33/02/14


تحمیل
 (بحث يوم الأحد 14 صفر الخير 1433 ه 57)
 كنّا قد انتهينا من ذكر الأدلة التي سيقت في المقام على دعوى جواز استناد القاضي إلى علمه ومناقشتها سنداً ودلالة وينبغي هاهنا التطرّق إلى أهمّ ما ذُكر منها وهي أربعة : (الإجماع والآيات الآمرة بالحكم بالعدل ومعتبرة الحسين بن خالد ومعتبرة سليمان بن خالد) [1] فأقول :
 ذكرنا في ما سبق أن ثلّة من علمائنا كالسيد المرتضى في الانتصار والشيخ الطوسي في الخلاف [2]
  [3] وابن زهرة في الغنية ادّعوا الإجماع صريحاً على جواز أن يقضي القاضي بعلمه ، وهو ظاهر السرائر [4] أيضاً إلا أن بعضهم أشكل على هذه الدعوى بمخالفة ابن الجنيد قائلاً :
 " كيف تستجيزون ادّعاء الإجماع من الإمامية في هذه المسألة وأبو علي بن الجنيد يصرّح بالخلاف فيها ويذهب إلى أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شيء من الحقوق ولا الحدود ؟ " [5] .
 ثم تصدّى لدفع هذا الإشكال مجيباً :
 أنه : " لا خلاف بين الإمامية في هذه المسألة ، وقد تقدم إجماعُهم ابنَ الجنيد وتأخّر عنه [6] وإنما عوّل ابنُ الجنيد فيها [7] على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطؤه ظاهر " .
 وعقّبه بذكر الروايات التي تقدّم الاستدلّال ببعضها من قبيل قضية الأعرابي مع النبي (صلى الله عليه وآله) [8] وقضية شريح القاضي مع درع طلحة ثم قال مستنكراً :
 " فمن يروي هذه الأخبار مستحسناً لها ومعوّلاً عليها كيف يجوز أن يُشَكّ في أنه كان يذهب إلى أن الحاكم يحكم بعلمه لولا قلة تأمّل ابن الجنيد ؟! " .
 وفي الحقيقة أن عمدة الإشكال والمناقشة في دعوى الإجماع - بعد افتراض تمامية صغراه [9] - تكمن في تطرّق احتمال المدركية إليه بمعنى أنه يُحتمَل استناده إلى أحد الوجوه المتقدّمة ، ومن المعلوم أن الإجماع المدركي ليس بحجة إذ ليس هو إجماعاً تعبدّياً ليمكن التعويل عليه في مقام الكشف عن الحكم الشرعي المتمثّل برأي المعصوم (عليه السلام) .
 وهذه المناقشة تارة يكون المقصود بها أن من ادُّعيَ إجماعُهم على جواز أن يحكم القاضي بعلمه قد استندوا في فتواهم هذه إلى الأدلة المذكورة أو إلى بعضها فكانت هي المدرك لهم في الفتوى ، وهذا التفسير هو الظاهر من نسبة الإجماع إلى الأصحاب ؛ وأخرى يكون المقصود بها أن مدّعي الإجماع قد استند في نسبة الإجماع إلى الأصحاب إلى هذه الأدلة بمعنى أنه اطلع على أنهم قد ذكروا هذه الروايات في كتبهم التي هي بنظره دالة على جواز أن يحكم القاضي بعلمه - فنسب إليهم القول بالجواز بناءً على ذلك لا أنه وجد لهم فتوى تُصرّح بذلك فيكون قد استنبط رأيهم من تدوينهم لهذه الأخبار ، وهذا التفسير هو الظاهر من كلام السيد في الانتصار في عبارته المتقدمة [10] وهو نظير ما أشار إليه الشيخ في الرسائل حين ناقش في مصاديق بعض الإجماعات ذاكراً أن بعض المجمعين يستخدم هذه الطريقة في مقام نسبة الإجماع إلى الأصحاب لا أنه يفحص عن كلماتهم ويراهم يُفتون صريحاً بذلك فهو يجدهم يعوّلون على قاعدة عامة من قبيل (أحلّ الله البيع) و(ما يُضمن بصحيحه يُضمن بفاسده) - التي يرتضيها من ينسب الإجماع حتى إذا شكّ في رأيهم في مورد من الموارد الجزئية نسب إليهم القول بالصحة لمجرّد أنهم يؤمنون بتلك القاعدة وإن لم يجد تطبيقاً لها من قبلهم على المورد فيكون هذا استنتاجاً منه بلزوم كونهم يُفتون بما تقتضيه تلك القاعدة في المورد [11] .
 ومرجع الإشكال على دعوى الإجماع بهذا التفسير الثاني في الحقيقة إلى إنكار تحقّق الإجماع في المورد فإن السيد المرتضى - مثلاً - لم يتتبع كلماتهم وينقلها في أنهم يفتون بجواز أن يحكم القاضي بعلمه وإنما هو استنتج ذلك منهم لمجرد ذكرهم تلك الروايات ومثل هذا لا يُعدّ إجماعاً حقيقياً كاشفاً عن الحكم الشرعي .
 ومرجعه على التفسير الأول إلى الاعتراف بتحقّق الإجماع في المورد ولكن الخدشة فيه بعدم الحجية لكونه مدركياً حيث يُحتمل فيه استناد الأصحاب إلى الأدلة المطروحة في المقام .
 وهذا الاحتمال أرجح لأن الذي يظهر من كلمات المتقدمين من علمائنا أنهم يستدلّون بهذه الأدلة لاسيما رواية الأعرابي مع النبي (صلى الله عليه وآله) ورواية درع طلحة ورواية خزيمة بن ثابت [12] وأمثالها فلا يبعد أن يكون ما ذهبوا إليه من الفتوى بنفوذ علم الحاكم مستنداً إلى هذه الأدلة فيكون إجماعاً مدركياً .
 وعلى كل حال فالإجماع مخدوش إما بعدم تحقّقه في المورد أصلاً وأنّ ما ادُّعي ليس من الإجماع في شيء أو بكونه إجماعاً إلا أنه ليس بحجة لكونه مدركياً ، والنتيجة على التقديرين عدم جواز الاعتماد على مثل الإجماع هذه .
 وأما الدليل الأول [13] فقد تقدّمت المناقشة فيه من جهة أن تلك الآيات ليست في مقام بيان جواز الحكم بالعدل أو وجوبه حتى يُتمسَّك بإطلاقها لإثبات مشروعية الحكم وجوازه استناداً إلى علم الحاكم وإنما الذي يظهر من ألسنتها لاسيما قوله تعالى : (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) أنها في مقام بيان اشتراط الحكم المفروغ عن جوازه أو وجوبه بأن يكون حكماً بالحقّ والعدل لا حكماً بالباطل والجور فأصل المشروعية إذاً أمر مفروغ منه وليست هذه الآيات في مقام بيانه فالتمسك بإطلاقها لإثبات مشروعية علم الحاكم ليس بتام .
 وهذا نظبر الإشكال المتقدّم في الدليل الرابع أعني آيات الحدود التي يكون الخطاب فيها موجّهاً إلى من عليه إقامة الحدّ [14] من جهة أن هذه الآيات الشريفة ليست في مقام بيان موضوع الحكم وحدوده وشرائطه وإنما قد أُخذ فيها الموضوع على نحوٍ مفروض التحقّق والحصول وأُثبت له الحكم .
 وأما معتبرة الحسين بن خالد [15] فلا إشكال في الاستدلّال بها على جواز أن يقضي الحاكم بعلمه ولكن بقيدين : أحدهما أن يكون علمه عن حسّ والآخر أن يكون قضاؤه في خصوص حقّ الله تعالى لدلالتها على ذلك وسكوتها عن حكم قضائه بعلمه في حقّ الناس بعد المطالبة ، نعم .. هي تنهى عنه قبل المطالبة إلا أن هذا ليس محلّ الكلام وإنما محلّ الكلام كما تبيّن - في جواز أن يقضي الحاكم بعلمه في صورة مطالبة صاحب الحقّ وإقامته للدعوى والرواية إنما تتعرّض لخصوص صورة عدم المطالبة وتفصّل فيها بين حقّ الله فتدلّ على الجواز وحقّ الناس فتدلّ على عدم الجواز .
 والحاصل أن ما يمكن استفادته من هذه الرواية هو جواز أن يستند القاضي إلى علمه الحسّي في حقّ الله تعالى .
 وأما معتبرة سليمان بن خالد [16]
  [17] فإنها تدلّ على أن تحيّر النبي المذكور إنما كان في حال عدم الرؤية والشهادة فتدلّ على أنه في حال الرؤية والشهادة ينتفي التحيّر في كيفية القضاء لأنه يقضي حينئذ بعلمه فتدلّ على أنه يجوز للقاضي أن يحكم استناداً إلى الرؤية والشهادة وغيرهما من الأدوات التي تورث العلم الحسّي [18] ، وهذا نظير أن يقول الشخص : (كيف أحلّ مشكلتي والحال أن لا مال عندي ولا صديق لديّ فأعتمد عليه) حيث يُفهم منه أن المال والصديق الذي يُعتمد عليه مما يُحلّ به تلك المشكلة ، ومقامنا من هذا القبيل فإن قوله : (كيف أقضي في ما لم أر ولم أشهد ؟) يدلّ على أنه إذا رأى وشهد لا يتحيّر إذ يعتمد حينئذ على علمه المستند إلى النظر والشهادة فيقضي وفقاً له .
 وفي هذه الرواية من جهة إطلاقها وعدمه وقبولها للتقييد وعدمه احتمالات ثلاثة :
 الأول : أنها مطلقة وإطلاقها يقبل التقييد .
 الثاني : أنها مطلقة وإطلاقها آبٍ عن التقييد .
 الثالث : أنها غير مطلقة .
 أما على الأول فنقيّد إطلاقها بالمعتبرة [19] فيكون مفادهما [20] حينئذ واحداً وهو أن الاعتماد على العلم مشروط بشرطين :
 الأول : أن يكون مستنداً إلى الحسّ .
 الثاني : أن يكون في حقّ الله تعالى .
 وأما على الاحتمال الثالث [21] فنشكّ حينئذ في أن دائرة جواز القضاء هل هي خصوص حقّ الله تعالى أم خصوص حقّ الناس أم الأعمّ منهما فتكون الرواية حينئذ مجملة ولا يمكن الانتفاع بها في المقام فتكون رواية الحسين بن خالد في هذه الحالة بلا معارض فتنفرد بالدلالة على ما ذُكر [22] .
 وأما على الاحتمال الثاني فيكون من قبيل دوران الأمر بين المطلَق والمقيِّد والمختار تقديم المطلق فتتغير النتيجة حينئذ بمعنى أنه ليس في البين إلا قيد واحد وهو أن يكون العلم مستنداً إلى الحسّ ولا يُخصّص بحقّ الله بل يعمّ حقّ الناس أيضاً تمسّكاً بإطلاق معتبرة سليمان بن خالد .
 وعلى هذا فالكلام يقع في أن معتبرة سليمان بن خالد هل لها إطلاق أم لا ؟ وهل إطلاقها لو فُرض وجوده قابل للتقييد أم لا ؟
 وسيأتي الحديث عن ذلك إن شاء الله تعالى .
 


[1] وهي على الترتيب الدليل الخامس والأول والسابع والثامن .
[2] من المعلوم أن إجماعات الشيخ في الخلاف فيها كلام فهي تختلف عن إجماعاته في سائر كتبه .
[3] (منه دامت بركاته)
[4] لعل في تعبيرهم بالظاهر إيحاءً بالتشكيك في إفادة عبارته دعوى الإجماع . (منه دامت بركاته)
[5] الانتصار ص487 .
[6] يعني أن مخالفة ابن الجنيد مسبوقة بالإجماع وملحوقة به .
[7] أي في مخالفته للإجماع .
[8] حيث ادّعى باطلاً على النبي (صلى الله عليه وآله) أنه لم يُوْفِهِ حقّه فما كان من أمير المؤمنين إلا أنْ قتله جزاءً لتكذيبه النبي (صلى الله عليه وآله) .
[9] وهي أن موردنا أعني مسألة جواز حكم القاضي بعلمه من مصاديق ما انعقد عليه الإجماع فعلاً .
[10] وهي قوله : " فمن يروي هذه الأخبار مستحسناً لها ومعوّلاً عليها كيف يجوز أن يُشَكّ في أنه كان يذهب إلى أن الحاكم يحكم بعلمه ؟ " .
[11] أي الذي يشكّ - من ينسب الإجماع في رأيهم فيه .
[12] وحاصلها : " أن أعرابياً نازع النبي (صلى الله عليه وآله) في ناقة فقال (صلى الله عليه وآله) : (هذه لي وقد خرجت إليك من ثمنها) فقال الأعرابي : من يشهد لك بهذا فقام خزيمة بن ثابت فقال : أنا أشهد بذلك فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : ( من أين علمت ؟ أحضرت ابتياعي لها ؟) فقال : لا ، ولكن علمتُ ذلك من حيث علمتُ أنك رسول الله فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : (قد أجزتُ شهادتك وجعلتها شهادتين) فسُمّي خزيمة بذلك : (ذا الشهادتين) " الشافي في الإمامة مج4 ص96 .
[13] وهي الآيات القرآنية التي تأمر بأن يُحكَم بالعدل والحقّ والقسط .
[14] كقوله تعالى : " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ، وقوله تعالى : " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما .. " وغيرهما .
[15] عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " قال : سمعته يقول : الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره لأنه أمين الله في خلقه ، وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه ويمضي ويدعه .. إلى آخر الرواية " .
[16] وهي عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
[17] " قال : في كتاب علي (عليه السلام) أن نبياً من الأنبياء شكا إلى ربه فقال : يا ربّ كيف أقضي في ما لم أشهد ولم أرَ ؟ قال : فأوحى الله عز وجل إليه أن احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به ، وقال : هذا لمن لم تقم له بيّنة " .
[18] للقطع بعدم الخصوصية لها وإنما ذُكرا لكونهما أبرز مصاديق ما يُورث العلم الحسّي .
[19] يعني معتبرة الحسين بن خالد .
[20] يعني معتبرة سليمان بن خالد ومعتبرة الحسين بن خالد .
[21] وهو منع الإطلاق في معتبرة سليمان بن خالد .
[22] أي في الاحتمال الأول .