33/02/01


تحمیل
  (بحث يوم الاثنين 1 صفر الخير 1433 ه 49)
 هاهنا أمران :
 الأول :

ذكرنا في بحث سابق أن محمد بن أحمد بن يحيى لا يروي عن موسى بن عمران وإنما يروي عن موسى بن عمر وكان المستند في ذلك ما ذكره السيد الخوئي (قده) في الطبقات والظاهر أن مقصوده أنه لا يروي عنه [1] في خصوص الكتب الأربعة .. ومن هنا قلنا إن الرواية فيها نسختان : (موسى بن عمر) و(موسى بن عمران) ونفينا أن يكون المروي عنه هو الثاني باعتبار أن محمد بن أحمد بن يحيى لا يروي عنه وإنما يروي عن موسى بن عمر .. ولكن وجدنا له بعد الفحص روايات عنه مذكورة في ثواب الأعمال وكامل الزيارات ومعاني الأخبار - وربما يجد المتتبّع غيرها أيضاً - فعلى هذا فمن الممكن أن يكون قد روى عنه في الرواية التي كانت موضع البحث [2]
  [3] ولا موجب لحصر الأمر في موسى بن عمر بل الأمر دائر بينهما فينبغي أن يؤخذ هذا بنظر الاعتبار في الرواية .
 الأمر الثاني :

إنه بناءً على النتيجة التي انتهينا إليها وهي عدم تمامية سند رواية الأصبغ بن نباتة فلا بد أن نرجع إلى ما ذكرناه في بحث الهدية على القضاء التي ذكرنا هذه الرواية فيه وقلنا إن الرواية صحيحة بناءً على أن المراد هو موسى بن عمر وقد وثّقناه لكونه من رجال نوادر الحكمة ولم يستثنه ابن الوليد والآن بعد أن تبيّن احتمال أن يكون المراد هو موسى بن عمران لوجود روايات لمحمد بن أحمد بن يحيى عنه وإمكان أن يكون هو المروي عنه في هذه الرواية وهو ممن لم يوثّق ولكنه من رجال تفسير القمي فإن لم نبن على ما بنى عليه السيد الخوئي (قده) من اعتبار وثاقتهم فتسقط الرواية عن الاعتبار من جهته وكذا من جهة ابن سنان لتبيّن كونه محمد بن سنان الذي لم يثبت توثيقه فينبغي تصحيح ما ذُكر هناك من القول بصحة الرواية سنداً إلى ما انتهينا إليه هاهنا من عدم اعتبارها سنداً وتعديل ذلك في ضوء هذه النتيجة .
 ثم إنه (رض) قال في المسألة الثامنة :
 " كما أن للحاكم أن يحكم بين المتخاصمين بالبينة وبالإقرار وباليمين ، كذلك له أن يحكم بينهما بعلمه ولا فرق في ذلك بين حق الله وحق الناس ، نعم لا يجوز إقامة الحدّ قبل مطالبة صاحب الحقّ وإن كان قد علم الحاكم بموجبِه ، على ما يأتي " .
 البحث في هذه المسألة يقع في أن القاضي هل له أن يستند إلى علمه الخاص في الحكم والقضاء بلا حاجة إلى بيّنة أو يمين ونحوهما من مثبتات باب القضاء ؟
 أقوال في المسألة :
 الأول :

ما هو المشهور والمعروف من جواز ذلك مطلقاً بل ادُّعي عليه الإجماع كما عن الانتصار [4] والخلاف [5] والغنية [6] وهو ظاهر السرائر [7] .
 وممن ذهب إلى هذا القول سوى من ذكرنا أبو الصلاح الحلبي في الكافي وابن البرّاج في المهذّب والمحقق في الشرايع والعلامة في المختلف والشهيدان وغيرهم من علمائنا الأعلام (رض) .
 الثاني :

التفصيل بين حق الله وحق الناس فيجوز في الثاني دون الأول .
 وممن ذهب إليه الشيخ (قده) في المبسوط والنهاية وابن حمزة في الوسيلة .
 الثالث :



ما نُسب إلى ابن الجنيد من عدم الجواز مطلقاً .
 الرابع :

ما نُسب إلى ابن الجنيد أيضاً - كما في الانتصار والمسالك - من التفصيل بين حق الله وحق الناس فيجوز في الأول دون الثاني عكس القول الثاني .
 وأقول : ربما يُتوهّم عدم الحاجة إلى الاستدلال في المقام بدعوى أن العلم لما كان حجة وكانت حجيته ذاتية فلا يمكن الردع عنه ولا النهي عن العمل به فلا نحتاج حينئذ إلى التماس دليل لجواز الاعتماد عليه فلذا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه مطلقاً .
 ولكنه مندفع وذلك لأن العلم في المسألة المبحوث عنها وقع موضوعاً للحكم - كسائر الموضوعات الشرعية الأخرى حيث يقال : (علم القاضي مستند للحكم والقضاء) فيدّعي بعض كونه كذلك مطلقاً ويدّعي آخرون كونه كذلك في الجملة فنحتاج حينئذ إلى إثبات هذه القضية والاستدلال عليها لنصل إلى الحقّ من خلال الدليل .
 فظهر بما سبق أن كون العلم حجة وكون حجيته ذاتية فلا يحتاج إلى الاستدلال إنما هو في العلم الطريقي وما يكون العلم كاشفاً عنه ومحرزاً له حيث لا يمكن الردع عنه ولا النهي عن العمل به ، وأما في ما نحن فيه من أخذ العلم موضوعاً للحكم الشرعي فهو بحاجة إلى إثبات وبرهان للتصديق بموضوعيته له ليترتب عليه بالنتيجة الحكم الشرعي المأخوذ في قضيته .
 وبعبارة أخرى : إن وقوع العلم طرفاً في قضية حُمل عليه فيها الحكم الشرعي يعني أخذه موضوعاً فيها فلا يكون طريقاً حينئذ فيكون حاله حال أيّ موضوع لحكم شرعي في الحاجة إلى إقامة الدليل عليه أو الدليل على عدمه .
 ومن هنا يظهر أنه لا بد من إقامة الدليل على موضوعية العلم في قضيتنا سواء لمن قال بجواز القضاء استناداً إلى علم القاضي أو لمن قال بعدم الجواز فعلى كلا التقديرين لا بد من إثبات ذلك .. ولذا ينساق البحث إلى استعراض ما استُدلّ به على الجواز وما استُدلّ به على عدم الجواز :
 أما ما استُدلّ به على الجواز فعدّة أدلة - وقد أشار إليها الشيخ صاحب الجواهر (قده) [8] - :
 الأول :

الآيات القرآنية التي تحدّثت عن الحكم بالحقّ والعدل والقسط كقوله تعالى : " يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحقّ " [9] ، وقوله تعالى : " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " [10] ، وقوله تعالى : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " [11] ، وغيرها من الآيات التي يُستفاد منها لزوم الحكم بالحقّ والعدل والقسط .
 وتقريب الاستدلال بها : أن موضوع جواز الحكم والقضاء حسب ما يُفهم من هذه الآيات الشريفة هو عبارة عن الحقّ والقسط والعدل فإذا علم القاضي بهذه العناوين فحينئذ يكون قد علم وقطع بموضوع الحكم الشرعي - وهو جواز القضاء ، ولا إشكال في كون هذا القطع قطعاً طريقياً لا موضوعياً فهو من قبيل القطع بالخمرية في قضية : (الخمر حرام) حيث إنه يؤدي إلى القطع بالحكم وهو الحرمة كما لا إشكال في أن هذا القطع الطريقي حجة بذاته ولا يمكن الردع عنه ولا النهي عن العمل به ولا معنى لسلب الحجية عنه فالقاضي عندما يعلم بالحق فمعناه أنه قد انكشف له الحق ومفاد الآية الشريفة أن عليه أن يقضي بالحق فيكون القطع بالحق مستلزماً للقطع بجواز القضاء والحكم ، نعم .. لو قلنا إن موضوع الحكم وهو جواز القضاء - هي البيّنات والأيمان والشهادات فحينئذ نفتقر إلى دليل لإثبات أن العلم يقوم مقام البيّنة في كونه موضوعاً لجواز القضاء لما تقدّم من أن موضوعية الموضوع بحاجة إلى دليل ولا يكفي فيها أن يكون العلم حجة بذاته فإن ذلك لا ينفع في ما لو أُريد التصديق بكونه موضوعاً لحكم شرعي بل يحتاج إلى إثبات أن الشارع المقدّس جعله كذلك [12] ، وكذا لا يمكن تنزيله منزلة ما هو موضوع للحكم إلا بدليل أيضاً فعندما يكون موضوع الحكم بجواز القضاء هو البيّنة - مثلاً فهنا لا يمكن تنزيل علم القاضي منزلة البيّنة إلا بدليل لاحتمال أن يكون للبيّنة خصوصية في أخذها موضوعاً للحكم الشرعي ومن الواضح أن علم القاضي وقطعه يكون حينئذ قطعاً موضوعياً فيفتقر إلى الدليل المثبت لجواز التنزيل .
 ولكن تقريب الاستدلال بالآيات الشريفة مبني كما عرفت - على أن الظاهر منها أن موضوع جواز الحكم والقضاء هو العدل والحق والقسط الثابت واقعاً وفي نفس الأمر فيكون علم القاضي طريقاً إلى إحراز صغريات هذا الموضوع فيترتّب الحكم الشرعي حينئذ قهراً فإذا علم القاضي بالحقّ في قضية معيّنة كالسرقة - مثلاً فعلم بأن هذا الشخص هو السارق فيترتّب قهراً جواز أن يقضي عليه بما يستحقّه وفق الشرع - وهذا على حدّ إحراز المكلّف بأن هذا خمر فيترتّب قهراً حينئذ الحكم عليه بحرمة شربه - فبمقتضى هذه الآيات الشريفة يثبت جواز أن يستند القاضي في حكمه إلى علمه.
 والحاصل أن الاستدلال بالآيات الشريفة مضافاً إلى بعض الروايات التي بنفس المضمون - مبني على أنه يُستظهر منها أن المراد بالحق - وغيره من العناوين المذكورة في سائر الآيات أو الروايات كالقسط والعدل - هو الحق الثابت في الواقع ونفس الأمر وحينئذ يكون القطع طريقاً إليه - على حدّ القطع بالخمرية الذي يكون طريقاً إلى إحراز الواقع ، وهذا القطع حجيته ذاتية لا الحق الثابت بملاحظة موازين خاصة وعند جماعة معينة فإن هذا خلاف ظاهر الآيات الشريفة فالمراد بقوله تعالى : (أن تحكموا بالعدل) هو أن تحكموا بالعدل الواقعي فإذا قطع بأن هذا عدل فيكون هذا القطع قطعاً طريقياً يستلزم القطع بالحكم وجواز القضاء على طبقه .
 وقد اعترض المحقق العراقي (قده) بما حاصله أن كون موضوع جواز القضاء هو الحق واقعاً وفي نفس الأمر لا الحق بحسب ما تؤدي إليه موازين الإثبات القضائي يتعارض مع ما ورد في الرواية المعروفة المشهورة التي تقسّم القضاة إلى أربعة أقسام واحد منهم في الجنة وثلاثة في النار من جملتهم رجل قضى بالحق وهو لا يعلم [13] فإن الرواية تنصّ على أنه قضى بالحق مطلقاً [14] فبأي سبب يستوجب دخول النار والحال أن قضاءه جائز تكليفاً وصحيح ونافذ وضعاً فحكم الإمام (عليه السلام) بدخول النار لحكمه بالحق وهو لا يعلم يُنبئ إلى أنه لا يكفي في جواز القضاء تكليفاً وفي صحة القضاء وضعاً أن يحكم الإنسان بالحق والواقع بل لا بد أن يكون حكمه بالحق وفق موازين باب القضاء ولهذا فإن من يحكم بالحق وهو لا يعلم يكون في النار لكونه لم يسلك طريق الموازين المنصوبة في باب القضاء وإن فُرض أنه وصل إلى الحق وحكم به من باب الاتّفاق والمصادفة فيكون هذا مؤشّراً وقرينة واضحة على أنه حتى لو سلّمنا ظهور الآيات الشريفة في ما ادُّعي من جواز الحكم بالحق الثابت واقعاً وفي نفس الأمر ولكن لا بد من التصرّف في هذا الظاهر وحمل الآيات الشريفة على أن المقصود بالحق فيها هو الحق بحسب الموازين المقررة في باب القضاء وهذا يبرّر لنا الحكم على الرجل الذي قضى بالحق وهو لا يعلم بكونه في النار .
 فيتحصّل أنه ليس المطلوب أن يقضي الشخص بالحق فحسب وإنما المطلوب أن يقضي بالحق وفق الموازين المقرّرة في باب القضاء .. وسيأتي النظر في هذا الاعتراض وتكملة سرد ما استُدلّ به على جواز أن يحكم القاضي بعلمه إن شاء الله تعالى .
 


[1] أي عن موسى بن عمران .
[2] وهي رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :
[3] " قال : أيّما والٍ احتجب من حوائج الناس ... " الوسائل مج17 ص94 الباب الخامس من أبواب ما يُكتسب به الحديث العاشر .
[4] الانتصار للسيد المرتضى ص486 .
[5] الخلاف للشيخ الطوسي مج6 ص242 .
[6] الغنية للسيد ابن زهرة ص436 .
[7] السرائر مج2 ص179 .
[8] جواهر الكلام مج40 ص86 .
[9] ص / 26 . .
[10] النساء / 58 .
[11] المائدة / 42 .
[12] أي موضوعاً للحكم ، نعم كون العلم حجة بذاته ينفع في إحراز صغريات موضوع الحكم بعد التصديق بموضوعيته الذي يترتّب على إثباته بالدليل ، ولا ينفع في إحراز نفس موضوعية الموضوع أي لا ينفع في إحراز كون الخمر (مثلاً) موضوع للحكم بالحرمة وإنما ينفع في إحراز كون هذا السائل خمراً - .
[13] في باب أصناف القضاة من الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " قال : القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة الكافي مج7 ص407 .
[14] أي ولو من باب مصادفة حكمه للحق الواقعي .