محرما لبينه لأنه محل الحاجة ) انتهى.

الجواب الثاني:- ما ذهب إليه صاحب المدارك[2] وحاصله أن روايات التغطية نحملها على حصة خاصة من التغطية وهي النقاب والتنقب،فالمحرم هو عنوان التنقب ،فالمرأة يحرم عليها أن تتنقب - وقلنا أن النقاب كاللثام بالنسبة إلى الرجل وفي حق المرأة لا يقال لثام وإنما يقال نقاب - فالمحرم هو هذا النقاب والتنقب وليس التغطية،ومع هذا فلا يتنافى هذا التحريم مع جواز الإسدال فان الإسدال ليس نقاباً وتنقباً. هكذا ذكر (قده) ولم يذكر توجيهاً لذلك .

ونحن نوجه ذلك بان يقال:- انه لو رجعنا إلى الروايات وجدنا أن ما يمكن التمسك به لحرمة التغطية أربع روايات،فانا وان نقلنا عدداً من الروايات ولكن ما ينفعنا لإثبات حرمة التغطية أربع،وإذا لاحظنا ثلاثاً منها وجدناها قد أخذت عنوان النقاب والتنقّب،فمثلاً الأولى صحيحة ابن ميمون ( المحرمة لا تتنقب لان إحرام المرأة في وجهها ) وهذه أخذت عنوان النقاب،والثانية صحيحة العيص ( كره النقاب ) وهذه أيضا أخذت عنوان النقاب ، والثالثة صحيحة الحلبي ( مر أبو جعفر عليه السلام بامرأة متنقبة وهي محرمة فقال : أحرمي وأسفري وأرخِ ثوبك من فوق راسك فانك أن تنقبت....) أنها أخذت عنوان النقاب أيضاً.

 نعم الرابعة أخذت عنوان ( المروحة ) وهي صحيحة أحمد بن محمد ( عن أبي الحسن عليه السلام قال مر أبو جعفر عليه السلام بامرأة محرمة قد استترت بمروحة فأماط المروحة بيده عن وجهها ) أنها لم تأخذ عنوان النقاب والتنقب بل عنوان المروحة،ولكن هذه الرواية كما قلنا سابقاً لا يستفاد منها اللزوم وأنها يلزمها أن تكشف عن وجهها ولا تضع المروحة ولعل ذلك شيء مكروه،فان فعل الإمام عليه السلام لا يدل على الحرمة بل لعل ذلك من باب الكراهة وشدة المبغوضية ، إذن المهم هي الروايات الثلاث الأول وهي قد أخذت عنوان النقاب ، هكذا قد يوجه ما ذهب إليه صاحب المدارك (قده).

وجوابه :- صحيح أن هذه الروايات قد أخذت عنوان النقاب ولكن التعليل في بعضها يستفاد منه التعميم،فمثلا في الرواية الأولى التي هي لابن ميمون قال عليه السلام ( المحرمة لا تتنقب ) ثم علل بقوله ( لان إحرام المرأة في وجهها ) وهذا التعليل يستفاد منه عدم الخصوصية للنقاب كما هو واضح .

 وصحيحة الحلبي قالت ( مر أبو جعفر بامرأة متنقبة وهي محرمة فقال أحرمي وأسفري انك أن تنقبت لم يتغير لونك ) وهذه العلة لا تختص بخصوص النقاب بل هو موردٌ،إذن ذلك هو من قبيل ( لا تأكل الرمان لأنه حامض ) حيث يستفاد منه انه كل حامض لا يجوز لك تناوله.

الجواب الثالث:- أن نستعين بفكرة التخصيص ونقول أن المورد من قبيل العام والخاص أو المطلق والمقيد،ببيان؛ أن روايات التغطية لو خلينا وهي لاستفدنا منها أن مطلق التغطية محرم سواءاً كان ذلك بإنزال الثوب من الأعلى أو برفعه من الأسفل أو بسحبه من أحد الجانبين،إذن مقتضى الإطلاق التحريم،وجاءت روايات الإسدال وأخرجت فرداً من أفراد التغطية وقالت هذا الفرد جائز وهو الإسدال من فوق،إذن المورد مورد الخاص والعام،وعليه فلا منافاة في البين.

ويمكن توجيه ذلك بالوجهين التاليين:-

الوجه الأول:- أن ذلك هو مقتضى الصناعة،باعتبار أن المورد من قبيل العام والخاص كما أوضحنا،فالصناعة إذن هي تقتضي ذلك بلا حاجة إلى تفتيش عن جواب آخر.

والوجه الثاني:- انه لو لاحظنا صحيحة الحلبي أمكن أن نستفيد منها هذا الوجه - يعني فكرة التخصيص - فإنها قالت هكذا ( مر أبو جعفر عليه السلام بامرأة متنقبة وهي محرمة فقال: أحرمي وأسفري وأرخ ثوبك من فوق رأسك ) انه جمع بين المطلبين أي بين ( أسفري ) وبين ( أرخ ثوبك من فوق راسك ) انه يفهم من هذا أن التغطية المرفوضة هي ما كانت بغير الإسدال ولذلك جمع عليه السلام بين العنوانين وقال ( أسفري وأرخ ثوبك ) .

 إذن المناسب هو الحمل على التخصيص كما صار إلى ذلك جماعة من الأصحاب منهم صاحب الجواهر[3] وغيره.

نعم يبقى شيء:- وهو أن الأصحاب قالوا التغطية حرام،وفي نفس الوقت قالوا الإسدال جائز،إنهم بهذا جمعوا بين المتناقضين،فالتغطية التي حكموا بحرمتها هي مطلقة وعامة،وهذا لا يلتئم مع جواز الإسدال وهناك تناقض،وهذا ما أشار إليه صاحب المدارك[4] حيث قال ( وكيف كان فإطلاق الحكم بتحريم تغطية الوجه مع الحكم بجواز سدل الثوب عليه وان أصاب البشرة غير جيد )

ولكن يرد ذلك:- أن هذا إشكال على تعبير الأصحاب،فالمناسب إدخال تعديل على التعبير وان تعبيرنا لا بد وان يتحسن ونصوغ العبارة بشكل جديد، نعم أن هذا شيء مقبول.

والنتيجة النهائية:- أن التناقض يمكن رفعه من خلال فكرة التخصيص.

[1] الجواهر 118 - 393

[2] المدارك 7 - 361

[3] الجواهر 18- 393

[4] المدارك 7 - 361