33/04/09


تحمیل
  (بحث يوم السبت 9 ربيع الثاني 1433 هـ 87)
 كان الكلام في أن الحاكم هل يستقلّ بإحلاف المدّعى عليه إذا لم يُقِم المدّعي البيّنة أم أن استحلافه له يتوقف على رضا المدّعي وطلبه ، ومرّ ذكر أدلة القول المشهور وهو التوقف وتقدّم الكلام في الدليل الثاني وهو معتبرة ابن أبي يعفور [1] ، وتقريب الاستدلال بها على محل الكلام بوجوه شرعنا في بيان الوجه الأول وهو مبني على أمرين :
 الأول : الالتزام بأن الجملة الشرطية الواردة في المقام تدلّ على المفهوم .
 الثاني : أن يكون المراد بقوله : (فاستحلفه) هو استحلاف الحاكم .
 وبناءً على هذين الامرين فإن الجملة الشرطية تكون ثلاثية الأطراف تتألّف من موضوع وحكم وشرط فالحكم بسقوط حق المدّعي وذهاب اليمين به موضوعه إحلاف الحاكم للمنكر وشرطه رضا المدّعي بذلك فمفاد المعتبرة على هذا هو أن إحلاف الحاكم للمنكر إنما يَذهب بالحقّ ويُسقط الدعوى إذا كان برضا من المدّعي لا بدونه .
 ولكنْ يمكن التأمل في كلّ من هذين الأمرين :
 أما الثاني منهما : فمن جهة أن التعبير بـ (فاستحلفه) ليس واضحاً أن المقصود به استحلاف الحاكم للمنكر إذ أن هناك احتمالاً معتدّاً به أن يكون المقصود هو استحلاف المدّعي له وبناء عليه لا يتم التقريب المذكور للاستدلال وذلك لأن القضية تكون حينئذ ثنائية الأطراف مؤلّفة من حكم مترتب على موضوعه فلا تدلّ على المفهوم الذي هو الانتفاء عند الانتفاء بل إنما تدلّ على أن سقوط حقّ المدّعي وذهاب الدعوى مترتب على إحلاف المدّعي للمنكر وإحلافه له يستبطن رضاه بحلفه عادة وليس هو شيئاً يمكن فرضه زائداً عليه بحيث يمكن معه فرض عدمه بل حيثما فُرض إحلاف المدّعي للمنكر فُرض معه عادة رضاه بحلفه فليس لدينا في هذه القضية إلا طرفان : حكم بسقوط الحقّ وموضوع هو الإحلاف فتفتقد هذه القضية - بناءً على الاحتمال المطروح - للشرط الذي هو قوام المفهوم ، نعم .. قد نلتزم بالمفهوم ولكن بتقريب آخر سيأتي ذكره .
 وأما الأمر الأول : فلو بنينا على أن الجملة الشرطية عموماً لها دلالة على المفهوم بمعنى أن للشرط دخالة في الحكم بحيث ينتفي الحكم بانتفائه - وسلّمنا أن المقصود هو استحلاف الحاكم ولكن مع ذلك لا نسلّم أن الجملة الشرطية في ما نحن فيه لها مفهوم إذ غاية ما يُستفاد منها سقوط الحقّ في حالة استحلاف الحاكم مع رضا المدّعي فهي بحدّ المنطوق وأما استحلاف الحاكم غير المقرون برضا المدّعي - الذي هو مفاد المفهوم - فهي ساكتة عنه .
 ومنشأ هذه الدعوى أن الأداة المستعملة في المقام وهي (إذا) ليست من أدوات الشرط الصريحة من قبيل (إن) بل هي ظرف زماني [2] قد لا يُستفاد منه إلا الحكم في هذا الظرف وهو ما إذا رضي المدّعي بيمين المنكر فلا دلالة لها على انتفاء هذا الحكم في غير هذا الظرف لتدل على المفهوم .
 الوجه الثاني [3] : أن يقال - بعد التسليم بأن القضية الشرطية في ما نحن فيه ليس لها مفهوم وأن غاية ما تدل عليه هو الحكم بإسقاط الحقّ وذهاب الدعوى في حالة رضا المدّعي بيمين المنكر إن اللازم من كون الحكم بسقوط الحقّ ثابتاً في الواقع لإحلاف الحاكم مطلقاً [4] هو لغوية التقييد برضا المدّعي في كلام الإمام (عليه السلام) حيث قال : (إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر) مع أن ذكر هذا القيد لا بد أن يكون لبيان دخالته في ثبوت الحكم لموضوعه وعلى ذلك فيتوقف إحلاف الحاكم للمنكر على رضا المدّعي لكي لا يلزم كون القيد مستدركاً .
 وهذا التقريب وإن لم يعتمد على الأمر الثاني المتقدّم - وهو كون الجملة الشرطية لها مفهوم - إلا أنه يعتمد على الأمر الأول وهو كون المراد بفاعل الاستحلاف في قوله (عليه السلام) : (استحلفه) هو الحاكم ليكون لدينا أمور ثلاثة : موضوع [5] وحكم [6] وقيد [7] ويكون الحكم متوقفاً على حصول قيده فيثبت المطلوب من غير حاجة إلى إثبات المفهوم [8] .
 وأما إذا قلنا إنه يُحتمل في الرواية أن يكون المراد بفاعل الاستحلاف هو المدّعي فلا يكون لدينا في الحقيقة إلا أمران موضوع وحكم وأما رضا المدّعي فليس هو أمراً منحازاً ليتأتى فرض وجوده أو فرض عدمه بل هو مستبطَن في نفس الاستحلاف إذ كلما فُرض إحلاف المدّعي للمنكر فُرض رضاه بحلفه عادة .
 وعلى ذلك فيكون المقام من قبيل ترتّب الحكم على موضوعه [9] فكأنه قيل : (إذا استحلف المدّعي المنكر فحلف ذهبت اليمين بحقّ المدّعي) فلا يتأتّى حينئذ هذا التقريب .
 الوجه الثالث : أن يُبنى على الالتزام بأن المقصود بفاعل الاستحلاف هو المدّعي ولو بمعنى طلبه للاستحلاف ويقال إن من المسلّم به أن القائم بعملية الإحلاف إنما هو الحاكم وأما المدّعي فلا يصح منه الانفراد بعملية الاستحلاف حتى على القول بالتوقف بل إن القائلين بعدم التوقف ليس مقصودهم منه استقلال المدّعي دون الحاكم باستحلاف المنكر بل مقصودهم أن بإمكانه أن يأذن للحاكم باستحلاف المنكر أو لا يأذن له فمباشرة استحلاف المنكر إذاً هي وظيفة الحاكم فإذا اعتمدنا هذا أصلاً موضوعياً في محل الكلام وضممنا إليه ما تقدّم من أن المراد بالاستحلاف هو مجرد إذن المدّعي للحاكم بذلك فيمكن حينئذ أن يتم كلا التقريبين المتقدّمين لإثبات الرأي المشهور والصحيح وهو التوقف بأن يقال :
 إن الحكم وهو سقوط الحقّ وذهاب الدعوى مترتب على موضوع وهو إحلاف الحاكم وهذا الأمر بحسب التقريب الأول مشروط بطلب المدّعي اليمين من المنكر فإحلاف الحاكم للمنكر لا يُسقط الحقّ ويَذهب بالدعوى إلا مع هذا الشرط لا مطلقاً .
 هذا بناءً على تمامية مفهوم الشرط الذي اعتمده هذا التقريب ، وأما بناءً على عدم تماميته كما هو مبنى التقريب الثاني فقد تقدّم أن ذكر الاستحلاف من قبل المدّعي المتضّمن للرضا بحلف المنكر لا بد أن يكون لفائدة وإلا لزمت اللغوية إذ التعبير وارد في كلام الإمام (عليه السلام) لا في كلام السائل حتى يُحمَل - مثلاً - على أنه محلّ ابتلائه في ما سأل عنه والفائدة هي بيان أن لرضا المدّعي وطلبه حلف المنكر - ولو من الحاكم [10] - دخلاً في ثبوت هذا الحكم بإحلاف الحاكم .
 إذاً ففاعل الاستحلاف وإن كان من البعيد جداً إرجاعه إلى الحاكم لكن الاستدلال لا يتوقف على ذلك لما تقدّم من أن المباشر للاستحلاف إنما هو الحاكم وهذه قضية مفروضة في محلّ الكلام - وسيأتي بحثها إن شاء الله تعالى ، وما ذكره المحقق في الشرايع من أن الاحلاف حقّ للمدّعي كما تقدّم النقل عنه ليس معناه استقلاله بهذا الأمر بل المقصود به كما أشرنا إليه - أنه هو الذي يجيز للحاكم أن يستحلف المنكر ، وأما التصدّي للاستحلاف فهو وظيفة الحاكم فمفاد الرواية بناءً على كل من التقريبين المتقدمين - أن إحلاف الحاكم إنما يترتب عليه الأثر إذا طلبه المدّعي ورضي به لا مطلقاً .
 هذا في ما يتعلّق بالدليل الثاني الذي استُدلّ به على قول المشهور - وهو التوقف - .. وسيأتي الكلام في الدليل الثالث إن شاء الله تعالى .


[1] " قال : إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قِبَلَه ذهبت اليمين بحقّ المُدّعي فلا دعوى له " .
[2] أقول : قال في المغني في معنى إذا : (والثاني من وجهي إذا : أن تكون لغير مفاجأة ، فالغالب أن تكون ظرفاً للمستقبل مضمّنة معنى الشرط) ، وقد عقد بعد ذلك فصلاً في خروجها عن الشرطية (المغني مج1 ص93) .
[3] للاستدلال على اشتراط إحلاف الحاكم برضا المدّعي وتوقفه عليه .
[4] أي سواء رضي المدّعي أم لم يرض .
[5] وهو إحلاف الحاكم للمنكر .
[6] وهو سقوط حق المدّعي وذهابه باليمين .
[7] وهو رضا المدّعي بإحلاف المنكر .
[8] أي من غير حاجة إلى إثبات المفهوم من الدرجة الأولى وهو الانتفاء عند الانتفاء بالجملة وإلا فإن ما ذُكر في التقريب الثاني يعتمد على مفهوم القيد وهو مفهوم من الدرجة الثانية ومفاده الانتفاء عند الانتفاء في الجملة .
[9] نظير ما ذُكر في مناقشة الأمر الثاني للوجه الأول .
[10] أي بأن يطلب من الحاكم إحلاف المنكر والمباشر للإحلاف هو الحاكم - .