جلسة 128

كفارة الصوم

مسألة 1011: إذا علم أنه أتى بما يوجب فساد الصوم، وتردد بين ما يوجب القضاء فقط أو يوجب الكفّارة معه، لم يجب عليه، وإذا علم أنه أفطر أياماً ولم يدر عددها اقتصر في الكفّارة على القدر المعلوم، وإذا شك في أنه أفطر بالمحلل أو المحرم كفاه إحدى الخصال، وإذا شك في أن اليوم الذي أفطره كان من شهر رمضان أو كان من قضائه وقد أفطر قبل الزوال لم تجب عليه الكفارة، وإن كان قد أفطر بعد الزوال كفاه إطعام ستين مسكيناً [1].

تشتمل المسألة المذكورة على نقاط خمس:

النقطة الأُولى: إذا علم المكلف بأنه قد ارتكب ما يوجب قضاء الصوم، ولكنه تردد بين كونه موجباً للقضاء فقط أو موجباً للكفّارة أيضاً كفاه القضاء ولا تجب عليه الكفّارة، والوجه في ذلك واضح باعتبار أن التكليف بالقضاء متيقن ومعلوم بالتفصيل، بينما الكفّارة يشك في ثبوت وجوبها عليه فتجري البراءة عن ذلك، كما في كل مورد دار الأمر فيه بين تعلق التكليف بالأقل أو بالأكثر، فيقال إن التكليف بالأقل متيقن والتكليف بالزائد مشكوك فتجري البراءة عنه.

هذا، ولكن بعض المحشين على (العروة الوثقى) [2] ذهب إلى لزوم الاحتياط، حيث قال ما نصه: الفرض تحقق المعصية في الصور المذكورة ـ ويقصد الصورة الأُولى المذكورة في المتن وغيرها عدا ما يأتي في النقطة الثانية ـ واللازم تحصيل المؤمّن عقلاً، وبصرف إتيان القضاء لا يعلم بحصول المؤمن.

والظاهر أنه قد وقع شيء من المسامحة، إذ قيل: الفرض تحقق المعصية واللازم تحصيل المؤمن، والمناسب أن يقال: الفرض اشتغال الذمة يقيناً واللازم تحصيل المؤمن يقيناً من ذلك الاشتغال اليقيني، وإلاّ فمجرد وقوع المعصية لا يكفي للزوم تحصيل المؤمن بنحو الجزم، وإنما الموجب لذلك هو الاشتغال اليقيني الحاصل بسبب ارتكاب المعصية، وعلى هذا يكون المقصود أن المكلف قد جزم باشتغال ذمته، وبعد الاشتغال اليقيني يلزم تحصيل الفراغ يقيناً، وهو لا يتحقق إلاّ بفعل القضاء والكفّارة معاً، وهذا المقدار كما ترى لا يكفي لإثبات وجوب الاحتياط بفعل القضاء والكفّارة معاً، إذ لقائل أن يقول: إن التكليف بالقضاء جزمي فيلزم التفريغ الجزمي، وأمّا التكليف بالكفّارة فليس جزمياً فلماذا يجب الاحتياط من ناحيته؟، ومن هنا يحتاج القائل المذكور إلى تتمة ليتم ما أفاده، وتلك التتمة هي: أن المقام ليس صغرى لدوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، بل صغرى للدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

والفارق بينهما:

أنه في الأول يفترض وجود تكليفين أحدهما مستقل عن الآخر، تكليف بالأقل وتكليف ثانٍ زائد بالأكثر، ولأجل تعددهما سمّيا بالاستقلاليين، كمن لا يدري أن عليه صلاة قضاء واحدة أو اثنتين، فلو كانت واحدةً فهناك تكليف واحد ولو كانت اثنتين فعليه تكليف آخر بالثانية، ويترتب على هذا التعدد في التكليف مطلب آخر، وهو أن الشخص لو أتى بواحدة وترك الثانية فيكون مطيعاً من جهة هذه الواحدة وبالتالي يقال له: أحسنت، وعاصياً من الجهة الثانية وبالتالي يضرب بالعصى.

وأمّا في الثاني فيفترض أن التكليف واحد سواء كان المطلوب هو الأقل أو هو الأكثر، كما في باب الصلاة فإن أجزاءها سواء كانت تسعة أو كانت عشرة فالتكليف واحد، ولا يوجد تكليف آخر متعلق بالجزء العاشر، ولازم ذلك أن المكلف لو أتى ببعض الأجزاء دون بعض فيكون عاصياً لا غير، ولا يقال له: أحسنت من ناحية الأقل ويضرب من الناحية الثانية، بل يضرب فقط؛ لأن التكليف واحد، وهو متعلق بالأكثر حسب الفرض، فلو أُوتي بالأقل فلا امتثال رأساً.

وقد اتفقت الكلمة في الأقل والأكثر الاستقلاليين على الانحلال وجريان البراءة بلحاظ الزائد، فيقال: الأقل معلوم التكليف تفصيلاً، والزائد مشكوك التكليف فتجري البراءة عنه، وأمّا في الأقل والأكثر الارتباطيين فقد وقع الخلاف، فقيل بالبراءة كما قيل بالاحتياط.

وباتضاح هذا نقول: إن قول القائل المتقدم بلزوم الاحتياط ولزوم الإتيان بالقضاء والكفّارة معاً مبني على كون المقام من موارد الأقل والأكثر الارتباطيين، بأن يدعى أن الواجب لو كان هو القضاء والكفّارة فالأمر واحد، فإنه بأمر واحد قال الإمام ـ عليه السلام ـ: يجب القضاء والكفّارة، ولم يقل ذلك من خلال أمرين.

أمّا إذا كان القائل المذكور لا يبني على ذلك ويدعي أنهما من قبيل الاستقلاليين فلا وجه أبداً لوجوب الاحتياط.

ولكن يرد عليه: أن المقام ليس من قبيل الارتباطيين، فإن الارتكاز المتشرعي قاضٍ بأن من وجب عليه القضاء والكفّارة معاً يكون ممتثلاً من جهة لو أتى بالقضاء لا أنه لا يكون في حقه امتثال رأساً.

ودعوى أن الروايات قد عبّرت بلسان الأمر الواحد ولم تعبر بلسان الأمرين مدفوعة أن هذا لو تم وسلمنا أن تعبير الروايات كذلك، فنقول: إنه من وحدة التعبير لا يمكن أن يستكشف وحدة الوجوب، فحتى لو كان الوجوب متعدداً يصح التعبير عرفاً بالوجوب الواحد وتكون كلمة الوجوب الثانية مقدرة واكتُفي بالعاطف، والتدقيق بهذا الشكل وعلى هذا المنوال تدقيق مرفوض.

النقطة الثانية: إذا علم المكلف أنه أفطر أياماً وتردد بين الأقل والأكثر اكتفى بالأقل ولا يلزم الاحتياط وإن كان ذلك حسناً وراجحاً.

والوجه في ذلك: أن المقام من قبيل الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ولا يحتمل كونه من الارتباطيين، إذ لا يحتمل متشرع أن الآتي بالأقل لا يكون ممتثلاً بقدر الأقل لو كان الواجب هو الأكثر، بل يكون ممتثلاً بقدره وعاصياً بالمقدار الزائد، ومعه يكون الأقل معلوم التكليف فيلزم الإتيان به والزائد مشكوك التكليف فتجري بلحاظه البراءة، وبتعبير آخر الاشتغال اليقيني بلحاظ الأقل، وأمّا بلحاظ الزائد فلا اشتغال يقيني، ومعه فتجري البراءة عنه.

إن قلت: إن الذمة قد اشتغلت بصوم شهر رمضان جزماً، ومعه يلزم تفريغها بنحو الجزم أيضاً ولا يحصل اليقين بالفراغ إلاّ بالإتيان بالأكثر.

قلت: إن التكليف بصوم شهر رمضان قد سقط جزماً بانتهاءه، إذ شهر رمضان لو انقضى فما معنى بقاء الذمة مشتغلة به، وإذا كان هناك تكليف بالقضاء أو الكفّارة فهو تكليف جديد وبأمر جديد وليس عين التكليف السابق، ومعه نشك هل حدث أمر جديد بقضاء الأيام الأكثر أو لا؟، فتوجه الأمر بقضاء الأيام الأقل جزمي، وأمّا حدوثه بلحاظ الأيام الأكثر فمشكوك فتجري البراءة.

وبكلمة أُخرى الاشتغال برمضان وإن كان جزمياً ولكنه سقط جزماً بانتهائه، وحدوث الأمر بالقضاء بلحاظ الزائد مشكوك فتجري البراءة عنه.

هذا وقد يقال: إن المكلف تارة يفترض حصول العلم له بالمقدار ثم بعد ذلك يطرأ الجهل عليه، كما إذا كان قد سجل مقدار الأيام التي فاتته في ورقة ثم تُلفت تلك الورقة وحصل له الشك في المقدار[3]، وفي مثله يجب الاحتياط؛ لأنه قد فرض حصول العلم أولاً وبسبب حصوله اشتغلت الذمة بذلك المقدار المعلوم، فيلزم تفريغها يقيناً من ذلك الذي اشتغلت به يقيناً ولا يحصل الفراغ اليقيني إلاّ بالأكثر، وهذا بخلافه إذا لم يفترض حصول العلم في البداية، فإنه لا يجب الاحتياط ويكتفي بالأقل، وقد نقل الشيخ الأنصاري ـ قدّس سرّه ـ هذا التفصيل في (الرسائل)، وقد تبناه الشيخ النائيني ـ قدس سرّه ـ في حاشيته على (العروة الوثقى)[4].

_________________________

[1] منهاج الصالحين ج1 كتاب الصوم فصل الكفارات ص270، 271.

[2] حواشي العروة الوثقى ج3 ص597 مسألة 10.

[3] يتحقق ذلك عادة في باب العبادة الاستئجارية، حيث يقوم الشخص المستأجر للقيام بالعبادة المطلوبة بتسجيل الفترة المستأجر عليها أو الأيام التي أدّاها من تلك العبادة المستأجر عليها، ثم تُتلف الورقة أو تُفقد ويحصل له الشك فيما استئجر عليه.

[4] حواشي العروة الوثقى ج3 ص797.