32/11/04


تحمیل

البيان الثاني:- بقطع النظر عن البيان السابق يمكن أن نقول إن بعض الروايات قد أخذت عنوان التصدق وقالت يتصدق بالكفارة من قبيل صحيحة الحلبي ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن فداء الصيد يؤكل من لحمه ؟ قال:- يأكل من أضحيته ويتصدق بالفداء )[1] فإنها قالت ( ويتصدق بالفداء ) أي فداء الصيد وجزاؤه ، فإذا ضممنا إلى ذلك عدم الفصل - إن تم - ثبت بذلك عموم هذا الحكم - أي التصدق لبقية موارد الكفارات - مع تتمة سنشير إليها.

 ومن قبيل موثقة إسحاق المتقدمة حيث جاء في ذيلها ( وقال فيما أعلم:- يتصدق به ) فإنها أخذت عنوان التصدق ، وموردها ليس جزاء الصيد بل السؤال فيها عمن ارتكب في الحج ما يستوجب الدم أيجزيه أن يذبحه عند أهله ؟ فأجاب عليه السلام نعم يجزي ، ثم قال إسحاق ( وقال فيما أعلم - أي الإمام - يتصدق به ) إن ميزة هذه الصحيحة أنها ليست خاصة بجزاء معين بل هي عامة لكل كفارة غايته في باب الحج ، ولكنها تشتمل علـى جنبـة ضعف حيـث أن الـوارد فيهــا ( وقال فيما أعلم:- يتصدق بها ) وقوله ( فيما أعلم ) أي فيمــا أتذكر أنه عليه الســلام قـــال ( يتصدق به ) فإذا كان هذا هو المقصود فيمكن أن يتوقف في حجيته باعتبار أن الناقل إنما يؤخذ بنقله فيما لو كان نقله على سبيل الجزم فيقول ( هذا قال كذا ) ، أما إذا لم يَجزِم بما يَنقُل فلا يُجزَم بانعقاد سيرة العقلاء والمتشرعة على بالأخذ بذلك .

 أن هذه مشكله في هذه الموثقة ، فهي وان كانت من زاوية تشتمل على جنبة ايجابية وهي عدم اختصاصها بكفارة معينة حتى نحتاج إلى ضم فكرة عدم الفصل حتى يقال إن عدم الفصل ليس شيئاً مجزوماً به ، ولكن من جهة التعبير بقوله ( فيما أعلم ) يمكن أن يتوقف في الحجية . وبذلك ينحصر الأمر بصحيحة الحلبي التي نحتاج فيها إلى ضم فكرة عدم الفصل.

 ونحتاج إلى ضم مقدمة أخرى وهي المهمة وهي لا في خصوص صحيحة الحلبي بل في كل رواية اشتملت على كلمة التصدق من دون إضافةٍ إلى الفقراء - وهي بأن يقال إن التصدق لغة يعني مطلق الإحسان والتبرع ، فمن أعطى مالاً لغيره من دون عوض بل تبرعاً وإحساناً فهو صدقة ، فالصدقة في اللغة هي كل تبرع وإحسان ومنه الحديث الشريف ( كل معروف صدقة ) ، ومن مصاديق الصدقة الوقف لأن الواقف يتبرع بما يقفه ، وقد تطلق الصدقة على الزكاة كما في القران الكريم ( إنما الصدقات للفقراء ...... ) ، أما الصدقة بمفهومها الضيق في زماننا وهو كونها لخصوص الفقراء فلا يوجد في اللغة ذلك ، وعليه فيشكل التمسك بهذه الروايات المشتملة على كلمة التصدق إذ يمكن لقائل أن يقول إن المقصود من التصدق هو أن يذبح الحيوان ويوزعه لكافة الناس فان ذلك إحسان وتبرع ومعروف ولا خصوصية للفقراء ، بل قد تحمل كلمة الصدقة الواردة في أبواب الصدقة وأنها تدفع البلاء وأنه ( داووا مرضاكم بالصدقات ) وأنها تدفع سبعين داء وغيرها على مطلق الإحسان لا خصوص الدفع للفقراء - إذ يوجد مجال لذلك - نعم قد يدعى وجود انصراف عرفي ، فحينما يقال ( يتصدق ) يفهم العرف في زماننا هذا أنه يتصدق على الفقراء فإذا شككنا في أن هذا الظهور حادث أو أنه قديم فنضم إلى ذلك القاعدة التي نضمها في سائر الموارد فانه في سائر الموارد نقول صيغة افعل مثلاً ظاهرة في الوجوب في زماننا ولكن كيف نثبت أنها في عصر النص كذلك ؟ انه توجد قضية جرت عليها سيرة العقلاء والمتشرعة وهي البناء على أن ما هو ثابت الآن ثابت فيما سبق أيضاً ولا تغير في المعنى ، ويمكنك أن تصطلح على ذلك بأصالة عدم التغير أو أصالة وحدة المعنى أو استصحاب القهقرى حيث أن اليقين الآن والشك فيما سبق فنسحب المتيقن من الآن إلى ما مضى.

 وعلى أي حال إن هذه القضية ثابتة بالسيرة العقلائية الجزمية - كما نبهنا على ذلك أكثر من مرة في علم الأصول - فالسيرة جرت على أننا نشتري نهج البلاغة وتاريخ الطبري ونقرأهما ..... وهكذا ، فإذا لم نبن على هذا الأصل فشراء هذه الكتب سوف يكون سفهاً ولغواً لأنك تتمسك بما هو ظاهر الكلام الآن وما يدريك أن نفس هذا الظاهر كان نفسه سابقاً ، فلولا أصالة الثبات في اللغة لكان شراء هذه الكتب ومطالعتها لغواً ، وتوجد وجوه أخرى ...

 إذن يمكن أن يدعى انصرافها إلى خصوص الفقراء ومعه يتم المطلوب ، فان تم هذا وإلا فننتقل إلى البيان الثالث.

البيان الثالث:- التمسك بالأصل العملي فيقال إذا تعذر إثبات أن الكفارات خاصة بالفقراء وان التصدق خاص بهم فننتقل إلى الأصل العملي لنلاحظ ماذا يقتضي فهل يقتضي التصدق على خصوص الفقراء أو يقتضي الأعم ؟

يمكن في البداية أن يقال:- إن الأصل يقتضي الأعم لأن المورد من موارد الدوران بين التعيين والتخيير ، فنشك هل يتعين علينا التصدق على خصوص الفقراء أو يكفي مطلق التصدق ، فانه نظير أن نشك أن الواجب في العتق هل هو مطلق الرقبة أو خصوص الرقبة المؤمنة ؟ فيقال في الجواب إن قيد الإيمان كلفة زائدة ونشك في اشتغال الذمة بها ، فاصل العتق نعلم باشتغال الذمة به وأما ما زاد على ذلك فهو شك في قيد زائد فنطبق حديث ( رفع ما لا يعلمون ) بلحاظه وبالتالي ننفي قيد التعيين ، أي ننفي كون الرقبة مؤمنة.

 انه كما نقول ذلك في مثال الرقبة نقوله في مقامنا ، فيقال إن أصل التصدق نعلم باشتغال الذمة به لأن الروايات قد أخذته ، أما أنه يتصدق به على خصوص الفقراء فهو كلفة زائدة فتنفى بالبراءة وتكون نتيجة الأصل العملي كفاية التصدق ولو على الأغنياء ، وهذه نتيجة معاكسة لنتيجة تينك البيانين.

ولكن يمكن أن يعلق ويقال:- إن هذا وجيه لو فرض أنا لم نحتمل أن كون التصدق على خصوص الفقير قد طُعِّم به مفهوم التصدق ، أما إذا احتملنا أن مفهوم التصدق يستبطن عرفاً أن يكون على الفقير بخصوصه فالأصل ينقلب من البراءة إلى الاشتغال لأن الذمة قد اشتغلت بمفهوم التصدق الذي يحتمل أنه قد أخذ في أحشاءه أن يكون على الفقير فحينئذ نشك في فراغ الذمة عند التصدق على غير الفقير ويصير المورد من موارد الشك في الامتثال أو في المحصل فيقال إن الذمة قد اشتغلت في مفهوم التصدق ونحن نحتمل أن التصدق لا يصدق في حد ذاته إلا بأن يكون على الفقير فمن المناسب آنذاك تطبيق قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وفرق هذا عن سابقه هو:- أنه في السابق كنا نقول إن التصدق يصدق على الفقير وغيره ولكن نشك هل أُخذ قيد زائد على مفهوم التصدق وإضافةً له بحيث نكون مكلفين بشيئين هما مفهوم التصدق وأن يكون على الفقير ، فلو فرض أن القضية كانت هكذا فالمورد من موارد البراءة لأنا نشك في تكليف زائد على التصدق ، أما الآن فنحن نفترض أنا مكلفون بشيء واحد وهو التصدق من دون إضافة ولكن نحتمل أن هذا الواحد لا يصدق وقد أخذ في داخله إن يكون على الفقير ، فالشك ليس شكاً في تكليف زائد حتى تجري البراءة بل التكليف واحد وهو بالتصدق ولكن نشك في حصول الامتثال بما إذا تصدقنا على غير الفقير.

وعليه فينبغي التفصيل فيقال:- إذا احتملنا أن كون التصدق على خصوص الفقير قد أخذ كعنصرٍ مستبطنٍ في داخل مفهوم التصدق بحيث لا يكون شيئاً زائداً عليه فالمورد يكون من موارد الاشتغال والشك في الامتثال والمحصل ، أما إذا كنا نحتمله كعنصر زائد على مفهوم التصدق فالمناسب آنذاك إجراء البراءة.

 ومن خلال كل هذا اتضح أن المناسب على ضوء ما ذكرنا هو الاحتياط ، فالا حوط وجوباً أن يكون التصدق على خصوص الفقراء ، وإنما لم نجزم بالحكم باعتبار أن البيانات الثلاثة المتقدمة لم تكن قابلة للاعتماد عليها بنحو الجزم بما في ذلك البيان الثالث - وهو الأصل العملي - فان ما ذكرناه من احتمال أخذ التصدق على الفقير كقيد مستبطن في مفهوم التصدق شيء لا نجزم به بل هو مجرد احتمال فالمصير إلى الاحتياط الوجوبي هو المناسب.

[1] الوسائل 14 164 40 من أبواب الذبح ح15.