34-06-17


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

34/06/17

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضـوع:- مسألة ( 378 ) / الواجب الرابع من واجبات حج التمتع ( أفعال منى في اليوم العاشر ) / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
 والجواب:- قد تذكر في هذا المجال عدة وجوه:-
 الوجه الأول:- صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة في أبحاث سابقة عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( لا بأس أن تقضي المناسك كلها على غير وضوء إلا الطواف فإن فيه صلاة والوضوء أفضل ) [1] - وواضح أن المقصود من كلمة ( تقضي ) ليس هو القضاء بالمعنى المصطلح بل بمعنى الفعل يعني لا بأس بأن تفعل وتأتي وهذا شيء واضح - ودلالة هذه الرواية على عدم اعتبار الطهارة في الرمي واضحة حيث ذكرت أن الطواف من جهة وجود الصلاة فيه هو الذي يعتبر فيه الطهارة وما سوى ذلك فلا.
 نعم قد تقول:- إن هذا عموم وهو قابل للتخصيص بروايتنا - أي صحيحة محمد بن مسلم - حيث اشترط في الرمي الطهارة فيكون المورد من باب العام والخاص فتخصّص العموم.
 قلت:- هذا شيء وجيه ولكن تقدم منّا أيضاً إن العموم المذكور جاء بلسان الحصر حيث قيل:- ( لا بأس أن تقضي الناسك كلها على غير وضوءٍ إلا الطواف ) ويمكن أن يقال إن مثل اللسان المذكور آبٍ عرفاً عن التخصيص ولولا هذه النكتة لكان المناسب هو التخصيص وهذه قضيّة يجدر الالتفات إليها ، وقد ذهب غير واحدٍ إلى أن مثل هذا العموم يخصّص كالسيد الخوئي(قده) فهو قد ذهب إلى أنه قابل للتخصيص بل إنه يقول أكثر من هذا فإنه حتى مثل صحيحة محمد بن مسلم الواردة في باب الصوم والتي تقول:- ( لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب عن ثلاث خصال ) إن مثل هذا اللسان الذي حدّد بثلاثة هو قابل للتخصيص - يعني بالمفهوم وهو أن غير هذه الثلاثة لا تضر بالصائم - فيخصّص فلذلك تكون الروايات التي دلت على مفطريّة الجنابة أو الغبار يلتزم بأنها مفطرة ويخصّص هذا العموم من خلال هذه الروايات الدالة على مفطريّة هذه الأمور . إذن هذه المسألة مهمّة لابد وأن نتخذ فيها قراراً فبناءً على أنه قابل للتخصيص سوف نخصِّص ونقول إن الغبار وغيره مفطر بينما إذا أنكرنا القابلية فسوف تصير معارضةً ونحمل ما دلَّ على المفطريّة على الاستحباب بقرينة ذلك العموم الذي لا يقبل التخصيص.
 إذن صحيحة معاوية التي تقول:- ( لا بأس أن تقضي المناسك كلها ... ) إنما يصح أن تجعل قرينة على الاستحباب - يعني أن الطهر الوارد في صحيحة بن مسلم هو مستحب - فيما إذا قلنا بأن هذا العموم لا يقبل التخصيص ، وأما إذا التزمنا بكونه قابلاً للتخصيص فهذا الوجه سوف يكون باطلاً - يعني أنه لا يثبت لنا الاستحباب -.
 الوجه الثاني:- صحيحة معاوية بن عمار أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث:- ( ويستحب أن ترمي الجمار على طهرٍ ) [2] بتقريب أنها عبرت بجملة ( ويستحب ) وهذا واضح بأن الطهر مستحب في باب الجمار وليس لازماً فتصير هذه الصحيحة موجبة لرفع اليد عن ظهور تلك في اللزوم نحملها على شدَّة الاستحباب بقرينة هذه المصرحة بأنه يستحب.
 ونلفت النظر إلى قضية جانبية:- وهي أن مثل هذه المصطلحات ليست موجودة في الروايات عادةً - يعني مثل مصطلح ( يستحب ) - وإنما هو مصطلح فقهي أو فقهائي إن صح التعبير ولكن لا نعدم وجوده بشكلٍ مطلق فمثل هذه الرواية قد عبّرت بلفظ ( يستحب ) وهي رواية نادرة.
 وفيه:- إن تماميّة الاستدلال موقوفة على أن يكون المقصود من هذا اللفظ هو المعنى المتداول في يومنا هذا - يعني ما يرجح فعله مع جواز تركه - بل يحتمل من أن المقصود من كلمة ( يستحب ) هو معنىً آخر وهو اللزوم ولكن بدرجة أقل فكأن الذي هو أكبر درجة يعبَّر عنه بالوجوب والذي هو أقل درجة يعبَّر عنه بالاستحباب ، فهذه الكلمة المذكورة لا نجزم بأن المراد منها حينما استعملها النص هذا المعنى المتداول حتى تصير الرواية موجبة لرفع اليد عن ظهور روايتنا التي هي محل كلامنا.
 إن قلت:- هل لا نطبق استصحاب القهقرى الذي نستعين به في إثبات الظواهر في عصر صدور النص فإنه حينما نريد أن نفهم النص نفهم في البداية ما هو الظاهر في زماننا هذا فإذا تحدّد الظهور في زماننا المعاصر نضمّ مقدمةً لإثبات أن هذا الظهور كان موجوداً في عصر صدور النصّ هي استصحاب القهقرى الثابت بالسيرة العقلائية فإن العقلاء قد جرت سيرتهم على ذلك ، يعني إذا كان هناك ظهور ثابت في زماننا فيبنون على ثبوته في الزمان السابق أيضاً ولذا جرت سيرت العقلاء على شراء كتاب نهج البلاغة وتفسير الكامل لابن الأثير وتاريخ الطبري وما شاكل ذلك والحال إن هذه قد صدرت من مؤلفين في زمن سابق وبعيد فكيف نثبت معانيها فلعل المعاني متغيّرة فلعل ما نفهمه في زماننا يغاير ما يريدونه ؟ وهذا إشكال سيّال فالمهم هو إثبات الظهور في عصر صدور النص ولا يكفينا الظهور المعاصر في زماننا إذن العقلاء حينما يشترون هذه الكتب فهذا معناه أنهم لا يبالون لاحتمال التغيّر بل يبنون على أن هذا المعنى الذي نفهمه في هذا اليوم هو نفس المعنى سابقاً لا أنه معنىً آخر وهذا ما يصطلح عليه باستصحاب القهقرى وإنما سمي بذلك لأن المعنى نجرّه إلى الزمن السالف الذي مضى لا إلى ما يأتي الذي يعبّر عنه بالاستصحاب الاستقبالي ولا إلى زماننا الفعلي حتى يكون هو الاستصحاب المتعارف ، وعلى أي حال كما في سائر المواضع والموارد نبني على التمسك بالسيرة العقلائية فلنتمسك بها في مقامنا هذا ؟
 قلت:- إن هذا وجيه إذا لم يُظنّ بالتغير وأن المعنى معنىً مغاير فهنا يتمسك العقلاء بأصالة عدم التغيّر أو باستصحاب القهقرى أو قل جرت سيرتهم على البناء على عدم التغيّر ، أما في المورد الذي يُظنّ فيه بكون المعنى معنىً جديداً فهنا حيث لا نجزم بانعقاد السيرة على البناء على عدم التغيّر فيقتصر على القدر المتيقن لأنها دليل لبّي ، وعلى الأساس يشكل التمسك بالسيرة في مقامنا لما أشرنا إليه من الظن بأن هذا المعنى مصطلح جديد أي أن هذه الأحكام الخمسة بهذه التسمية هي مصطلحات فقهية جديدة - إذن هذه الرواية يشكل التمسك بها.
 الوجه الثالث:- رواية أبي غسان [3] حميد بن مسعود:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رمي الجمار على غير طهور ، قال:- الجمار عندنا مثل الصفا والمروة حيطان إن طفت بها على غير طهرٍ لم يضرّك والطهر أحبُّ إليَّ فلا تدعه وأنت قادرٌ عليه ) [4] ودلالتها على أن ذلك مستحبٌّ وليس بواجبٍ واضحة جداً . ولكنها ضعيفة السند لجهالة حميد بن مسعود.
 الوجه الرابع:- أن يقال:- إن المسألة ابتلائية وفي مثلها يلزم أن يكون الحكم واضحاً وذلك الحكم الواضح ليس إلا الاستحباب فإن المعروف بين الفقهاء هو ذلك ولا يحتمل أن ذلك الحكم الواضح الصادر من الشارع كان هو اللزوم ومع ذلك الذي انعكس على الفقهاء وصاروا إليه هو الاستحباب إن هذا يطمأن بعدمه إذ هو خلف كون الحكم واضحاً ، وعلى هذا الأساس يثبت أن ذلك الحكم هو الاستحباب . فالنتيجة إذن نخالف ظهور صحيحة محمد بن مسلم ونحملها على الاستحباب لما أشرنا إليه من فتوى الفقهاء بالاستحباب فإننا وإن لم نقل بحجيّة الشهرة أو الإجماع ولكن في خصوص المسائل الابتلائية بما أن لازم ابتلائية المسألة كون الحكم فيها وضحاً فعلى هذا الأساس يلزم أن يكون الحكم الواضح هو ما انعكس على الفقهاء وليس هو إلا الاستحباب فيثبت أن الحكم هو الاستحباب.
 وهذا وجه وجيه لولا أن المخالف في المسألة أشخاصٌ هم من المتقدمين من قبيل السيد المرتضى والمفيد وابن الجنيد - يعني أنه لو كان المخالف من المتأخرين ولم يكن من رموزنا الفقهية والمذهبية لتمّ هذا الوجه - أما بعد أن كان المخالف مثل هؤلاء الأشخاص فتماميّة هذا الوجه محل تردّد وإشكال ، وهذه نكتة يجدر الالتفات إليها.
 الوجه الخامس:- أن ندعي السيرة القطعية للمتشرعة على عدم الالتزام بالوضوء حالة الرمي فإن سيرتهم قد جرت على ذلك . نعم قد يتوضأ البعض ولكن لا من باب لزوم ذلك ، وهذه سيرة لا ندّعيها عند عوامّ الناس فقط حتى يقال بأنها ناشئة من الفتاوى كلا وإنما هي سيرة ثابتة حتى عند الفقهاء فإن سيرتهم جرت على ذلك - يعني أنهم إما أن لا يكونون على وضوءٍ حالة الرمي أو يكونون على وضوءٍ ولكن لا من باب لزوم ذلك - وهذه السيرة لا نحتمل أنها سيرة حادثة جديداً وكانت السيرة في عصر الأئمة على الخلاف فإنه شيءٌ بعيدٌ - يعني أن السيرة سابقاً كانت على لزوم الوضوء حالة الرمي ثم بعد ذلك تغيرت إلى سيرةٍ على عدم لزوم ذلك - إن التغيّر في السيرة شيءٌ بعيدٌ ويحصل الاطمئنان على خلافه ، وعلى هذا الأساس يثبت بذلك أن الحكم الشرعي في الرمي هو رجحان الوضوء لا لزومه لأجل السيرة المذكورة ، وهو شيء لا بأس به فأن تمّ فبها وإلا فينحصر الوجه في رفع اليد عن الظهور بالوجه الأول - أعني صحيحة معاوية بن عمار التي تقول ( لا بأس أن تقضي المناسك كلها .. ) - فإنا نبني على أن مثل اللسان المذكور آبٍ عن التخصيص.
 هذا كله بالنسبة إلى استحباب الطهارة حالة الرمي.
 بقي أن نتكلم في قضية أخرى لم يشر إليها السيد الماتن بل الفقهاء:- وهي أنه من الراجح للمكلف أن لا يقف بعد جمرة العقبة بل ينصرف ، وهذا خاص بجمرة العقبة ولا يعمّ بقيّة الجمار ، والوجه في ذلك عدّة روايات دلت على ذلك:-
 منها:- صحيحة يعقوب بن شعيب:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الجمار ، فقال:- قم عند الجمرتين ولا تقم عند جمرة العقبة ، فقلت:- هذا من السّنّة ؟ فقال:- نعم ) [5] .
 ومنها:- رواية البزنطي التي في سندها سهل عن أبي الحسن عليه السلام:- ( .... وتقف عند الجمرتين الأولتين ولا تقف عند جمرة العقبة ) [6] .
 ومنها:- ورواية سعيد الرومي:- ( رمي أبو عبد الله عليه السلام الجمرة العظمى فرأى الناس وقوفاً فقام وسطهم ثم نادى بأعلى صوته أيها الناس إن هذا ليس بموقفٍ ثلاث مرات ) [7] .
 ومنها:- رواية علي بن جعفر:- ( قال أخي موسى:- إني كنت مع أبي بمنى فأتى جمرة العقبة فرأى الناس عندها وقوفاً فقال لغلامٍ له يقال له سعيد نادِ في الناس إن جعفر بن محمد يقول إن هذا ليس بموضعِ وقوفٍ فارموا وأمضوا فنادى سعيد ) [8] .
 إذن هذا من جملة الأمور الراجحة التي ينبغي الالتفات إليها.


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج13، ص493، ب15 من ابوب السعي، ح1.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص56، ب2 من أبواب رمي جمرة العقبة، ح3.
[3] أو ( بن أبي غسان ) على اختلاف النقل.
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص57، ب2 من أبواب رمي جمرة العقبة، ح5.
[5] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص65، ب10 من أبواب رمي جمرة العقبة، ح1.
[6] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص65، ب10 من أبواب رمي جمرة العقبة، ح3.
[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص66، ب10 من أبواب رمي جمرة العقبة، ح4.
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص66، ب10 من أبواب رمي جمرة العقبة، ح6.