33/12/21


تحمیل
  (بحث يوم الثلاثاء 21 ذو الحجة 1433 هـ 190)
 الموضوع : الكلام في المسألة الرابعة والخمسين : الصورة الثالثة وهي ما إذا كان الخصم جاحداً أو مماطلاً وفيها قولان الجواز وهو المشهور وعدم الجواز وهو قول المحقق في النافع ومن وافقه / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
 
 انتهى الكلام إلى الصورة الثالثة وهي ما إذا كان الخصم جاحداً أو مماطلاً [1] وكان للمدّعي بينة تثبت عند الحاكم وكان بإمكانه الوصول إليه فهل يجوز له التقاصّ أو لا ؟
 ذهب أكثر علمائنا (رض) إلى الجواز في هذه الصورة حتى مع التمكن من الوصول إلى الحاكم [2] ، نعم .. خالف المحقق في النافع لا في الشرايع وذهب إلى عدم الجواز وحكم بلزوم الرجوع إلى الحاكم وأخذ الحقّ عن طريقه وهو المحكي عن جماعة آخرين منهم تلميذه الفاضل الآبي صاحب كشف الرموز وكذلك فخر المحققين نجل العلامة .
 واستدل للأول [3] بإطلاق بعض النصوص الواردة في الباب وأن مقتضى إطلاقها جواز المقاصة حتى مع إمكان الترافع إلى الحاكم الشرعي فضلاً عن صورة عدم إمكان الترافع :
 منها : معتبرة أبي بكر الحضرمي المتقدّمة :
 " قال : قلت : رجل كان له على رجل مال فجحده إيّاه وذهب به ثم صار بعد ذلك للرجل الذي ذهب بماله مال قبله أيأخذه منه مكان ماله الذي ذهب به منه ذلك الرجل ؟ قال : نعم " [4] .
 فإن مقتضى إطلاقها جواز التقاصّ في صورة الجحود مطلقاً سواء كان قادراً على الوصول إلى حقه عن طريق الترافع إلى الحاكم الشرعي أو لم يكن قادراً على ذلك وإن كان هذا الإطلاق من جهة ترك الاستفصال في مقام الجواب [5] .
 ومنها : رواية جميل بن درّاج المتقدمة التي قلنا إن فيها ضعفاً سندياً فتكون مؤيدة لأنها بالمضمون نفسه ، وبترك الاستفصال أيضاً يمكن تعميم الحكم - وهو جواز المقاصة - لصورتي التمكن من الترافع إلى الحاكم الشرعي وعدم التمكن .
 ولعل المتتبع يجد غير ما تقدّم ذكره من الروايات من هذا القبيل .
 هذه هي عمدة أدلة القول الأول .
 ولكن استُشكل في هذا الدليل :
 أولاً : بالمنع من إطلاقها [6] لمحل الكلام باعتبار أنها واردة مورد الغالب والغالب عدم التمكن من الترافع إلى الحاكم الشرعي من جهة أن الزمان كان زمان تقية وفي مثله يصعب جداً أن يترافع شخص إلى الحاكم الشرعي الواجد للشرائط واستنقاذ الحقّ عن طريقه [7] لاسيما وأن الدولة كانت هي المستقلة بتنصيب القضاة من أتباعها .. إذاً فالغالب هو عدم التمكن من الترافع إلى الحاكم الشرعي والروايات منزّلة على هذا الغالب ولذا يُشكّك في وجود إطلاق فيها يشمل صورة التمكن من الترافع إلى الحاكم الشرعي الذي هو محلّ الكلام [8] فتختص بالصورة الثانية .
 ولكن يمكن دفع هذا الاستشكال من جهة أن الثابت في محلّه من علم الأصول أن الغلبة الخارجية لا تمنع من انعقاد الإطلاق إذا تمّت مقدماته ، والإطلاق هاهنا كما أشرنا ناشئ من ترك الاستفصال وليس هو إطلاقاً لفظياً ليُتمسّك بانعقاده ولذا يبقى احتمال التمكن من الترافع إلى الحاكم الشرعي موجوداً ولو لأجل الاستئذان منه في المقاصة باعتبار أن الطرف الآخر جاحد وممتنع والحاكم وليّ الممتنع وهذا الأمر بهذا المقدار محتمل .
 ويؤيد هذا الجواب رواية إسحاق بن إبراهيم :
 " أن موسى بن عبد الملك كتب إلى أبي جعفر (عليه السلام) يسأله عن رجل دفع إله رجل مالاً ليصرفه في بعض وجوه البر فلم يمكنه صرف المال في الوجه الذي أمره به ، وقد كان له عليه مال بقدر هذا المال ، فسأل : هل يجوز لي أن أقبض مالي أو أردّه عليه ؟ فكتب : اقبض مالك مما في يدك " [9] ، والمفهوم من قوله : (فلم يمكنه صرف المال في الوجه الذي أمره به) أنه أخذ المال بعد أن لم يمكنه صرفه في وجهه المأمور به .
 وقوله : (أن أقبض مالي أو أردّه عليه ؟) هذا حسب نقل الشيخ صاحب الوسائل (قده) ولكن في المصدر وهو التهذيب - وغيره ممن ينقل عنه عُبّر بقوله : (أن أقبض مالي أو أردّه عليه وأقتضيه؟) ، والاقتضاء ظاهر في إمكان الوصول إلى المال عن طريق الحاكم الشرعي فكأن الرواية تفترض التمكن من الترافع إلى الحاكم الشرعي وبالرغم من هذا قال له الإمام (عليه السلام) نعم - أي يجوز لك المقاصة - .
 وإنما سيقت هذه الرواية على حدّ التأييد لا الاستدلال باعتبار عدم تمامية سندها من جهة عدم ثبوت وثاقة عبد الله بن محمد بن عيسى المعروف ببنان - وهو أخو أحمد بن محمد بن عيسى ، وكذلك من جهة إسحاق بن إبراهيم فإنه ضعيف أو مجهول .
 وثانياً : ما يُطرح في نصوص هذا الباب من أنه من الممكن أن يكون جواب السؤال (عليه السلام) بـ(نعم) ليس من باب بيان الحكم الشرعي للمسألة وإنما من باب كونه إذناً خاصاً من قبل الإمام (عليه السلام) في جواز التقاصّ ولا إشكال في جواز التقاصّ مع الإذن الخاص منه (عليه السلام) وإنما الكلام في جوازه شرعاً لا باعتبار مثل هذا الإذن فإذا حُملت الروايات على الإذن الخاص فهي لا تنفع في مقام إثبات الجواز مع عدم الإذن الخاص كما هو المفروض في محلّ الكلام .
 وهذا الاستشكال يمكن دفعه أيضاً بأنه خلاف الظاهر فإن الظاهر من السؤال أنه سؤال عن حكم المسألة شرعاً حيث يقول السائل : رجل كان له على رجل مال فجحده إيّاه وذهب به ثم صار بعد ذلك للرجل الذي ذهب بماله مال قبله أيأخذه منه مكان ماله .. ؟ قال : نعم) فالجواب يكون أيضاً عن حكم المسألة شرعاً لا أنه إذن خاص يصدر من الإمام (عليه السلام) لخصوص هذا السائل ولذا لم يفهم أحد من الفقهاء اختصاص الجواز في هذه الرواية بالسائل فقط حتى لو أمكن التعدّي إلى غيره بإلغاء الخصوصية وأمثالها فإن الجواب بالنتيجة يختصّ بالسائل ويكون إذناً خاصاً به ولمن يشبهه في الظروف التي هو عليها بل فهموا منها الجواز شرعاً لأن السؤال عن حكم شرعي والجواب لا بد أن يكون كذلك .
 هذه هي أدلة القول الأول الذي هو المعروف - وتبيّن أنه لا بأس بالتمسك بإطلاق بعض النصوص لإثبات جواز المقاصّة في الصورة الثالثة .
 القول الآخر وهو النادر والذي أشرنا إلى كونه مختار المحقق في النافع استُدل له :
 أولاً : بالأصل وهو عدم جواز التقاصّ .
 وثانياً : بأن الحاكم يقوم مقام المالك فمع عدم التمكن من أخذ الإذن من المالك فلا بد من أخذه من الحاكم لأنه يقوم مقامه ويُنزّل منزلته وبالنتيجة أنه لا يجوز التقاصّ على نحو الاستقلال في ما هو محلّ الكلام .
 وهذان الدليلان من الواضح أنهما لا يتمّان ولا تصل النوبة إليهما مع وجود الدليل الاجتهادي الصحيح الظاهر في جواز التقاصّ ، وبعبارة أخرى : أنه مع وجود الدليل على جواز التقاصّ يكون ذلك إذناً من قبل الشارع المقدّس بالتقاصّ ومعه لا نحتاج إلى أخذ الإذن من غيره .
 وأما بالنسبة إلى الصورة الرابعة على الطرح الأول لها وهي صورة المماطلة فقد تبيّن حكمها مما تقدّم فمع عدم التمكن من الترافع إلى الحاكم الشرعي لا ينبغي الإشكال في جواز التقاصّ لما ذُكر في الصورة الثانية ومع التمكن من الوصول إلى الحاكم الشرعي فالظاهر أن الحكم أيضاً كذلك [10] باعتبار أحد أمور ثلاثة :
 الأول : استفادة ذلك من نفس الروايات بأن يُدّعى أن بعضها مشتمل على الإطلاق الذي يعمّ الجاحد والمماطل ومشتمل أيضاً على الإطلاق الذي يعمّ حالتي عدم إمكان الترافع إلى الحاكم الشرعي وإمكان ذلك فحينئذ يُستدلّ بهذه الأدلة على المطلوب .
 الثاني : من جهة أن معظم الروايات عبّرت بالجحود فيمكن التمسّك بإطلاقه .
 الثالث : أن يقال بإمكان التعدي إلى المماطل لما أشرنا إليه من أن الفقهاء التزموا بأنهما [11] يتساويان في الحكم فإذا ثبت في الجاحد أنه يجوز التقاصّ منه فيثبت في المماطل أيضاً ، وسرّ هذا التعدي على فرض اختصاص الأدلة بالجاحد ولم يمكن العثور على إطلاق في إحدى الروايات يشمل المماطل - هو إلغاء الخصوصية والجزم بعدم الفرق لأن المسألة هي وصول صاحب المال إلى حقّه فأيّ فرق بين الشخص الذي أخذ المال وجحده أو أخذ المال وأقرّ به لكنه امتنع من أدائه فعلى كل حال لا بد للمأخوذ منه من أن يصل إلى حقه فإذا دلّ دليل على جواز المقاصّة بالنسبة إلى الجاحد - كما هو كذلك - فيمكن التعدي منه إلى المماطل باعتبار عدم الخصوصية وعدم احتمال الفرق إذ كلاهما في الحقيقة ممتنع من أداء الحقّ فإذا جاز لصاحبّ الحقّ أن يقتصّ من الجاحد جاز له ذلك من المماطل أيضاً .
 وأما على الطرح الآخر لهذه الصورة وهو ما إذا كان الامتناع عن الأداء بحقّ من جهة نسيانه أو اعتقاده أداء الدين فهل تجوز المقاصة هاهنا أم لا ؟
 قد يقال بجواز التقاصّ في هذه الصورة وذلك لإطلاق بعض الروايات وهي صحيحة البقباق المتقدمة: " أن شهاباً ماراه في رجل ذهب له بألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم ، قال أبو العباس : فقلت له : خذها مكان الألف الذي أخذ منك فأبى شهاب ، قال : فدخل شهاب على أبي عبد الله (عليه السلام) فذكر له ذلك فقال : أما أنا فأحبّ إلي أن تأخذ وتحلف " [12] أي تأخذ بمقدار العين وتحلف على أن لك الحقّ .
 فالإطلاق الذي يُتمسك به بحيث يُستدلّ بهذه الرواية على جواز التقاصّ هاهنا هو من جهة قوله : (ذهب له بألف درهم) بدعوى أن الذهاب لا يختص بالجحود والامتناع بل يشمل حتى الامتناع بحقّ إذ بالنتيجة يصدق أن ذاك ذهب له بألف درهم ولا يمنع افتراض أن امتناعه بحقّ من صدق هذا التعبير : (ذهب له بألف درهم) فيُدعى بأن هذه الرواية مطلقة ومقتضى اطلاقها إمكان التمسّك بها في المقام [13] فتكون دليلاً على جواز التقاصّ في محلّ الكلام .
 وقد يُؤيد هذا ما عُبّر في هذه الرواية بالاستيداع حيث ورد فيها : (واستودعه بعد ذلك ألف درهم) فإن هذا التعبير لا يناسب الجحود والامتناع من دون حقّ لأن الجاحد للمال - أو المقر الممتنع من الأداء - لا يستودع الشخص المجحود مالُه خصوصَ مقدار مساوٍ للمال عادة .. فقد تُجعل هذه قرينة على أن المقصود في المقام ليس هو الامتناع لا بحقّ .
 لكن الظاهر أن هذه القرينة غير تامة وذلك لأن هناك من الروايات ما يجمع بين الجحود وبين الوديعة كما في صحيحة معاوية بن عمار :
 " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يكون لي عليه الحق فيجحدنيه ثم يستودعني مالاً .. إلى آخر الرواية " [14] .
 وأما أصل الدعوى وهي شمول صحيحة البقباق لمحلّ الكلام بدعوى أن قوله : (ذهب له بألف درهم) لا يختصّ بالجحود والمماطلة بل يشمل ما إذا امتنع بحقّ .. فليس واضحاً لأن المتفاهم العرفي من قوله : (ذهب له بألف درهم) هو الاعتداء والأخذ لا بحقّ وهو إنما يناسب الامتناع لا بحقّ فافتراض شموله للامتناع بحقّ ليس محرزاً وإن كان الجمود على النصّ قد يُساعد على الشمول إلا أنه عرفاً غير مقبول .. وحينئذ فالاستدلال بهذه الرواية على جواز التقاصّ - لاسيما مع إمكان الترافع إلى الحاكم الشرعي والوصول إلى الحقّ عن طريقه - مشكل جداً .
 نعم .. في صورة عدم إمكان الترافع إلى الحاكم الشرعي يتعيّن الرجوع إليه لأخذ الإذن منه في التقاصّ ولا يجوز لصاحب الحقّ الانفراد مستقلاً به [15] فإنه ليس عليه دليل واضح .
 
 
 
 
 
 
 
 
 


[1] بعد ما تقدّم من إلحاق المماطل بالجاحد .
[2] فضلاً عن الصورة الثانية التي أُخذ في مضمونها عدم تمكن المدّعي من الوصول إلى الحاكم .
[3] أي القول بالجواز .
[4] الكافي مج5 ص98 ، الوسائل مج17 ص274 .
[5] فإن كثيراً من الإطلاقات تثبت في الأدلة بهذا الطريق والمقام منها أي عندما يكون السؤال محتملاً لأمرين والإمام (عليه السلام) لا يُفصّل بينهما في مقام الجواب وإنما يُجيب بالإطلاق بلا تفصيل فترك الاستفصال في مقام الجواب من قبل الإمام (عليه السلام) يكون دليلاً على العموم والإطلاق بمعنى أن الجواب يشمل كلا الاحتمالين الموجودين في السؤال (منه دامت بركاته) .
[6] يعني معتبرة الحضرمي .
[7] وإلا فإن مجرد التمكن من الترافع إلى الحاكم الشرعي لا يكفي وحده بل لا بد من استنقاذ الحقّ عن طريقه وهو غير متيسّر للحاكم الشرعي لأنه لم يكن مبسوط اليد في ذلك الزمان (منه دامت بركاته) .
[8] التي هي الصورة الثالثة .
[9] التهذيب مج6 ص349 ، الوسائل مج17 ص275 .
[10] أي جواز التقاصّ .
[11] أي الجاحد والمماطل .
[12] الاستبصار مج3 ص53 ، الوسائل مج17 ص272 .
[13] وهو صورة الامتناع بحقّ .
[14] التهذيب مج 6 ص197 ، الوسائل مج17 ص276 .
[15] أي بالتقاصّ .