32/11/06


تحمیل
 في ما يتعلّق برواية عمار بن مروان التي قلنا بتمامية دلالتها على حرمة أخذ الأجرة على القضاء هناك ملاحظتان عليها من حيث السند :
 الأولى : وهي منقولة عن المحقّق العراقي (قده) وحاصلها دعوى سقوط هذه الرواية عن الحجية لإعراض المشهور عنها حيث إن المشهور وإن ذهب إلى عدم الجواز إلا أنه استند في ذلك إلى قاعدة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات كما يشهد لذلك التفصيل بين الواجب العيني والواجب الكفائي فإن من الواضح أن مستنده هو القاعدة وإلا فلو كان مستنده هو الصحيحة فإن الصحيحة مطلقة لا تفرّق بين نوعي الواجب المذكورين فذهاب المشهور إلى التفصيل دليل على أن مستنده في الحكم ليس هو الصحيحة بل هو القاعدة وهذا معناه الإعراض عن هذه الصحيحة وهو ما يوجب سقوطها عن الحجية .
 وأقول : يمكن أن يُلاحظ عليه بأن تحقّق الإعراض في مثل المقام غير واضح لاحتمالات نذكرها تجعلنا نشكّك في صدق إعراض المشهور عن هذه الرواية :
 منها : إن هذه الرواية بالنحو المذكور المشتمل على فقرة الاستدلال أعني (أجور القضاة) - انفرد بنقلها الشيخ الصدوق (قده) ولم ينقلها إلا في بعض كتبه غير الحديثية كما في الخصال ومعاني الأخبار دون الفقيه - مثلاً وهذا يجعلنا نحتمل أن المشهور لم يلتفت إلى هذه الرواية فكيف يتحقّق الإعراض مع أنه فرع أن تكون الرواية بمرأى ومسمع منه ثم لا يطرحها للبحث فيتحقّق حينئذ الإعراض الموجب للسقوط عن الحجية ، وأما عندما توجد رواية قد ذُكرت في مثل الخصال ومعاني الأخبار ولم تُنقل في الكتب الحديثية المتداولة لا الواصلة منها إلينا ولا تلك التي نقل عنها الفقهاء السابقون فهذا يقوّي احتمال أن المشهور لم يلتفت إلى هذه الرواية ممّا يجعلنا نشكّك في صدق إعراضه عنها .
 ومنها : أنه على احتمال أن المشهور كان ملتفتاً إلى هذه الرواية لكنه لم يعمل بها والتزم بالتفصيل بين كون القضاء واجباً عينياً وكونه واجباً كفائياً لأجل عدم وضوح دلالتها عنده فنحن وإن قلنا بتمامية دلالة هذه الرواية إلا أن هناك جمهوراً من الفقهاء لا يرونها دالة على التحريم بل حُملت عندهم على الأجور التي يأخذها القاضي من السلطان الجائر وهو غير محلّ الكلام .. إذاً لعل دلالة الرواية على حرمة القضاء بالمعنى المبحوث عنه في ما نحن فيه ليست واضحة عندهم ولذا لم يعملوا بها فيكون الإعراض من جهة الدلالة لا من جهة ضعف السند ، وأما كون مثل هذا الإعراض [1] مؤثّراً أو غير مؤثّر فهو بحث مطروح في كلماتهم لسنا في صدده الآن .
 ومنها : أن الإعراض عن الرواية هو من جهة شذوذها حيث لم تُدوّن في كتب الأصحاب والرواية الشريفة تقول : (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر) [2] والمقصود بالشهرة هنا الشهرة الروائية أعني شهرة تدوين الرواية ونقلها وهذه الصحيحة ليست مشهورة بهذا المعنى فهي شاذة نادرة لأنه لم يروها إلا الشيخ الصدوق في بعض كتبه غير الحديثية والمشهور لا يرى العمل بالروايات الشاذة .
 ومنها : اكتفاء المشهور بالقاعدة الفقهية حيث لم يجعله يفحص كثيراً عن الأدلة والروايات فاكتفى في ما نحن فيه بالقاعدة التي تنصّ على حرمة أخذ الأجرة على الواجبات وطبّقها في محلّ الكلام والتزم بمضمونها من حرمة أخذ الأجرة على القضاء في المورد .
 فهذه الاحتمالات المتقدمة احتمالات واردة تمنعنا من أن نلتزم بتحقّق صغرى الإعراض في محلّ الكلام فليس واضحاً أن المشهور أعرض عن هذه الرواية في ما نحن فيه حتى تسقط عن الحجية لا سيّما أنها كما ذكرنا - مروية في الخصال ومعاني الأخبار وليس من الواضح أن المشهور كان قد التفت إلى هذه الرواية خصوصاً وأن الشيخ الطوسي (قده) كثيراً ما كان ينقل روايات بتوسّط الشيخ الصدوق (قده) فلو كان ملتفتاً إلى روايته لها لكان قد نقلها كما هو ديدنه .
 نعم .. ذكرها العيّاشي في تفسيره أيضاً إلا أن هذا لا يقدح في ما ذكرناه من عدم اطّلاع المشهور عليها لأن كتاب العيّاشي ليس من الكتب الحديثية أيضاً .
 والاحتمال الأول ممّا تقدّم هو العمدة في التشكيك في تحقّق الإعراض الموجب لسقوط الرواية عن الحجية .
 الملاحظة الثانية : إن هذه الرواية كما ذكرنا ينفرد بروايتها الشيخ الصدوق (قده) في الخصال ومعاني الأخبار وينقلها بالسند المذكور وهو سند معتبر ويشتمل هذا النقل على فقرة الاستدلال أعني قوله (عليه السلام) : (ومنها أجور القضاة) التي استدللنا بها على حرمة أخذ الأجرة على القضاء ، وهناك رواية ينقلها الشيخ الكليني في الكافي (مج5 ص126) والشيخ الطوسي في التهذيب (مج6 ص368) عن عمار بن مروان ويذكران سندهما إليه وهي مشابهة للرواية السابقة في السند وفي المتن إلا أنه ليس فيها فقرة الاستدلال ، نعم .. كل الطرق لهذه الرواية على تقدير كونها رواية واحدة تنتهي إلى الحسن بن محبوب وهو يروي عن عمار بن مروان بواسطة أبي أيوب الخزاز في نقل الشيخ الصدوق ويروي عنه بتوسّط علي بن رئاب في نقلي الكليني والطوسي وهذا معناه بعد فرض استبعاد تعدّد الواقعة لتشابه السند والمتن تقريباً إلا في (أجور القضاة) أن الصادر من المعصوم (عليه السلام) كلام واحد في واقعة واحدة وعمار بن مروان نقل لنا هذه الواقعة ولكن علي بن رئاب نقلها عنه من دون فقرة الاستدلال وأبو أيوب الخزاز نقلها عنه مع فقرة الاستدلال فحينئذ يحصل التعارض بين هذين النقلين - بعدما فرضنا استبعاد تعدّد الواقعة الذي لازمه كون الصادر منه (عليه السلام) كلام واحد إما يكون مشتملاً على فقرة الاستدلال أو يكون خالياً منها ومعنى هذا أن دليل الحجية لا يمكن أن يشمل كلا هذين النقلين بخلاف ما إذا كانت الواقعة متعدّدة فإنه لا ضير في شموله لكليهما .
 وفي الحقيقة أن الأمر يدور بين أن تكون الفقرة المعهودة موجودة واقعاً غاية الأمر أنها سقطت من رواية ابن رئاب وأن تكون غير موجودة واقعاً وإنما زيدت في رواية أبي أيوب الخزاز فثمة احتمالان في المقام يدور الأمر بينهما والأقوائية والترجيح للاحتمال الأول [3] لأن احتمال السقوط أقوى من احتمال الإضافة باعتبار أن مناشئ السقوط تكون متعددة مثل استعجال النُسّاخ في النقل حيث تتخطّى عينُه بعض الكلمات وربما بعض الجُمَل مع استبعاد أن يكون ذلك عن عمد منه لإخلال مثل هذا بالوثاقة المفروضة في الرواية المحكوم بصحتها وأن احتمال الإضافة من غير عمد يحتاج إلى مؤنة أكبر لافتراضه وهذا هو السبب في ترجيح أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة عند دوران الأمر بينهما بالنظر العقلائي .
 وما نحن فيه من هذا القبيل بعد فرض تسليم مقدماته وإلا فقد يُشكّك في وحدة الواقعة بنكتة أن الرواية منقولة عن إمامين فالرواية التي بنقل الخصال هي عن أبي عبد الله (عليه السلام) والتي بنقل الكافي والتهذيب عن أبي جعفر (عليه السلام) وهذا مما يُقوّي احتمال تعدّد الواقعة وحينئذ يكون دليل الحجية شاملاً لكلا النقلين .
 إذا تبيّن هذا فلنعد إلى محلّ الكلام وهو الدليل الذي ذكره صاحب الجواهر (قده) من أن : " القضاء من مناصب السلطان الذي أمره الله تعالى بأن يقول : (لا أسألكم عليه أجراً) وأوجب التأسّي به " فلا بد أن يقع مجّاناً .
 فأقول : الظاهر أن الآية الشريفة أجنبية عن محلّ الكلام فهي تدلّ على أن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يطلب أجراً على تبليغ الرسالة ولنفترض شمولها للقضاء ليكون تطبيقها حينئذ أنه (صلى الله عليه وآله) لا يطلب أجراً على القضاء ولكن أيّ علاقة لهذا بحرمة أخذه للأجرة لو أُعطيت له فإن غاية ما تدل عليه أنه ليس من شأنه أن يطلب الأجر ولا يناسبه ذلك إلا أن هذا لا يلازم عدم جواز أخذه الأجرة لو أُعطيت له من غير سبق طلب منه .
 ولو سلّمنا بدلالة الآية الشريفة على حرمة أخذ الأُجرة إلا أن الظاهر منها هو حرمة أخذ الأَجر على تبليغ الرسالة وشمولُها للقضاء محلُّ منع اللهم إلا بعنايات بعيدة جداً من قبيل أن يقال إن حرمة أخذ الأُجرة على تبليغ الرسالة إنما هو باعتبار كون الرسالة من المناصب الإلهية وحيث إن القضاء من المناصب الإلهية أيضاً فكما يحرم أخذ الأُجرة على تبليغ الرسالة يحرم أخذ الأُجرة أيضاً على القضاء لاشتراكهما في ملاك الحكم إلا أن دفع هذا واضح وذلك لأنّا حتى لو سلّمنا هذه الاستفادة إلا أن احتمال الفرق بين أنواع المناصب الإلهية يبقى محفوظاً إذ ثمة فرق كبير بين تبليغ الرسالة والقضاء فيُحتمل اختصاص الحرمة على تقدير دلالة الآية عليها - بتبليغ الرسالة لكونه منصباً إلهياً في غاية الأهمية ولا يمكن تعدية هذا الحكم لكل منصب إلهي ليقال بحرمة أخذ الأُجرة عليه .


[1] أي من جهة الدلالة .
[2] عوالي اللئالي مج4 ص133 .
[3] وهو احتمال وجود الفقرة واقعاً وسقوطها من رواية ابن رئاب .