36/05/02


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 2 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
قلنا أنّ المسألة المذكورة تتضمن نقطتين:-
النقطة الأولى:- إنّ الأعيان الأربعة المتقدّمة وإن قلنا لا يصحّ بيعها ولكن لا يبعد أنّ لأصحابها حقّ الاختصاص بها، فلو فرض أنّ شخصاً كان يملك خلّاً فانقلب خمراً لا يبعد أنّ له حقّ الاختصاص به فلا يجوز أخذه قهراً عليه، وهكذا بالنسبة إلى الميتة وما شاكل ذلك.
النقطة الثانية:- يمكن أن يقال بجواز بذل العوض في مقابل رفع اليد عن الحقّ المذكور.
وهذه طريقة شرعيّة لنقل هذه الأمور ولكن لا بمعنى أنّ العوض يُجعَل في مقابل حقّ الاختصاص بل في مقابل أن يُسقِط حقّه.
وقد جاءت كلتا النقطتين في المكاسب فقد أشار الشيخ الاعظم(قده)إلى النقطة الأولى بقوله:- ( والظاهر ثبوت حقّ الاختصاص في هذه ... )[1]، كما أشار إلى النقطة الثانية بقوله:- ( والظاهر جواز المصالحة على هذا الحق بلا عوض بناءً على صحّة هذا الصلح بل ومع العوض ).
كما أشار العلامة الحلّي(قده) إليهما حسب ما ذكر الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب وذكر عبارته.
إذن كلتا النقطتين مشار إليهما في كلمات الفقهاء.
والكلام يقع في النقطتين المذكورتين:-
أمّا بالنسبة إلى النقطة الأولى:- فالسؤال يقع في أنّه ما هو المنشأ لثبوت الحقّ المذكور وما هو الدليل عليه ؟
والجواب:-
يظهر من الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[2]:- أنّ المنشأ أحد أمرين إمّا الحيازة فيقال إنّ الشخص إذا حاز كلباً فنفس هذه الحيازة تولّد له حقاً، وإمّا كونه مالاً له سابقاً كأن كان عنده حيوانٌ كالشاة مثلاً فماتت فكونها مالاً له مسبقاً هو السبب لصيرورة هذا الحيوان الميّت أحقّ به من غيره، ونصّ عبارته:- ( والظاهر ثبوت حقّ الاختصاص في هذه الأمور الناشئ إمّا عن الحيازة وإمّا عن كون أصل مالها مالاً للمالك كما لو مات حيوانٌ له أو فسد لحمٌ اشتراه للأكل على وجهٍ خرج عن الماليّة ).
والمهم أن نعرف ما هو منشأ حقّ الاختصاص في النقطة الأولى فظاهر كلام الشيخ الأعظم(قده) هو إمّا الحيازة أو كونه مِلكاً له فيما سبق.
وفيه:- نسأل الشيخ الأعظم ونقول:- أنت حينما ذكرت هذين الطريقين هل تضم إليهما السيرة أو تقطع النظر عنها ؟ فإن ضممت السيرة أجبنا بأنّ السيرة تكفي وحدها أمّا أنّ منشأ هذه السيرة ما هو فهذا ليس بمهمّ بل المهم هو أن تقول إنَّ المنشأ والدليل على ثبوت هذا الحقّ هو انعقاد السيرة على ذلك - أعني مثل سيرة العقلاء الممضاة مثلاً أو سيرة المتشرّعة -، وإذا فرض أنّ مقصوده هو التمسّك بهذين الوجهين بقطع النظر عن السيرة فالسؤال يبقى ولا ينقطع لأنّه قال مادام هذا الحيوان كان ملكاً لي فإذا مات فأنا أحقّ به من غيري فنقول له من أين لك هذا وما هو دليله فإنّ هذا ليس علّة كافية ؟
ولعله لأجل هذا حاول الحاج ميرزا علي الايرواني(قده) في حاشيته على المكاسب[3]أن يثبت الحقيّة بهذا البيان:- وهو أنّه في مورد الحيازة - كمن حاز كلباً - يمكن أن نقول إن المنشأ للحقّ هو عموم ما دلّ على أنّ ( من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم[4]فهو أحق به )، وأما إذا كان هذا ملكاً لي فيما سبق فقال يمكن أن نتمسّك بالاستصحاب ببيان أنّ الحقّ هو علاقة مع الشيء والمشكوك من هذه العلاقة يعدّ مرتبةً من مراتب المتيقّن فيجري الاستصحاب، ونصّ عبارته:- ( أمّا في الحيازة فلعموم دليل من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أولى به وأما فيما كان أصله ملكاً للشخص فلاستصحاب بقاء العلقة فإنّ المورد مما يجري فيه هذا الاستصحاب لمكان أنّ المشكوك يعدّ من مراتب المتيقّن في السابق لا شيئاً خارجاً عنه ).
وتوضيح ما أفاده(قده) في كلامه الثاني:- كأنه يريد أن يقول ما الفرق بين الملك وبين حقّ الاختصاص ؟ فكلاهما يمكن أن نقول هو سلطنة على شيءٍ وعلاقة معه إلّا أنّ العلاقة قد تكون شديدة فيصطلح عليها بالبيع وقد تكون ضعيفةً فيصطلح عليها بحقّ الاختصاص ونحن نجزم بأنّ هذه العلاقة بدرجتها الشديدة قد انتفت بموت الحيوان جزماً ونشكّ في بقاء العلاقة الضعيفة فنستصحب بقاء العلاقة فيثبت بذلك بقاء العلاقة الضعيفة وهو عبارة عن حقّ الاختصاص.
وإذا قلت:- من أين عرفت أنّه يقصد هذا ؟
قلت:- أنا لا أريد أن أقول إنّ هذا هو المقصود من كلامه جزماً لكنّه عبّر بأنّ المشكوك مرتبة من مراتب المتيقّن وعبّر أيضاً بأن نستصحب العلاقة وعليه فسوف تظهر النتيجة ما بيّناه.
وهذا كما ترى ليس تمسّكاً بالسيرة كما أنّه ليس تمسّكاً بما أفاده الشيخ الأعظم(قده).
وفيه:-
أمّا بالنسبة إلى كلامه الأوّل:- فالإشكال عليه واضحٌ فإنّ هذا لا يوجد له مستندٌ صحيحٌ في رواياتنا، بل توجد بعض الأحاديث التي تسرّبت إلينا من المدرسة الأخرى لأنّ الشيخ الطوسي(قده) توجد عنده مراجعات إلى كلماتهم وكذلك العلّامة فصار هذا سبباً لأن تأتي بعض الأحاديث إلى كتبنا وصارت متداولة وأحدها هذا الحديث فهذا الحديث مذكورٌ في سنن البيهقي[5] وقد نقله النوري في المستدرك[6].
إذن الحديث ضعيف السند لا يصحّ التمسّك به.
ولكن نحن رغم ضعف الحديث المذكور سنداً نقبله مضموناً كما قلنا نظير ذلك في ( على اليد ما أخذت حتى تؤدي ) فإنّ هذا الحديث لم يثبت بطريقٍ صحيحٍ أيضاً ولكنّ مضمونه مضمون عقلائيّ مقبول ومادام مضموناً عقلائياً مقبولاً وارتكازاً عقلائياً وسيرة عقلائيّة ولم يردع عن ذلك فيثبت الامضاء، ونفس الشيء نقوله في مقامنا، فلو ذهب شخص إلى المسجد ووضع ملابسه وأخذ يصلّي فلا حقّ للغير في أن ينحّيه وهكذا في جميع الأماكن العامّة، والمدرك لذلك ليس هو هذه الرواية - أي ( من سبق إلى من لم يسبق إليه أحد ) - وإنما المدرك هو السيرة فإنّها جارية على ذلك وهذه السيرة ثابتة مع العقلاء منذ بداية حياتهم العقلائيّة وليست سيرة جديدة فهي ثابتة ومعاصرة لزمن المعصوم ولم يرد ردع عنها فتكون ممضاة.
وقد يسأل سائل ويقول:- إنّ شخصاً وضع التربة مثلاً ثم ذهب ليتوضأ أو جاء شخصٌ آخر وقام بوضع سجادات الصلاة لأصدقائه فهل لهم الحقّ أو لا ؟
والجواب:- إنّ المستند ليس حديث ( من سبق إلى ما لم يسبقه إليه أحد ) فإنّ هذا الاستدلال باطل لأنّ الحديث لم يثبت عندنا، ولكن المستند هو السيرة وهل هي شاملة لهذا المورد أو لا ؟ قد أتردّد من هذا الباب فليس من البعيد أنّها تشمل مثل من ذهب ليشرب الماء أو يأتي بالقرآن أمّا أنّه يذهب إلى السوق لمدّة ساعة أو أكثر مثلاً فلا أقل نشك في شمول السيرة له إن لم نجزم بالعدم.
إذن نحن نقول للشيخ الايرواني إنّ المستند ليس هو حديث من سبق بل هو السيرة، فتمام النكتة هي السيرة وأنت حينما تتكلم الآن فإنك تتكلّم بقطع النظر عنها . إذن ما ذكره في كلامه الأوّل محلّ تأمل.


[3] حاشية المكاسب، علي الايرواني، ج1، ص66.
[4] وفي بعض الروايات توجد كلمة أحد بدل كلمة مسلم.
[5] سنن البيهقي، البيهقي، ج6، ص142.