32/11/03


تحمیل
 ذكرنا أنه استُدلّ على جواز أخذ الأجرة على العبادات في محلّ كلامنا بجواز أخذها في باب النيابة على العبادات وقيل بأنه إذا ثبت عدم المنافاة ين قصد العوض وقصد التقرب فيكشف هذا عن أنه في محلّ الكلام أيضاً لا منافاة وبالتالي يجوز أخذ الأجرة على الواجبات العبادية الذي هو محلّ كلامنا .
 وقد ناقش المشهور الذي يرى حرمة أخذ الأجرة على الواجبات العبادية في هذا الدليل بمناقشة تقدّمت في البحث السابق وحاصلها أن هناك فرقاً بين المقامين ففي محل كلامنا وقعت الأجرة في مقابل العبادة في حين أنها في باب النيابة وقعت في مقابل النيابة - التي فُسّرت بأنها تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب عنه وهذا [1] شيء يقوم به النائب غير العبادة التي يأتي بها في الخارج فالنيابة عمل غير عبادي ولا محذور مطلقاً في أخذ الأجرة عليه .. إذاً ما يُعتبر فيه قصد التقرّب شيء وما تؤخذ الأجرة في مقابله شيء آخر - وهو النيابة - فلا موجب للاستشكال إذاً من هذه الجهة لأنه يأتي بالفعل بقصد التقرّب وقاصداً امتثال أمره ويقصد العوض في مقابل تنزيل نفسه منزلة المنوب عنه .. ولهم كلمات تحوم حول هذه النقطة فبعضهم صوّرها بأن هناك عنواناً أوليّاً وعنواناً ثانوياً فقصْدُ التقرب يكون بالفعل بعنوانه الأولي - أي بما هو صلاة مثلاً - وقصْدُ العوض يكون بالفعل بعنوانه الثانوي أي بعنوان صدوره عن الغير مع فرض التنزيل .
 وذكرنا أنهم استشهدوا لذلك بمسألة الأجرة على الصلاة في مكان معيّن فقالوا إنه لا مانع من أن تؤخذ الأجرة في مقابل الخصوصية أي في مقابل إيقاع الصلاة في المكان المعيّن إذ لا يُعتبر فيه قصد القربة فيجوز أخذ الأجرة في مقابله وقالوا إنه كما أن أخذ الأجرة على هذه الخصوصية لا يضرّ بقصد القربة في أصل الفعل العبادي كذلك في محلّ الكلام تؤخذ الأجرة على الخصوصية وهي كون الفعل عن فلان ولا يضرّ ذلك بقصد العبادة .
 وأقول : إن هذا الذي ذكروه - بقطع النظر عن الأدلة الخاصة من النصّ والإجماع على جواز أخذ الأجرة على النيابة في باب العبادات كالحج والصلاة والصيام واجبة كانت أم مستحبة يمكن التأمل فيه وأن ليس ثمة فرق بين محلّ الكلام والاستيجار في باب النيابة على العبادات ، وحاصله : منع الفرق بينهما إذ بالنتيجة هو يأتي بالعبادة عن فلان بقصد أخذ العوض ، نعم .. بالتحليل نستطيع القول بأن هناك شيئين : أصل الفعل العبادي والنيابة - التي تعني تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب عنه إلا أن ما يصدر خارجاً من الأجير فعل واحد وهو عبارة عن الصلاة عن فلان وقد جاء به بقصد العوض فكيف يمكن أن يأتي به بقصد القربة ؟! وما ذُكر من التحليل أمر غير منظور عرفاً غاية الفرق بين المقامين أنه في محلّ الكلام يأتي بالعبادة عن نفسه وأما في باب النيابة فيأتي بها عن غيره وهذا الفرق يمكن أن يقال إنه ليس بفارق .
 وعلى كل حال فتكفينا الروايات الخاصة والإجماع على جواز أخذ الأجرة في باب العبادات ولا حاجة إلى الاستدلال بالأدلة الدالة على جواز أخذ الأجرة على العبادة في باب النيابة على جواز أخذ الأجرة في محلّ الكلام فإنه لا يخلو من صعوبة لاحتمال أن يكون ثمة فرق بين المقامين كما ذكر المشهور حيث التزموا بعدم جواز أخذ الأجرة في محلّ الكلام وجوازه في باب النيابة وهذا الفرق الذي جزم به المشهور والمحتمل عندنا يمنعنا من التمسّك بالأدلة الدالة على جواز أخذ الأجرة في باب النيابة والاستدلال بها على جواز أخذ الأجرة في محلّ الكلام .
 هذا .. والظاهر أن ما ذُكر من جواز أخذ الأجرة على الخصوصية كما مُثّل له بالصلاة في المكان المعيّن غير مسلّم بل الواجب على المكلّف أن يوقع الفعل العبادي في هذا المكان أو غيره بقصد القربة وأخذ الأجرة يكون منافياً لذلك بعد فرض البناء على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات العبادية - .
 هذا .. وقد تبيّن من جميع ما تقدّم أن الحكم بجواز أخذ الأجرة على العبادات سواء كانت واجبة أو مستحبة لا يخلو من إشكال ، نعم .. جواز أخذ الأجرة على الواجبات غير العبادية لا مانع منه فنحن نفرّق بين الواجبات التوصّلية وبين العبادات - سواء واجبة أو مستحبة - فجواز أخذ الأجرة واضح عندنا على الأول دون الثاني .. وهذا هو حكم المسألة الكلية موجزاً .
 ومنه يتّضح حكم أخذ الأجرة على الواجبات الكفائية غير العبادية فإن حكمها هو الجواز لما تقدّم سابقاً من عدم منافاة الوجوب لجواز أخذ الأجرة لأنّا لا نُفهم من الوجوب إلا الإقدام على الفعل وضرورة الإتيان به بل الجواز لعله هو الأقرب حتى في الواجبات العينية غير العبادية للسبب السابق نفسه اللّهم إلا إذا فُرض قيام إجماع على عدم الجواز فيها كما ذهب المشهور إلى ذلك وفرّق بين الواجبات العينية والكفائية فلم يلتزم بالجواز في الأول فحينئذ نلتزم بعدم الجواز فيها ، نعم .. لا بد من استثناء ما دلّ الدليل على لزوم الإتيان به مجاناً من الواجبات الكفائية غير العبادية وهذه المسألة بالخصوص وهي أن يُفهم من الدليل لزوم الإتيان به مجاناً وكونه كافياً في الالتزام بحرمة أخذ الأجرة عليه قد تقدّمت الإشارة إليها وسيأتي توضيحها قريباً .
 هذا كله في غير ما يُعبّر عنه بالواجبات النظامية التي تدخل في الواجبات الكفائية عادة ومقصودهم بها الصناعات التي يتوقف عليها حفظ النظام ، وأما في هذه الواجبات فجواز أخذ الأجرة يكون أوضح بمعنى أنه إذا كان هناك مجال لتحريم أخذ الأجرة على الواجبات الكفائية غير النظامية فلا مجال لتحريم أخذ الأجرة على الواجبات النظامية - كالطبابة والزراعة وسواهما - وذلك لما صرّحوا به - كالمقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان وكذا صاحب الرياض - من قيام الإجماع والضرورة على جواز أخذ الأجرة على الواجبات النظامية بل يمكن الالتزام بالجواز بقطع النظر عن الضرورة والإجماع وإن منعنا من ذلك في الواجبات الكفائية غير النظامية [2] من قبيل أداء الشهادة وذلك باعتبار أن الدليل على وجوب هذه الصناعات هو حكم العقل بوجوب حفظ النظام وعدم جواز الإخلال به فإذا كان يتوقف عليها فتكون واجبة حينئذ ومن الواضح أن هذا الدليل لا يقتضي الإتيان بها مجاناً لوضوح أن النظام ينحفظ بالإتيان بهذه الصناعات سواء أُتيَ بها مجاناً أو بأجرة فيكون الدليل الدالّ على لزوم حفظ النظام والدالّ على وجوب هذه الصناعات هو بنفسه يدلّ على أنه لا فرق في الإتيان بها مجاناً أو مع أخذ الأجرة بل قد نلتزم بأن عدم جواز أخذ الأجرة على هذه الصناعات قد يؤدي إلى الإخلال بالنظام وعدم حفظه لأن الناس سوف يتواكلون ويمتنعون عن الإتيان بهذه الصناعات التي يتوقف عليها حفظ النظام في ما لو أُلزموا بعدم أخذ الأجرة عليها .. وعلى هذا فإن دليل حفظ النظام بنفسه سوف يكون مقتضياً لكون الواجب هو الإتيان بهذه الصناعات مع الأجرة .. والنتيجة أنه لا إشكال في أخذ الأجرة على هذه الصناعات التي هي قسم من أقسام الواجبات الكفائية .
 ثم إنه بعد أن تبيّن حكم المسألة من ناحية كلية فلنأت إلى محلّ كلامنا وهو أخذ الأجرة على القضاء والكلام فيه يقع في مقامين :
 الأول : بحسب مقتضى القاعدة والأسس التي أسّسناها من ناحية كبروية في البحوث السابقة .
 المقام الثاني : بحسب الأدلة الخاصة .
 أما في ما يتعلّق بالمقام الأول فالظاهر - بحسب مقتضى القاعدة - جواز أخذ الأجرة على القضاء في ما إذا لم يتعيّن [3] وذلك لكونه عملاً غير عبادي حيث تقدّم سابقاً أنه لا منافاة بين وجوب الشيء كفايةً وجواز أخذ الأجرة عليه بل لا يبعد الجواز حتى إذا كان واجباً عينياً على الشخص للدليل السابق نفسه وهو أن الوجوب حتى لو كان عينياً فلا ينافيه جواز أخذ الأجرة عليه وهو ما تقدّم في الوجه الأول من التقريبات الأربعة اللّهم إلا أن يقوم إجماع على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات العينية وإن لم تكن عبادية كما حُكي عن بعضهم بل هو ظاهر كاشف اللثام والمحقق السبزواري في كفايته ، نعم .. ذكروا أنه إذا استُفيد من دليل وجوب القضاء لزوم الإتيان به على نحو المجانية فحينئذ يتعيّن المنع من أخذ الأجرة كما صرّح به جماعة وقد تطرّقنا إلى هذا في التقريب الثالث من تقريبات المنافاة بين الوجوب وأخذ الأجرة .
 وتحقيق ذلك أن المجانية التي يُفترض كونها مستفادة من وجوب الشيء كما ذكروا ذلك في باب تجهيز الميت وباب الشهادة يمكن أن يُتصوّر لها معانٍ :
 الأول : أن تكون المجانية قيداً في الواجب بمعنى أن الواجب ليس هو مطلق الفعل وإنما هو الفعل بقيد أن يقع مجاناً فيكون حاله حال الواجبات المقيدة .
 وهذا التفسير إذا اقتصرنا عليه ولم نضمّ إليه التفسيرات الأخرى يمكن أن يُستشكل فيه بما تقدّم من أن غاية ما تقتضيه المجانية بهذا المعنى هو عدم تحقق الامتثال إذا جاء المكلّف بالفعل مع أخذ الأجرة لأن المفروض كون الواجب مقيّداً بالمجانية فإذا أخذ عليه أجرة فلا يكون حينئذ آتياً بالواجب فلا يكون ممتثلاً .. ولكن هل معنى هذا أن الأجرة تحرم عليه [4] ؟
 أقول : إن استفادة حرمة أخذ الأجرة - بالمعنى المبحوث عنه في المقام [5] - من دليل الوجوب المأخوذ فيه المجانية بهذا المعنى ليس بواضح حتى لو قلنا بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ونحن لا نقول به فإن غاية ما يثبت به أن القضاء مع أخذ الأجرة حرام لأن الأمر بالقضاء مجاناً بناءً على هذا - يقتضي النهي عن ضدّه .. وضدُّه هو القضاء مع الأجرة ولكن هذا لا يعني عدم استحقاق الأجرة لعدم التلازم بين الحرمة الوضعية والحرمة التكليفية - اللهم إلا إذا ضممنا إليه عنصراً آخر سيأتي الحديث عنه لاحقاً - .
 المعنى الثاني : أن يكون العمل مستحقّاً ومملوكاً للغير أي أن نفهم من أدلة وجوب القضاء أنه مملوك ومستحقّ للغير .
 وأقول : غاية ما يقتضيه هذا المعنى هو عدم جواز أخذ الأجرة ممن استحقّ هذا العمل وأما أخذ الأجرة من غيره فلا مانع منه .
 


[1] أي النيابة .
[2] أي التي لا يتوقف عليها حفظ النظام .
[3] أي بأن كان واجباً كفائياً .
[4] المقصود من حرمة الأجرة : الحرمة الوضعية بمعنى عدم الاستحقاق لا الحرمة التكليفية .
[5] وهو ما يساوق عدم الاستحقاق .