32/11/18


تحمیل
  (بحث يوم الاثنين 18 ذق 1432 ه 22)
 الشرط السابع - المذكور في المتن - : الرشد واشتراطه مما لا إشكال فيه فهو كاشتراط العقل ولا ريب أن السفيه والمجنون ليس لهما صلاحية تولّي مثل هذا المنصب بل ليس لهما صلاحية تولّي ما هو أقلّ أهمية منه .
 الشرط الثامن - المذكور في المتن - : الاجتهاد وهو الشرط الأهمّ في ما نحن فيه ، والكلام فيه يقع في جهات :
 الأولى : في أصل اشتراط العلم [1] فنقول :
 لا خلاف ولا إشكال في اشتراط العلم بالحكم في مقابل الجهل به ويكفي لإثباته الأدلة الكثيرة الناهية عن العمل بغير علم أو التي تنهى عن العمل بالظن بشكل عام التي تُطبّق في محلّ الكلام - ، من الآيات الكريمة والروايات الشريفة .
 وتقريب الاستدلال بها هو بأن يقال : إن القاضي إذا كان جاهلاً بالحكم الذي يصدر منه فهو حكم من غير علم والعمل بهذا الحكم يكون عملاً بغير علم وهو منهيّ عنه في هذه الأدلة ، والمفهوم منها أن حُكْم هذا الذي حَكَم بغير علم لا يكون نافذاً وهو معنى الاشتراط .. إذاً يُشترط في نفوذ حكم القاضي أن يكون عالماً .
 وكذلك الأدلة الدالة في خصوص باب القضاء حيث إنها تنهى عن القضاء بغير علم ففي المرفوع عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة " [2] .
  وواضح أنه يُفهم من ذلك عدم نفوذ حكمه فيدل على الاشتراط ، وكذلك الأدلة الناهية عن الإفتاء بغير علم أو القول بغير علم وهي أدلة كثيرة جمعها في الوسائل نذكر منها رواية تامة السند وهي صحيحة أبي عبيدة :
 " قال : قال أبو جعفر (عليه السلام) : من أفتى الناس بغير علم ولا هدىً من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفُتياه " [3] .
 وتعلّقها بمحلّ الكلام واضح فإن القاضي حيث يُصدر حكمه يكون في مقام الفُتيا بذلك الحكم غاية الأمر أنه يفصل به الخصومة بين المتنازعين ولذلك اشترط المشهور فيه الاجتهاد فإذا أفتى بغير علم كان مشمولاً لهذه الأدلة التي ذكرنا أن النهي فيها يُستفاد منه عرفاً عدم نفوذ قضائه وحكمه وهو معنى الاشتراط أي أن القاضي الذي يُفتي ويحكم بغير علم لا ينفذ قضاؤه ومعنى هذا أنه يُشترط في نفوذ قضائه أن يكون عالماً .
 ويدل أيضاً على اشتراط العلم - مضافاً إلى هذه الروايات الكثيرة - روايات أخرى من قبيل مقبولة ابن حنظلة وصحيحة سليمان بن خالد المتقدمين .
 إذاً فاشتراط العلم في القاضي مما لا إشكال فيه وإنما وقع الكلام في أن الشرط هل هو مطلق العلم من أيّ سبب ولو كان عن تقليد - أم أنه عبارة عن علم خاص بالحكم وهو ما يحصل عن طريق الاجتهاد ؟ ولا ريب أن المجتهد يعتمد على الظنون الخاصة ولو مثل حجية خبر الثقة في باب الأحكام وأمثالها مما قام الدليل القطعي على اعتباره فإن هذا علم لكونه ينتهي إلى القطع واليقين لأن الأدلة الدالة على اعتبار تلك الظنون الخاصة هي أدلة قطعية تورث اليقين إذاً الظن الاجتهادي التعبدي هو علم اجتهادي لأنه ينتهي إلى العلم بهذا الاعتبار فعلى هذا نقول هل يُشترط في القاضي أن يعلم بالحكم الشرعي علماً اجتهادياً أم لا بل يكفي أن يعلم بالحكم الشرعي عن طريق التقليد ؟
 المعروف والمشهور الذي صرّح به الفقهاء (رض) هو اشتراط أن يكون العلم علماً اجتهادياً وعبّر غير واحد من فقهائنا عن هذا الشرط بـ(أهلية الفتوى) فقد قال المحقق في الشرايع : " وكذا لا ينعقد لغير العالم والمستقل بأهلية الفتوى ولا يكفيه فتوى العلماء" [4] أي لا بد من أن يكون فقيهاً مجتهداً ، وفي المسالك في مقام التعليق على عبارة المحقق ادّعى الإجماع على ذلك من غير فرق بين حالتي الاضطرار والاختيار حيث قال : " المراد بالعالم هنا [ الفقيه ] المجتهد في الأحكام الشرعية ، وعلى اشتراط ذلك في القاضي إجماع علمائنا . ولا فرق بين حالة الاختيار والاضطرار . ولا فرق في من نقص عن مرتبته بين المطّلع على فتوى الفقهاء وغيره " [5] ، ولكن نقل صاحب التنقيح [6] عن الشيخ الطوسي (قده) في المبسوط أن الشيخ نقل قولاً بجواز قضاء المقلِّد وجعله أحد الأقوال في المسألة فأصبح فيها أقوال ثلاثة وهو [7] لم يُصرّح في تلك المسألة باختياره لأحد هذه الأقوال الثلاثة .
 أي أن صاحب التنقيح يريد فرض احتمال أن الشيخ (قده) قد اختار هذا القول وهو جواز قضاء المقلّد ولكن الشيخ الأنصاري (قده) أنكر هذه النسبة وظاهر كلامه أنه لم ير ذلك في مبسوط الشيخ (قده) بل على العكس ما في المبسوط يدل على أنه يختار رأي المشهور بل إنه [8] نقل عن الشيخ (قده) في الخلاف دعوى الإجماع على اعتبار الاجتهاد واشتراطه .
 وفي المستند نقل عن بعض معاصريه [9] جواز المرافعة إلى العالم العادل المطّلع على جميع المسائل الدقيقة المتعلقة بواقعةٍ تقليداً ، ويظهر من صاحب المستند الميل إلى هذا الرأي معلّقاً إياه على عدم قيام الإجماع على خلافه بل قال بعدم تحقق مثل هذا الإجماع [10] إلا أنه بعد ذلك لا يختاره .
 وممن اختار هذا الرأي وأصرّ عليه واستدلّ عليه بشكل مفصّل الشيخ صاحب الجواهر (قده) كما هو المعروف عنه من عدم منعه من أن يقضي بالحكم العالم به عن طريق التقليد ولا يستفيد من الأدلة اشتراط الاجتهاد ، ولا إشكال في أن الشهرة في جانب القول الأول دون الثاني .
 وأهمّ ما يُستدلّ به على الرأي المشهور [11] مقبولة عمر بن حنظلة - بناءً على أن هذه الرواية من أدلة نصب القاضي كما تقدّم - حيث أرجع فيها الإمام (عليه السلام) الشخص إلى أن يرجع في القضاء إلى شخص يحمل صفات معيّنة ذكرها الإمام (عليه السلام) بالترتيب ، قال (عليه السلام) : (ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً) .
 والاستدلال بهذه الرواية على اشتراط الاجتهاد يكون ببيان أنه يُفهم من هذه الأمور المذكورة والمشروطة في من يصحّ له القضاء ويكون حكمه نافذاً أن يكون قد روى حديثهم ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم فهذه الأمور التي سيقت في الرواية على الترتيب المذكور بالخصوص لا تحصل لغير المجتهد عادة فإنه هو الذي يروي الأحاديث وهو الذي ينظر في الحلال والحرام وهو الذي يعرف الأحكام ، نعم .. قد يروي المقلّد الحديث وقد يعرف الأحكام أيضاً إلا أنه ينقصه النظر في الحلال والحرام إذ لا يراد بالنظر ما يتحقق بقراءة الأحكام الشرعية وهو فهمها على الوجه الصحيح - بعد وضوح أنه لا يراد به النظر البصري - بل المراد به هو كون الشخص صاحب رأي وفكر بمعنى أنه يتأمّل المسائل ويتعمّق فيها ويحلّلها .. ومن هنا تكون الرواية ظاهرة في اشتراط أن تكون المعرفة بالأحكام الشرعية معرفة نظر وتأمل فالمجتهد هو الذي يروي الأحاديث وهو الذي ينظر فيها نظر تأمل وتعمّق وهو الذي يستنبط منها بعد ذلك الأحكام الشرعية فيكون عارفاً بها ، وأما المقلد فليس شأنه ذلك وإنما تكون معرفته للحكم بالرجوع إلى رسالة المجتهد فيعرف الحكم عن هذا الطريق لا عن طريق النظر والتأمل في الأحاديث .. إذاً فهذه الصفات لا تصدق إلا في حقّ المجتهد والإمام (عليه السلام) في الرواية كان في مقام تحديد من يجوز الرجوع إليه في القضاء فنستفيد من ذكره القيود فيها أنها معتبرة في القاضي فإذا كان الاجتهاد معتبراً في القاضي بحسب ظاهر الدليل فحينئذ تكون هذه الرواية مقيدة للمطلقات المتقدمة التي ورد فيها اشتراط العلم بالحكم الشرعي حيث إنه [12] أعمّ من العلم الاجتهادي والعلم الحاصل عن تقليد خصوصاً وأن كلاًّ منهما ليس علمه علماً وجدانياً بل علم بحجة فالمجتهد قامت عنده الحجة على الحكم الشرعي كخبر الثقة - مثلاً والمقلد قامت عنده الحجة أيضاً على الحكم الشرعي وهي فتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده .. فيتحصّل مما سبق أنه لا بد من أن نشترط الاجتهاد في القاضي .
 هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام الاستدلال بهذه الرواية على الاشتراط ، وأما غير هذه المقبولة من الروايات كمعتبرة أبي خديجة المتقدمة فليس فيها هذا الوضوح في اشتراط الاجتهاد فإن الوارد فيها : (عرف شيئاً من قضايانا) أو (من قضائنا) وهذا التعبير وإن كان فيه ظهور في أنه عرف شيئاً معتداً به إلا أن المعرفة أعمّ من أن تكون عن اجتهاد أو تقليد فلسان هذه الرواية يختلف عنه في المقبولة فهناك مجال للتشكيك في دلالة هذه الرواية على اعتبار الاجتهاد إذ أنه يصدق على المقلّد أيضاً أنه يعرف شيئاً من قضاياهم .
 فالنتيجة أننا لا نستطيع جعلها من أدلة الاجتهاد لاسيما مع ما ذكرناه من أن معرفة كلّ من المجتهد والمقلّد تعبدية لا وجدانية .
 وأما التوقيع الشريف فإن المذكور فيه : (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) وهذا التعبير أظهر من سابقه [13] إذ يقال إنه بمناسبات الحكم والموضوع وأمثالها لا يكون المقصود من رواة الحديث مطلق من ينقل الحديث إلى آخر ولو من دون تأمّل في معناه ونظر في مضمونه بل المراد باعتبار كون الإمام (عليه السلام) في مقام الإرجاع إليهم هم الذين يروون الأحاديث ويتدبّرون معانيها وينظرون في جهاتها ويميّزون بين الصحيح منها والسقيم وبين الخاص والعام وبين المطلق والمقيّد ويستنبطون منها الأحكام فيمكن أن يقال حينئذ إن الرواية تشترط الاجتهاد في من يُرجع إليه لأخذ الأحكام الشرعية ولها ظهور في هذا المعنى وإن كان أدنى من ظهور المقبولة .. ولكن المشكلة في التوقيع الشريف كما تقدّم في بحث ولاية الفقيه أنه ليس من أدلة نصب القاضي ولا من أدلة ولاية الفقيه فلا مجال للاستدلال به على اشتراط الاجتهاد في القاضي كما لا مجال للاستدلال به على اشتراط الاجتهاد في الوليّ بالولاية العامة لأنه ليس من أدلة نصبهما وإنما هو ناظر إلى الشبهات الحكمية التي تطرأ على الإنسان ولا يعرف حكمها فأمر الإمام (عليه السلام) بالرجوع فيها إلى المجتهد والإرجاع إليه إنما هو في مقام الفُتيا فتكون من أدلة جواز التقليد ولزوم الرجوع إلى المجتهد وعليه فلا يمكن الاستدلال بها على اشتراط الاجتهاد في القاضي .
 فالنتيجة أن العمدة في الاستدلال على رأي المشهور هي مقبولة عمر بن حنظلة .
 نعم .. لمّا نهج السيد الخوئي (قده) طريقاً خاصّاً في إثبات هذه الشرائط - على ما تقدّم سابقاً من رفضه للأدلة اللفظية على النصب في باب القضاء إما من حيث ضعف السند أو ضعف الدلالة وأثباته النصب العام للقاضي بحكم العقل من باب حفظ النظام وأمثاله فإنه في مسألة تعيين من هو المنصوب بهذا النصب العام الثابت بالدليل العقلي ذكر أنه لا بد فيه من الاقتصار على القدر المتيقّن لأن القضاء ونفوذ الحكم على خلاف الأصل والقدر المتيقَّن بلا إشكال هو المجتهد العالم بالأحكام الشرعية عن طريق الاجتهاد فأثبت اشتراط الاجتهاد في القاضي المنصوب بهذا الطريق ..
 إلا أننا ذكرنا أنه لا تصل النوبة إلى هذا الطريق وإن وصلت إليه في بحث ولاية الفقيه لفرض وجود الأدلة اللفظية الدالة على النصب العام - والمقصود بذلك هو مقبولة عمر بن حنظلة كما تقدّم فكانت الوظيفة تعيّن الرجوع إليها وقد تمّ استكشاف دلالتها على اشتراط الاجتهاد .
 ثم إن تمامية الاستدلال بهذا الدليل على الاشتراط وفقاً لرأي المشهور - مضافاً إلى الاستظهار المتقدم وغيره - موقوف على إثبات أمرين :
 الأول : أن تكون الرواية [14] ناظرة إلى القاضي المنصوب الذي هو محلّ الكلام - لا إلى قاضي التحكيم لأنها إن كانت ناظرة إلى قاضي التحكيم فقد يقال بأنها تدل على اعتبار الاجتهاد فيه بالخصوص .. اللّهم إلا أن يُعمّم بادّعاء الأولوية - مثلاً - .
 والثاني : أن تكون الرواية ناظرة أيضاً إلى نصب القاضي لا إلى نصب الحاكم والوالي .
 وقد يقال هنا : إنّا نتمسّك بما ورد من قوله (عليه السلام) : (فإني جعلته عليكم حاكماً) في أن الرواية ناظرة إلى نصب الحاكم لا إلى نصب القاضي فتكون من أدلة نصب الفقيه حاكماً وولياً بالولاية العامة فإذا دلّت على اشتراط الاجتهاد فإنما تدلّ عليه في ذاك الباب ولا مجال للاستدلال بها على اشتراط الاجتهاد في القاضي الذي هو محلّ الكلام وإن كان القضاء فرعاً من فروع الولاية العامة إلا أن هذا لا يعني أن ما يكون شرطاً في الحكومة والولاية العامة يكون شرطاً في القضاء الذي هو من فروعها إذ من الممكن أن يُشترط في الأصل ما لا يُشترط في الفرع .
 إلا أنه يُجاب عليه : بأن التعبير بـ(الحاكم) الوارد في المقبولة قد فُسّر في المعتبرة [15] بالقاضي في قوله (عليه السلام) : (فإني جعلته عليكم قاضياً) فلا مجال لدعوى كون المراد به الوليّ .
 هذا .. وقد تقدّم أن كلا هذين الأمرين الذين يتوقف عليهما الاستدلال صحيحان وثابتان فإن المقبولة ليست ناظرة إلى قاضي التحكيم - خلافاً لمن يحتمل كونها كذلك - بتوجيه كون قول الإمام (عليه السلام) : (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) هو بمثابة العلة وقوله : (فليرضوا به حكماً) متفرع عليه وهو بمثابة المعلول له ، كما أنها ليست من أدلة نصب الحاكم والوليّ بل هي من أدلة نصب القاضي لما أُشير إليه وقد تقدّم أيضاً - من أن المقصود بالحكومة في هذه الروايات هو القضاء فالحاكم هو القاضي لاسيما أن هذا هو مورد السؤال من افتراض السائل المنازعة بين شخصين .


[1] أي قبل الحديث عن اشتراط الاجتهاد إذ المراد بالعلم بالحكم ما يقابل الجهل به كما ذكره (دامت بركاته) .
[2] الكافي مج7 ص407 .
[3] الوسائل مج27 ص20 الباب الرابع من أبواب صفات القاضي الحديث الأول .
[4] شرايع الإسلام مج4 ص860 .
[5] مسالك الأفهام مج13 ص328 .
[6] التنقيح مج4 ص234 .
[7] أي الشيخ (قده) .
[8] أي الشيخ الأنصاري (قده)
[9] والظاهر أن المقصود به المحقق القمي (قده) - (منه دامت بركاته) - .
[10] لاحظ المستند مج17 ص24 .
[11] أي الاشتراط .
[12] أي العلم بالحكم .
[13] أي ما ورد في معتبرة أبي خديجة من قوله : (عرف شيئاً من قضايانا) .
[14] أي مقبولة عمر بن حنظلة .
[15] أي معتبرة أبي خديجة .